مرايا فكرية

المثقف في حوار خاص مع البروفسور محمد الربيعي (4)

خاص بالمثقف: الحلقة الرابعة من حوار خاص معالعالم العراقي البروفسور محمد الربيعي، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معها الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول التعليم العالي في العالم العربي، فأهلاً وسهلاً بهما:

س13: أ. مراد غريبي: تصنيف جامعاتنا العربية عالميا جدا مؤسف ماهي شروط النهوض واللحاق بالعالمية وماهي النماذج التي يمكننا الاستفادة من تجاربها؟

ج13: د. محمد الربيعي: اتفق معكم في ان مواقع الجامعات العربية في تصنيفات الجامعات العالمية مؤسفة حيث معظمها إما خارج التصنيفات او تتبوأ مراتب متدنية جدا. أحد الأسباب التي تؤدي لهذه النتائج يعود الى طبيعة التصنيفات من حيث تضمينها لعدد محدود من الجامعات ولمعايرها التي تؤكد على المنشورات العلمية في المجلات العالمية ذات عامل تأثير عالي. أنا لا احبذ أن تقاس جودة المؤسسات الجامعية على اساس مركز الجامعة في التصنيفات العالمية بالرغم من أن التصنيفات هي احدى الوسائل التي تعكس صورة لأداء الجامعة مع أنه من الممكن أن يختلف مركزها في كل من هذه التصنيفات، والسبب أن كل تصنيف له معايره الخاصة. تعتبر الحكومات والجامعات أن التصنيفات وسيلة لقياس مستوى التنافس العالمي الذي تخوضه جامعاتهم مع جامعات أخرى حول العالم، ولذلك أصبحت وسيلة لجذب الطلاب وتحسين اقتصاد الجامعة والبلد وبادرت الحكومات بوضع خطط لتطوير جامعاتهم على أساس معايير هذه التصنيفات لغرض تسويق جامعاتها. لكني أتساءل عن مدى جدوى التصنيفات كمقياس لجودة التعليم الأكاديمي، وعما إذا كان التصنيف يتسم بالرصانة أم أنه مجرد خدعة تمنح مزيدا من الشهرة لعدد محدود من الجامعات التي باتت تُعرف بجامعات الامتياز. وتعتمد عدد من التصنيفات بشكل كبير على الشهرة وعلى آراء الأكاديميين وجوائز نوبل، والجامعات العربية ليس لها الكثير مما تقدمه لإحراز الشهرة وكسب أصوات الاكاديميين او من جوائز نوبل فكيف لها من الحصول على نقاط تفوق تمنحها مراكز عليا في التصنيفات. أنا أقيم الجامعات العربية على اساس جودة التعليم والبحث العلمي وخدمة المجتمع، وفي هذا السياق اهتم بمدى موائمة البرامج التعليمية مع احتياجات السوق ودرجة ربط الخريجين بالوظائف وبدرجة تأثير الجامعة في المجتمع، ومستوى المعرفة والمهارات والقيم التي يكتسبها الطلبة من خلال التجربة الدراسية. كما أني أؤكد على قياس درجة جودة البحوث العلمية في مواجهة المشكلات التي تعترض الدول العربية لكي تلتحق بالدول المتطورة وتسخيرها لإنقاذ المجتمع من ربوع التخلف والجهل والفقر وبما يمكن لها ان تكون الدعامة الأساسية للتطوير والتحسين. وهذا يعني ربط الأبحاث العلمية بمشاكل البلد الصناعية والزراعية والصحية والخدمية والإجتماعية.

هناك نماذج عديدة يمكن الاستفادة من تجاربها منها برامج البحث العلمي لدول الاتحاد الأوربي ومثالها التعاون الإقليمي الأوروبي (Interreg) وبرنامج (اراسمس +) وبرنامج هورايزن 2020. تهدف هذه العملية إلى فرض مبدأ التعاون المشترك كأساس للبحث العلمي أي التعاون بين مؤسسات التعليم العالي العربية، وبينها وبين نظيراتها في أنحاء العالم وعلى اساسها يفضل البحث المشترك بين الجامعات العربية لغرض التمويل، ويعتبر ايضا التعاون العلمي العالمي ومع الجامعات الاوربية والامريكية وغيرها من جامعات الدول المتطورة هدفا اساسيا لتطوير مستوى البحوث الوطنية، كما يعتبر التعاون والإشراف المشترك مع العلماء العرب الموجودين في الخارج اساسا للنظر في امكانية تمويل البحث.

