نص وحوار

نص وحوار مع القاص حامد فاضل ونصه "القناع" / ميادة ابو شنب

mayada aboshanab2hamed-fadilالمثقف تستضيف، ضمن برنامج نص وحوار، القاص القدير حامد فاضل لتحاوره حول نصه:"القناع"، فأهلاً ومرحباً به.

 


 

حامد فاضل قاص مبدع له حضور دائم في صحيفة المثقف، صدر له:

1- حكايات بيدبا ــ بغداد 1994

2- ما ترويه الشمس ما يرويه القمر ــ بغداد 2004

3- المفعاة ـ دمشق 2010

4- ثقافة الأمكنة ــ مرائي الصحراء المسفوحة ـ دمشق 2012

 

الجوائز

1- جائزة نادي الجمهورية / جريدة الجمهورية عن قصة للشاي طعم آخر / بغداد 1993

2- جائزة اتحاد الأدباء العراقيين عن قصة المظلة / بغداد 1994

3- جائزة القصاصين الشباب عن قصة الجسر الموصل 1994

4- جائزة القصاصين الشباب عن قصة النافورة / بابل 1995

5- جائزة تموز للقصة القصيرة / عن قصة بصوة أرض الجن / بغداد 1995

6-جائزة نادي الجمهورية/ جريدة الجمهورية في دورتها الثالثة عن قصة بئر الوجاجة / بغداد 1995

7- جائزة أفضل كاتب / استفتاء جريدة الوركاء / السماوة 1995

8- جائزة أفضل كاتب / استفتاء جريدة الوركاء / السماوة 2006

9- الجائزة الثالثة لمهرجان المسرح العمالي الأول عن مسرحية اهتمامات عربية /بغداد 1998

10- جائزة وزارة التربية النشاط المدرسي عن مسرحية الحرب / بغداد 1982

11- جائزة وزارة التربية النشاط المدرسي عن أوبريت حكايا لنساء رائعات / بغداد 1992

12- الجائزة الثانية وزارة التربية النشاط المدرسي عن أوبريت نمور الهوية/ بغداد1993

13- جائزة وزارة التربية للأدباء من أعضاء الهيئات التدريسية عن قصة النافذة / بغداد 2007

14- جائزة وزارة التربية للأدباء من أعضاء الهيئات التدريسية عن قصة المكتبة/ بغداد 2009

15- جائزة الإبداع العراقي وزارة الثقافة العراقية عن مجموعة ما ترويه الشمس ما يرويه القمر/ بغداد 2010 – 2011

إضافة الى المشاركة في معظم الملتقيات والمهرجانات والمؤتمرات الأدبية / والتكريم من عدد من الاتحادات والجامعات والمنتديات الأدبية

 

ميادة ابو شنب: القاص حامد فاضل بعد أن قرأت قصتك "القناع" وجدت فيها محاولة تقمص الجنون للفوز بحريّة التعبير وممارسة الاحتجاج دون الخوف من أي عقاب، في ظل الأنظمة التعسفية، ما دفعني إلى إختيارها لباب نص وحوار في المثقف ومحاورتها من خلال بعض الأسئلة تاركين الفرصة للقراء الكرام لطرح المزيد منها وإغناء الحوار بمداخلاتهم.

أهلاً وسهلاً بالقاص حامد فاضل في المثقف، في باب نص وحوار.

 

حامد فاضل: أهلاً وسهلاً بحضرتك، وشكري الجزيل لكل العاملين في صحيفة المثقف الصرح الثقافي التنويري

 

س1: ميادة ابو شنب: يتوحّد الكاتب بالراوي الداخلي، فيصبح الضمير (أنا) هو الأداة المركزية في السرد والراوي هو الشخصية المحورية.

يبدأ الراوي قصته بزخات من التساؤلات، تقدّم للقارئ أنطباعاته النفسية التي تنمّ عن حيرته وغرقه في بحر من الندم على فعل أقبل عليه دون تفكير بعواقبه، ويبدو أنها كانت وخيمة.

مقدمة فيها من الذكاء ما يملأ ذهن القارئ تشويقاً لاكتشاف الحدث المركزي.