عملية بولونيا للتعاون الأوربي في التعليم العالي يمكن ان تكون مثالا جيدا لكيفية تعاون البلدان من أجل إيجاد أرضية مشتركة. هناك مصلحة عربية في محاولة إيجاد نموذج مماثل يمكن أن يساعد في تقريب الجامعات العربية بعضها من البعض الاخر، فضلا عن دعم الاعتراف بالتعليم والشهادات الصادرة من المؤسسات التعليمية العربية الأخرى. وينظر إلى النموذج الأوربي أيضا على أنه ميّسر للتعاون الدولي، ويولد اعتقادا قويا أن العديد من أدوات اتفاق بولونيا يمكن أن تكون مفيدة للبلدان العربية والتي تجد العديد من المجالات ذات الاهتمام المشترك، ومن شأنها زيادة التعاون بين الجامعات العربية وأن تساعد على دفع عملية التغيير التي تشتد حاجة الجامعات إليها.

بالاضافة لذلك هناك نماذج اخرى يمكن أن تستفيد بها الجامعات العربية من تجاربها حسب أهدافها وسياقاتها. بعض النماذج الممكنة هي:

- تعليم المواطنة العالمية (GCED): هذا نهج تعليمي يغذي الاحترام والتضامن لدى المتعلمين من أجل تنمية الشعور بالانتماء والإنسانية المشتركة ومساعدتهم على أن يصبحوا مواطنين عالميين مسؤولين ونشطين يلعبون دورا في بناء مجتمعات شاملة ومسالمة ومستدامة. يغطي GCED مواضيع مثل حقوق الإنسان والتنوع والحوار بين الثقافات والقضايا العالمية والتنمية المستدامة. ويهدف GCED إلى تطوير معرفة ومهارات وقيم ومواقف محددة في ثلاثة مجالات للتعلم: المعرفية والاجتماعية والسلوكية. أجرت اليونسكو دراسة حول تعزيز المواطنة العالمية في الجامعات العربية ووجدت أن بعض فوائد هذا النموذج هي تعزيز التفكير النقدي لدى الطلاب والتعاطف والكفاءة بين الثقافات والمشاركة المدنية.

- تعليم الفنون الليبرالية Liberal Arts Education: هذه فلسفة التعليم العالي التي تركز على مناهج التعليم العام ذات القاعدة العريضة للطلاب في جميع التخصصات، بما في ذلك العلوم والهندسة. يهدف تعليم الفنون الليبرالية إلى تزويد الطلاب بتعليم شامل يعرضهم لمجموعة متنوعة من الموضوعات والتخصصات، مثل العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية واللغات والتواصل وما إلى ذلك. كما يعزز تعليم الفنون الحرة مهارات مثل التفكير النقدي والإبداع وحل المشكلات والتواصل. تتمثل بعض مزايا هذا النموذج في إعداد الطلاب لعالم وسوق عمل متغيرين، وتعزيز قدرتهم على التكيف والمرونة، وتعزيز التعلم مدى الحياة. بعض الأمثلة على الجامعات التي تتبع هذا النموذج هي الجامعة الأمريكية في بيروت (AUB) والجامعة الأمريكية في القاهرة (AUC) والجامعة الأمريكية في الشارقة (AUS).

- جامعات من الطراز العالمي: هذه جامعات تتفوق في التدريس والبحث ونقل المعرفة والتطلع الدولي. لديهم أعضاء هيئة تدريس وطلاب ذوي جودة عالية، وينتجون أبحاثا وابتكارات متطورة، ويجذبون التمويل والموارد، ويتعاونون مع المؤسسات الرائدة الأخرى ويتمتعون بسمعة عالمية قوية. بعض فوائد هذا النموذج هي النهوض بالمعرفة والمجتمع، والمساهمة في التنمية الاقتصادية والقدرة التنافسية، وجذب المواهب والاستثمار، وتعزيز التعاون الدولي والتأثير. بعض الأمثلة على الجامعات ذات المستوى العالمي هي جامعة هارفارد وجامعة كامبريدج وجامعة ستانفورد وجامعة بكين.

هذه بعض النماذج الممكنة التي يمكن أن تستفيد منها الجامعات العربية من تجاربها. قد تكون هناك نماذج أخرى تناسب الاحتياجات والسياقات المختلفة. لكنه في النهاية يعتمد اختيار أفضل نموذج على رؤية ورسالة وأهداف كل جامعة.

س14: أ. مراد غريبي: بنظركم ماهي التشريعات القانونية والمخططات العملية الضرورية لتمكين طاقات البحث العلمي من التأثير في واقع العالم العربي بالنظر لمكانة الجامعة في العالم الغربي وغيره من البلدان؟

ج14: د. محمد الربيعي: يواجه العالم العربي حاليا العديد من التحديات والعقبات في النهوض بقدراته ومخرجاته البحثية العلمية. لمواجهة هذه التحديات، أعتقد أن هناك حاجة إلى نهج شامل يضم العديد من أصحاب المصلحة. تسمح لي ان اقترح وبعجالة بعض الخطوات الممكنة التي يمكن استحداثها أو تطويرها، وتتضمن أولا، وضع إطار قانوني يحدد حقوق ومسؤوليات الباحثين والمؤسسات والممولين ومستخدمي البحث العلمي في الوطن العربي. يمكن أن يشمل ذلك أحكاما لحماية حقوق الملكية الفكرية، وضمان الحرية الأكاديمية، وتعزيز السلوك الأخلاقي، وتعزيز مراقبة الجودة، وتسهيل مراجعة الأقران، وما إلى ذلك. وثانيا، إنشاء هيئة أو آلية إقليمية تتولى تنسيق ومواءمة سياسات وبرامج البحث العلمي في الوطن العربي. يمكن أن يشمل ذلك تحديد أولويات ومعايير ومؤشرات مشتركة للتميز البحثي، وتعزيز التعاون والتكامل بين مجتمعات البحث، وتسهيل التنقل وتبادل الباحثين، وتقديم المساعدة الفنية وبناء القدرات، إلخ. وثالثا، زيادة الاستثمار وتخصيص الأموال للبحث العلمي في الوطن العربي. يمكن أن يتم ذلك من خلال تنويع مصادر التمويل من الجهات المانحة العامة والخاصة والدولية، وإنشاء منح وجوائز تنافسية عربية لمشاريع البحث، ودعم البنية التحتية والمعدات لمرافق البحث، وما إلى ذلك. ورابعا، تعزيز دور ومساهمة الجامعات في البحث العلمي والابتكار في العالم العربي. يمكن أن يشمل ذلك مراجعة المناهج وطرق التدريس لتعزيز التفكير النقدي والإبداع ومهارات حل المشكلات بين الطلاب، وتقوية الروابط بين أنشطة التدريس والبحث، وتوفير الحوافز والفرص لأعضاء هيئة التدريس للمشاركة في البحث وعلى صعيد عربي. وخامسا وأخيرا، نشر ثقافة البحث العلمي والوعي به في الوطن العربي. ويمكن أن يشمل ذلك نشر نتائج وتأثيرات البحث على الجمهور من خلال قنوات إعلامية مختلفة، وإشراك الجمهور في الحوار والتشاور حول قضايا البحث، وفي مبادرات نشر العلوم بين المواطنين، والاحتفاء بإنجازات ومساهمات الباحثين في المجتمع.

س15: أ. مراد غريبي: برأيكم ماهي رهانات الابتعاث وآفاق تطوير البحث العلمي، الراهن والمرتجى، وكيف نحقق الأمثل؟

ج15: د. محمد الربيعي: يعتبر الابتعاث هدفاً رئيسيا لتحقيق عدة أهداف سياسية وتعليمية. وغرضه الأساسي هو تأهيل كوادر علمية ذات خبرة وتدريب عالي في مجال البحث العلمي. كما يسعى لتعزيز مهارات اللغات الأجنبية بمستوى عالٍ من الاحترافية. بالإضافة إلى ذلك، يهدف إلى تطوير قدرات الاتصال والتواصل الفعال مع الأكاديميين والعلماء في الخارج. من جانب آخر، يهدف إلى نقل الخبرات والثقافات العالمية إلى الداخل، وتعزيز الأخلاقيات الأكاديمية وفهم الالتزامات الأخلاقية عند المتعلمين. يعد الحصول على الشهادات العليا من جامعات الدول المتقدمة، ولا سيما درجة الدكتوراه، أمراً ضرورياً لتطور التعليم والاقتصاد في البلدان النامية. ولذلك، تركز هذه البلدان، وعلى وجه الخصوص بلدان جنوب شرق آسيا وبلدان الخليج العربي، على تمكين أبنائها من الدراسة في جامعات الدول المتقدمة. ومع ذلك، فإن الحصول على درجة الدكتوراه لا يكون بالضرورة على نفس النحو في كل جزء من العالم، إذ يمكن أن تختلف المدة وهيكل التمويل والمتطلبات بشكل كبير بين مرشحي الدكتوراه في بلدان مختلفة. ويمكن أن يقدم السفر إلى الولايات المتحدة أو بريطانيا او استراليا او فرنسا فرصا فريدة للحصول على درجة الدكتوراه، حسب ما يسعى إليه المرشح وما يرغب في الحصول عليه للانتقال به إلى الوطن والجامعة التي يعمل بها. ومن الضروري تحديد اختيار البلد المناسب والجامعة التي يرغب في حضورها لتحقيق الأهداف المرجوة. ولابد من التأكيد على ان يحصل الطالب على تدريب في مهارات الابتكار ونقل التكنولوجيا وحقوق الملكية او اية مهارات اخرى خارج نطاق مشكلة البحث الخاصة والتي يمكن الحصول عليها من خلال الدورات وورشات العمل الكثيرة وعلى مدار السنة للباحثين في أي من الجامعات الغربية. ويمكن اعتبار الحصول على عدد معين من الشهادات الحضورية جزءا لا يتجزأ من الايفاء بشروط الابتعاث.