هل استوفى المونولوج الداخلي المباشر، كأحد التقنيات الفنيّة لتيار الوعي، تقديم المحتوى النفسي لشخصية الراوي، كما نشدت؟

 

ج1: حامد فاضل: المسرح هو المكان الحقيقي الذي انطلق منه المنولوج، حيث يتيح المنولوج للممثل إظهار الامتلاء الداخلي للشخصية المُمَثلة من خلال مخاطبتها لنفسها.. وفي قصة القناع Mask لجأت الى العرض كي أتمكن من نقل أفكار الشخصية مما استدعى القطيعة بين كلام الراوي وكلام الشخصية الذي حصل قبل كلام الراوي فهو كلام مضمن في كلام ، إذن هو منولوج عرض لا منولوج سرد مباشر، فهو خطاب لوم وعتاب توجهه النفس الى ذاتها . ولقد قصدت من ذلك إظهار أفكار الشخصية عن طريق الاسترسال المنولوجي التركيبي بما يتيح للقارىء شغف الاسترسال في القراءة للاقتراب من الشخصية وفهم سيكولوجيتها للوصول الى الأثر الواقعي للحكاية وهو الذي نشدته من القصة.

 

س2: ميادة أبو شنب: "ولا أدري أي قدر مجنون ذلك الذي شدني اليهم بحبل من مسد، جعلني أتابع حركاتهم، وأحفظ كل ما يتفوهون به من كلمات واختزن كل ذلك في قبو الذاكرة، حتى تكون عندي أحتياطي رهيب من الجنون".

إن الفصام هو مرض نفسي. يفقد المريض إتصاله بالواقع ويجعله يعيش في الأوهام.

تتمحور القصة حول "الفصام" لكن ليس بمعناه المرضي، إنما تعدد الشخصيات التي يتقمصها الانسان حسب البيئة المحيطة به.

الراوي، مثلاً تتقاسم ذهنه شخصيتان متناقضتان. مخيال شخصية المثقف الواسع ومطاردته لأسرار الجنون، فضلاً عن أن تشابه شكله مع المجنون "أبو اللوز" جعل الجنون يئز في رأسه.

هل تلمّح الى حقيقة ان شخصية المجنون تسكن المثقف في المجتمع المنغلق؟

 

ج2: حامد فاضل: من المعروف والمؤكد أن المثقف غريب في المجتمع المتخلف والمنغلق.. نعم يستطيع المثقف التكيف مع المجتمع المتخلف ثم يعمل على تغييره، وتلك هي رسالته، ولكنه يصطدم بمصدات سلفية المجتمع المنغلق الذي لا يجنح الى التغيير لأنه يعيش ضمن إطار الماضي، فهو إذن لا يدرك أن الحياة حالة متجددة تستبدل عالماً قديماٌ بعالم جديد.. بينما يستشرف المثقف أثر الواقع Real Effect ضمن تلك التفاصيل الجزئية التي تأتي ضمن سياق السرد الوصفي وهو المفهوم الذي أكده بارت Barthe . ولأن المثقف يعيش الحاضر مفكراً للمستقبل، إذن لا يمكن أن يحل الانسجام بينه وبين الواقع المنغلق ، وبالتالي سيكون عليه العيش ضمن واقع بديل يخلقه لنفسه، وقد تنتج عن هذه القطيعة بين المثقف والمجتمع المنغلق حالة فصام وهناك شواهد كثيرة على مثقفين مرضى أو أنصاف مرضى بسبب عدم الانسجام مع مجتمعاتهم.

 

س3: ميادة أبو شنب: "أحسست بحسيس النار وهو يلفح اذني بزفيره: (لو حلقت شاربك وأستبدلت ببدلتك الدشداشة وتخلصت من حذائك وربطة عنقك، فأقسم أن لاأحد يستطيع أن يميز بينكما)"

لِمَ لمْ يكتف الراوي بممارسة "إستفراغ الخيال المجنون" لتخفيف عبء عن كاهله؟ لماذا اعتبر الفكرة الساذجة لصاحب المقهى الأمّي دعوة إلى الحرية؟

 

ج3: حامد فاضل: الحرية بالنسبة لصاحب المقهى وهو الانسان البسيط حالة فطرية، بينما تسمو الحرية على اكتسابها الفطري بالنسبة للإنسان المثقف.. صاحب المقهى يعرف جيدا ولع الراوي واستمتاعه بمتابعة المجنون (أبو اللوز) ولقد عبر عن ذلك ضمن مساحة تفكيره وهو يشير الى الشبه بين الراوي والمجنون. بينما نظر الراوي المثقف الى ذلك كنعمة أنعمها الخالق عليه كي يتخلص من المساءلة باكتسابه صفة الجنون.. في إحدى قصائده يقول الشاعر شاكر السماوي وهو يحسد المجنون لتخلصه من الخوف والخجل:

(هنيالك ابهذا العمر تكضي حياتك مجنون

لا عرفت طعم المستحه ولا علكت سبع عيون)

الجنون إذن مبرر لقول ما لا يمكن أن يقال جهراً في ظل نظام تعسفي يقمع الحريات كافة، وهو المَرْكَبْ الذي خيل للشخصية الإبحار فيه بمأمن من العاصفة، لكن الواقع كان له منطق آخر كما تبين لنا في نصاعة نهاية القصة

 

س4: ميادة ابو شنب: "وفي الخربة سلمته علبة السجائر وبضع أوراق من النقود الزرق والخضر، ثم أخبرته بفكرتي الرعناء .. فسخر منها"

هنا تبرق فكرة بسيطة للفوز بحريّة الاختيار في إعتناق أو تبنّي أفكار لا يتقبّلها الآخرون. وربما ندفع مقابلها ثمناً معنوياً باهظاً.

هل تعتقد ان "أبو اللوز" فهم فكرة الراوي وسخر منها؟

أم أنه أدرك أن المقايضة ليست عادلة؟ فهل من المنطق ان يعطيه علبة سجائر وبضع أوراق مقابل حصوله على حرية بلا حدود؟

 

ج4: حامد فاضل: نهاية القصة، تجيب على هذا المقتطف من المنولوج السردي الخاص بالراوي، وسؤالك هذا يحتم عليَّ ذكر الحكاية التي استند السرد المنولوجي على خطابها الحكائي Diegetic Discourse حيث ينقل الراوي طبقاً لمفهوم جنيت Genette لهذا الخطاب أحداثا ضمن زمكانية معينة لعالم متخيل.. فهناك أولاً الحكاية التي استدعت التخيل والشخصية والراوي والحدث لإنتاج قصة فنية .. روى لي صديق: (أن حمالاً أعرجاً غريباً ظهر فجأة في سوق السماوة بعد الانتفاضة الشعبانية ضد النظام السابق. واعتاد أحد تجار الطحين أن يراه واقفاً بعربته ذات العجلتين أمام محله طوال النهار .. وحدث أن ذهب التاجر هذا لمراجعة مديرية المخابرات في بغداد لشأن يخصه، وبينما هو جالس في الاستعلامات فوجئ بدخول الحمال الأعرج الذي لم يكن أعرجاً في ذلك اليوم، بل كان يسير بخيلاء وهو يرتدي بدلة أنيقة ، وقد قفز موظف الاستعلامات للترحب به منادياً اياه (سيدي) وقبل أن يدلف الحمال الذي لم يكن حمالاً في الممر المؤدي الى داخل المديرية، التقت عيناه بعيني تاجر الطحين.. حين عاد التاجر الى السماوة وجد ذلك الحمال ما يزال يزاول عمله في السوق. ثم رأه يقبل نحوه وهو يعرج، حتى إذا صار قريباً منه همس في أذنه: لو تحدثت بكلمة واحدة عما رأيت فاقرأ على نفسك السلام) هذه هي الحكاية التي استند اليها الخطاب القصصي Narrative Discourse

 

س5: ميادة ابو شنب: "دروب البلدة المفروشة بالوحل، والبرك، والضفادع ..... / كان طفلا صغيرا يتغوط امام باب دارهم وقد التصقت بضع ذبابات بالمخاط السائل من أنفه ....... / غمست قدمي في مجرى الماء الأسن "

برزت في قصتك حالة البؤس والتخلّف في تلك البلدة.

فهل كان إختيارك للاسم عفو خاطر أم تعبيراً عن حالة التناقض بين إسم "أبو اللوز" ومشاهد البلدة المتخلّفة؟

 

ج5: حامد فاضل: نعم سيدتي، تأويلك لاسم "أبو اللوز" صحيح، وكذلك ما تفضلت به في سؤالك بما يخص حالة البؤس والتخلف في البلدة.