ولابد من الاشارة الى ان بعض الدول العربية قد جعلت سياسة الابتعاث إلى الدول الغربية من اهم أولوياتها ومنحتها اهتماما كبيرا، حيث يُمثل ذلك اهتماما من الدولة بتأهيل وإعداد الموارد البشرية بشكل فاعل للعب دورٍ رئيسي في نهضة البلاد الأكاديمية والتربوية والاقتصادية، ولتحقيق مراكز قوية للجامعات الوطنية بين المؤسسات التربوية العالمية.

س16: أ. مراد غريبي: هل فتح مجال خوصصة مؤسسات التعليم العالي من شأنه الإسهام في الإصلاح أم يزيد الأزمة تعقيدا؟

ج16: د. محمد الربيعي: في عام 2015، نظّم البنك الدولي ومركز التكامل المتوسطي ووزارة التربية والتعليم العالي اللبنانية مؤتمراً رائداً في بيروت، بهدف تطوير آليات ونظم تبادل المعلومات لإطلاع واضعي السياسات وأصحاب القرار على كيفية تحسين الإدارة وضمان الجودة في التعليم العالي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومن بين الموضوعات التي نوقشت في المؤتمر، كانت مسألة خصخصة مؤسسات التعليم العالي. وقد أشار بعض المشاركين إلى أن خصخصة مؤسسات التعليم العالي قد تكون حلاً لزيادة قدرة استيعاب هذه المؤسسات، وتحسين جودة التخصصات المطلوبة في سوق العمل، وتخفيف الضغط على الموارد المالية للدولة. ولكن بعض المشاركين أشاروا أيضاً إلى أن خصخصة مؤسسات التعليم العالي قد تؤدي إلى زيادة التفاوتات في فرص التعلُّم بين مختلف فئات المجتمع، وإلى خفض مستوى جودة التخصصات غير المربحة، وإلى تقويض دور التعليم العالي في خدمة المجتمع والثقافة. باعتقادي ان خصخصة مؤسسات التعليم العالي في الدول العربية بمعنى الاجهاز الكامل على القطاع العام في التعليم العالي وتحويل الجامعات الى مؤسسات ربحية تهدف الى تحقيق أرباح مالية سيكون له آثار سلبية، وستزيد من تعقيد المشهد التعليمي وتؤدي إلى تفاقم الأزمة التعليمية. قد تسبب الخصخصة في ارتفاع الرسوم الدراسية وتحديات الوصول إلى التعليم العالي للطلاب ذوي الدخل المحدود وتضييق فرص التعليم للفئات المحرومة والهامشية. وقد يتم التركيز أكثر على الجوانب التجارية للتعليم بدلاً من التركيز على الجودة الأكاديمية. لا ارى في خصخصة مؤسسات التعليم العالي فوائد كبيرة بعكس ما أرى من مخاطر محتملة، خصوصا بما يتعلق بمعايير وآليات ضمان الجودة والشفافية والمساءلة والعدالة الاجتماعية. إلا أنه وباعتقادي في الوقت الحاضر، وجود قطاع خاص خاضع لمراقبة واشراف الدولة بجانب القطاع العام هو افضل بكثير من خصخصة الجامعات الحكومية والمؤسسات التعليمية العامة لضمان تحقيق الأهداف المرجوة وتقديم فرص التعليم العالي عالي الجودة لجميع الطلاب. ولذلك، نرى أن خصخصة الجامعات الحكومية هي خطأ استراتيجي يجب تجنبه، وأنه يجب المحافظة على دور الدولة في تمويل وإشراف وتنظيم التعليم العالي، كما يجب تشجيع ودعم قطاع التعليم الخاص كشريك مكمل للقطاع العام، بشرط أن يلتزم بالمعايير والضوابط الأكاديمية والأخلاقية، وأن يسهم في تلبية احتياجات المجتمع وتحقيق رؤية التنمية المستدامة.