 

س6: ميادة ابو شنب: في مجتمعٍ مقموعٍ، بدا المجنون هو الوحيد القادر على الاحتجاج و تحدّي السلطة .. لكن الاحتجاج ينتهي في المشهد الأخير، حيثُ يتسمّر المثقّف المجنون، أو المتصنّع الجنون، أمام مأمور الشرطة، و هو لا يحار جواباً!

المشهد الأخير يوحي بأكثر منْ قراءة .. عبث الاحتجاج، و عبث الجنون في مجتمعٍ كهذا .. المجنونُ يجلسُ عاقلاً إلى مأمور الشرطة، والمثقّف يبدو ببابهِ مجنوناً لا يستطيعُ إكمال دورة الجنون ..

هل أردتَ القول باستحالة أيّ احتجاجٍ أو محاولة للتغيير في مجتمعٍ مضطهد, صادرت منه الانظمة حرية التعبير؟ لان السلطة تعمل على تدجين كلّ شيء حتّى الجنون؟

 

ج6: حامد فاضل: لقد اقتربت كثيراً من أفكاري في قراءتك للقصة، كأنك كنت معي حين فكرت بالنهاية، كيف يكون الاحتجاج ممكناً، وقد سَخَّرَ النظام حتى الجنون المزيف لخدمته، ولهذا سَخِرَ " أبو اللوز" في الخربة من فكرة الراوي الذي اعتقد أن قناع الجنون سيمنحه حق السخرية من أزلام السلطة.

 

س7: ميادة ابو شنب: نعود الى البداية وهي العنوان. حاول الراوي كشف حقيقة الاشخاص الذين احتك بهم وإزالة أقنعتهم. هل نجح في تحقيق هذا الهدف؟ وهل "أبو اللوز" واحد من أصحاب الأقنعة؟

 

ج7: حامد فاضل: "أبو اللوز" هو واحد من رجال السلطة رجل مخابرات متستر بقناع الجنون.

 

ميادة أبوشنب: شكراً لك مجدداً القاص حامد فاضل وشكراً للحوار الممتع، والآن نترك الباب مفتوحا لمداخلات السيدات والسادة لطرح المزيد من الاسئلة لاثراء الحوار أكثر.

 

خاص بالمثقف

ميادة أبوشنب

صحيفة المثقف / نص وحوار

5 – 9 – 2012

القناع / حامد فاضل

 

أهي لحظة نحس، أم غباء، أم لا مبالاة، تلك اللحظة التي أوصلتني إلى هذه الحال .

وأنا الرجل الذي تعرفه البلدة كواحد من أبنائها العقلاء .. أهي حالة فصام، أم خواء، أم فضول . تلك الحالة التي داهمتني مداهمة رياح خريفية . فصيرتني مثل قرد خلف القضبان . بلا غابة أو غصن حتى يخفي بين أوراقه لون مؤخرته المسلوخة. أكانت الفكرة من صنع القدر؟ أم مني؟ أم من صاحب المقهى الذي ألقى بذرتها في تربة رأسي الخصبة فاهتزت، وربت، وكان حصادها وبالا عليّ جعلني أغض الطرف خجلاً من نظرات الأهل والأصدقاء ..؟ أهي مشيئة الله، أم توارد في أفكار الطبيعة؟ أم هي تلك الجينات، والهرمونات التي تتحكم في تكوين خلقتنا وبناء أجسامنا؟ جعلت ذلك المجنون يشبهني تماما" كأننا نزلنا سوية من رحم واحد ..كم من المجانين في بلدتنا سواء من أبنائها الذين تلدهم كلما تناسلت النوائب، أو أولئك الذين تلفظهم في محطتها قطارات الليل والنهار الصاعدة شمالاً أو النازلة جنوباً، أو من الذين تنساهم في كراجاتها سيارات السفر الوافدة والمغادرة. ولا أدري أي قدر مجنون ذلك الذي شدني اليهم بحبل من مسد، جعلني أتابع حركاتهم، وأحفظ كل ما يتفوهون به من كلمات واختزن كل ذلك في قبو الذاكرة، حتى تكون عندي أحتياطي رهيب من الجنون .. أستطيع أن أكون بواسطته لو أستغللته استغلالاً حقيقياً، أعظم مجنون في البلدة. كنت أنقش أسماءهم وأرسم سيماءهم على جدران المخيلة، لذا فأنا أستطيع أستحضار أي منهم بعملية بسيطة أسميتها: أستفراغ الخيال المجنون، فلا يخلو مجلس أنس أحضره من أحد المجانين الذين أستحضرهم نزولاً عند رغبة الأصدقاء الذين أعترفوا في أكثر من مناسبة بالقابلية التي امتلكها في تقليد المجانين، وبموهبتي في تمثيل دور المجنون .. وقد لاحظت من خلال متابعتي الطويلة للمجانين، أن لكل مجنون حركاته الخاصة، وقاموسه الخاص، فقد يكتفي أحدهم بحركة واحدة، أوكلمة واحدة يظل يرددها طوال حفنة السنين التي تستهلكه في الحياة الدنيا، مثل (صبحي بامية)الذي يرافق الشمس منذ تمزيقها لشرنقة الغبش، يدور على الدكاكين والمقاهي، صارخاً: (بامية .. بامية) أو (عطوي سيجارة) الذي ما أن يرى سيجارة بين أصابع رجل من السابلة حتى يلاحقه كظله: (سيجارة عمي .. سيجارة) بينما يلجأ أخرون الى القاء خطب طويلة لايفهم منها شيء برغم أنهم يلقونها بالعربية الفصحى مثل الأستاذ (هاشم) أما (حميد الرطان) فأنه يتكلم بلغة لا شبيه لها في جميع لغات العالم الحية والميتة .. ولا يكف (صالح العاكف)عن النفخ في صفارته والأشارة بيده الى مكان حدوث الخطأ في ملعبه الوهمي .. غير أن (أبو اللوز)* المجنون الجديد الذي قذفت به العاصفة في ليلة من ليالي الثريا الهوجاء، حيث ظل الناس يستمعون طوال الليل إلى عزف (الحالوب)* الصاخب فوق سطوح المنازل، ويرون بعيون أتعبها بطء أنزلاق البلل فوق زجاج النوافذ، مسيل العرق الناضح من أجساد الغيوم السود وهي تؤدي رقصتها الجنونية مطلقة صرخاتها الهستيرية المصحوبة بزفيرها الناري كلما احتكت اجساد بعضها ببعض، حتى اذا نقر طائر الصباح ابواب البلدة وخرج كل ذي حياة لمطاردة رزقه . ابصر الناس رجلاً حافي القدمين، يركض في دروب البلدة المفروشة بالوحل، والبرك، والضفادع، رافعاً دشداشته إلى ما فوق سرته كاشفاً عما بين القصبتين اللتين تحملانه وهو يصرخ: (لوز) ثم يصمت للحظة، ويتوقف ليصرخ: (شلونه) ويعاود الركض والصراخ .. وما أن مر الأسبوع الأول على أسلوبه المتفرد بالجنون حتى استأثر بأهتمام الناس، وفاق بحركاته وعبارته التي أشتهرت جميع مجانيننا، وصار ظاهرة من ظواهر بلدتنا المستلقية على مشارف الصحراء. جذبت الينا الناس من البلدان المجاورة ليروا (أبو اللوز) وهو يدور في شوارع بلدتنا، وازقتها، وسوقها متبوعاً برهط أو أكثر من الأولاد، ويستمعون إلى عبارته الشهيرة التي ما أن يطلقها صارخاً: (لوز) حتى يجيبه الأولاد بصوت واحد: (شلونه) فتحرك السوق، وأزدهرت التجارة ودبت الحياة في أقتصاد بلدتنا المحتضر حتى أن تجارنا وكبار بلدتنا ووجهاءها ومختارها توسطوا عند مأمور المركز لأستثناء (أبو اللوز) عندما علموا أن في نيته جمع المجانين السائبين وايداعهم المستشفى . وقد استقبل اقتراحهم بكل رحابة صدر .. وكان من الطبيعي أن أهتم أنا ب(أبو اللوز) كي أضمه الى مجموعتي من المجانين الذين احتفظ بهم في متحف الذاكرة. ولكني برغم ملاحقتي المستمرة له فأنني لم أنتبه الى تلك السمة المشتركة فيما بيننا ولعل انشغالي في متابعة حركاته وتقليد صوته حال دون الأنتباه الى تلك السمة، واعني بها التشابه في الطول والجسم والملامح برغم أني أبدو أكبر منه، حتى ظهيرة ذلك اليوم الخريفي الكئيب الذي كنت فيه جالساً في زاوية اقدم مقهى في البلدة استمتع بمراقبة (أبو اللوز) الذي كان يقلب ملعقة الشاي بين أصابعه ربما للمرة الألف، حين احنى صاحب المقهى العجوز رأسه بأتجاهي: (أستاذ ألا ترى ان أبو اللوز يشبهك؟!) .. شرارة صغيرة أشعلت الهشيم المتكدس في رأسي، أحسست بحسيس النار وهو يلفح اذني بزفيره: (لو حلقت شاربك وأستبدلت ببدلتك الدشداشة وتخلصت من حذائك وربطة عنقك، فأقسم أن لاأحد يستطيع أن يميز بينكما) .. أرقت تلك الليلة. طنت في رأسي أجنحة تلك الفكرة المجنونة: (ماذا لو أصبحت أنا الأنسان العاقل مجنونا مع سبق الأصرار، وليوم واحد .. يوم واحد فقط أزيح فيه كل ما ترسب في صدري من غبار الأيام، وأنفضه في سماء البلدة، يوم واحد، يكفي لكسر قيد الوقار الذي كبلني به الأهل والعشيرة والقانون، طيلة أعوام عمري المندثرة .. يوم واحد لا غير، أسخر فيه من البلدة وأهلها، كل أهلها، صغارها وكبارها) .. هرعت في ذلك الليل المتخاصم مع القمر الى الخربة التي ينام فيها (أبو اللوز) الا أنني لم أجد هناك غير العتمة الجاثمة فوق الأزبال .. وخرجت يلاحقني صفير الصراصير المختبئة في ثقوب الحيطان، وعدت ثانية الى التقلب على فراشي حتى بان الخيطان . فخرجت مرة أخرى للبحث عن (أبو اللوز) .. ووجدته في كراج البلدة يقدم نمرته أمام الجنود والعمال اللاهثين وراء السيارات .. تقدمت منه وقبضت على ذراعه: (أبو اللوز .. تعال معي) جفل الرجل، ولأول مرة لمحت في عينيه نظرة لم أر مثلها منذ جاء الى بلدتنا .. ثم تخلص من ذهوله وعادت لعينيه نظرتهما السابقة وصرخ: (لوز) فأجابته مجموعة من العمال: (شلونة).. قلت بهدوء ولكن بحزم: (أبو اللوز لا تخف .. تعال معي، سأعطيك الكثير من النقود) نظر الى قبضتي المطوقة لمعصمه .. واصلت كلامي مضيفاً أنني سأمنحه علبة سجائر كاملة ودشداشة جديدة، وقدته مثل مروض الوحوش وهو يقتاد حيواناً مفترساً، فأنقاد لي وسار معي بخطوات هادئة مستمراً في صمته .. أدخلته سيارتي العتيقة محاذراً أن أستفزه، كنت كمن يحمل بضاعة من الزجاج الرقيق، ولم يسألني هو طوال الطريق عن ماهية العمل الذي أريده فيه وبدا لي يفكر بامر ما .. اوقفت سيارتي في ساحة قريبة، وفي الخربة سلمته علبة السجائر وبضع أوراق من النقود الزرق والخضر، ثم أخبرته بفكرتي الرعناء .. فسخر منها. لكني كنت مترعاً بها لا أفكر الا بما أنا مقدم عليه من تجربة فريدة. وبمقدار السخرية المتراكمة في داخلي لذا فقد أسرعت بخلع بدلتي وسلمتها له وأنا اؤكد عليه بعدم الخروج ثم تخلصت من ملابسي الداخلية وبعد أن أرتديت دشداشته أقفلت باب الخربة، وقذفت بنفسي إلى الزقاق بحركة مجنونة من الحركات التي أتقنها تماماً .. وما أن خطوت بضع خطوات حتى سمعت صوتا يناديني: (أبو اللوز) كان طفلا" صغيرا" يتغوط امام باب دارهم وقد التصقت بضع ذبابات بالمخاط السائل من أنفه .. صرخت: (لوز) فصرخ الطفل: (شلونه) قلت لنفسي: (أول الغيث) عند أنتصاف النهار حسدت (أبو اللوز) على جمهوره وأنا أرى الحشد الهائل من الأولاد الذين تبعوني .. كنت أسير وأنا أردد مثل المبرمج: (لوز) والحشد يصرخ من ورائي: (شلونه) أتجهت الى السوق وتوقفت أمام محل كبير التجار غمست قدمي في مجرى الماء الأسن، ثم بدات أرفس برجلي وأصرخ: (انا خلقناك من الطين .. من الطين) كانت شظايا الماء تتطاير من تحت قدمي فتلطخ زجاج واجهة المحل وملابس المتسوقين. اسرع واحد من عمال المحل وكتفني بذراعيه، فخرج كبير التجار وصرخ به: (أتركه، لاتؤذه، أبو اللوز وردة) قادني الى داخل المحل: (ها أبو اللوز .. اليوم طابكات؟) أجلسني بقربه وطلب لي شاياً وهو يضحك مسروراً بوجودي . . نظرت الى صورة قدمي التي طبعها الوحل فوق (الكاشي) وتساءلت: (كيف جمع هذا الرجل ثروته الضخمة وهو بهذه البلادة العظيمة؟ !) أنهيت الشاي بجرعة وعضضت الأستكان كما يفعل (ابو اللوز)، ثم خرجت ماضغا الملعقة التي أحسستها تتكسر مثل حصاة تحت أسناني .. مررت بمطعم للكباب ووقفت أنظر الى صاحبه، فسارع إلى أعطائي رغيفاً وثلاثة أسياخ من الكباب وهو يتملقني طالباً مني الانصراف وتركه على باب الله.. عدت الى زقاقنا عصراً وهو الوقت الذي تقتعد فيه النساء عتبات البيوت، رفعت دشداشتي الى ما فوق السرة، وسرت متبختراً صادماً أنظارهن بأدوات فحولتي .. واربت (العطرة) عاهرة البلدة عباءتها وصرخت ملء فيها: (عزا العزاك)   وهي تفتح عينيها على سعتهما ناظرة الى ما يتدلى بين ساقيّ !، ومدت (زكية) الشمطاء رقبتها فاتحةً فمها الخالي من الأسنان: (ولك أثتحي ثافل*) بينما صرخت مراهقات الزقاق: (يبوه) وهن يتقافزن من طريقي مثل صغار المها .. ما أن أنعطفت في زقاق أخر حتى كنت وجهاً لوجه أمام المختار فصرخت بوجهه: (لوز) وتعالى الصراخ من خلفي: (شلونه) وبدأت بالرقص .. فأهتز كرش المختار، أهتز كثيراً وأنا أشتمه وهو يضحك ولغده يتدلى مثل بجعة عجوز، وفجأة بتر ضحكته وصرخ بي: (كفى .. سأشكوك الى المأمور) كنت قد وصلت الى ذروة جنوني المصطنع أو الحقيقي فقد خيل لي أنني (أبو اللوز) حقاً .. أمسكت بزيق الدشداشة وشققتها من الطول الى الطول، وركضت بأتجاه المركز ساحباً خلفي كل أولاد البلدة وأنا أصرخ: (لوز) فيتعالى هتاف المتظاهرين خلفي: (شلونه). وأزدادت ثقتي بنفسي حين لم يمنعني الشرطي الحارس من دخول المركز .. فأتجهت مباشرة الى غرفة المأمور وقد وطنت نفسي على السخرية منه، ولكن ما أن تخطت قدماي عتبة الباب حتى سمرتني في مكاني صرخة أعرفها جيداً، انطلقت من داخل الغرفة فحولتني الى تمثال للسخرية وأنا أقف بدشداشتي الممزقة وعريي الفاضح وقد أقتحمت رأسي قهقهة المأمور .. وبرغم أن فمي ظلمفتوحاً فقد عجز لساني الذي تخشب عن النطق وأنا لا أصدق عيني المسمرتين على (أبو اللوز) الذي بدا أكثر وقاراً مني وهو يرتدي بدلتي وربطة عنقي وحذائي .

 

........................

أبقيت أسم (أبو اللوز) على حاله دون التأثر بالحالة الأعرابية

الحالوب: هو قطرات المطر المتجمدة

ولك اثتحي ثافل: المقصود بالعباره استح سافل

 

في المثقف اليوم