س17: أ. مراد غريبي: هناك اشكالية الانفتاح على العالم الخارجي الذي يتطلب كفاءات لغوية وتحكم في التقنية وقوة النشر والابتكار، بينما التعليم في العالم العربي رهين السياسات الترقيعية التي تركز بشكل كبير على الشكليات والخطابات دون الواقع والفعالية والمبادئ، هل هناك أفق للتغيير والنهوض بمؤسسات العلوم عندنا؟؟

ج17: د. محمد الربيعي: التعليم في العالم العربي يعاني من تردي شديد وانحدار متسارع في كفاءة المؤسسات التعليمية، وهذا ليس ما أنا أقوله وإنما هو ما تذكره تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. بعض الأسباب المحتملة لذلك هي: نقص في وسائل التعليم والتدريب، افتقار لأساليب التدريس القويم والتعليم السليم، قلة في الكوادر التدريسية المتدربة، تسلط الدولة وتحكمها بالمؤسسة التعليمية والتربوية، وإهمال كبير للإبداع والنقد والتفكير المستقل. مع ذلك، هناك آفاق للتغيير والنهوض بمؤسسات العلوم في العالم العربي، لكنه يتطلب جهدا متواصلا وعملا مستمرا من جانب جميع المعنيين: الحكومات والمجتمعات والمؤسسات والمعلمين والطلاب والأهالي. بعض الخطوات الممكنة لذلك هي أولا، تحديث المناهج الدراسية: يجب تحديث المناهج الدراسية ليتناسب مع متطلبات العصر ويشجع على التفكير النقدي والإبداع والابتكار. وثانيا، التركيز على المهارات العملية: يجب تعزيز تعلم المهارات العملية والعمل في فرق، وذلك من خلال تنظيم ورش عمل وربط المنهج بالواقع العملي. وثالثا، تطوير البنيات التحتية: يجب تحديث وتطوير البنية التحتية للمدارس والجامعات بما يتلاءم مع التكنولوجيا الحديثة ويوفر بيئة تعليمية ملائمة ومحفزة. ورابعا، توفر التدريب والتطوير المستمر للمعلمين: يجب توفير فرص التدريب والتطوير المستمر للمعلمين، بما في ذلك التعلم عن بُعد والتعلم النشط. وخامسا وهو الاهم، إصلاح السياسات التعليمية: يجب أن تكون هناك إصلاحات في السياسات التعليمية لضمان جودة التعليم وتشجيع الابتكار والتنوع. بتنفيذ هذه الإجراءات وغيرها، يمكن تحقيق تغيير إيجابي في مؤسسات التعليم في العالم العربي والنهوض بها.

س18: أ. مراد غريبي: تناولتم في مقالاتكم الوضع في الجامعات العراقية بشكل خاص، بل ربما هي ميدان عملك النقدي والتقويمي. كيف تقيمون أداء الجامعات العراقية، مقارنة بما قبل عشرين عاما والآن؟ هل هناك فارق نوعي؟

ج18: د. محمد الربيعي: يمكن القول إن الجامعات العراقية تواجه العديد من التحديات والمشاكل التي تعرقل تطورها وتقدمها وتحقيق الجودة والتميز في التعليم والبحث العلمي. ومن بين هذه المشاكل:

- ضعف قدرات قيادات التعليم العالي على وضع الخطط الصائبة للإصلاح والتجديد التربوي.

- الافتقار إلى التعاون الدولي، وعدم كفاية التمويل والبنية التحتية، والتدخل السياسي وانعدام الاستقرار.

- ضعف وتخلف النظام التربوي المدرسي، والذي يؤثر سلبا على جودة المدخلات والمخرجات للتعليم العالي.

- عدم وجود نظام متكامل لضمان الجودة والاعتماد للبرامج في الجامعات العراقية.

- تضخم عدد المؤتمرات العلمية دون مراعاة المعايير الدولية للجودة والتأثير.

وبالمقارنة مع ما قبل عشرين عاما، يبدو أن هناك فارق نوعي في بعض المؤشرات، مثل زيادة عدد الجامعات والكليات والطلاب والأساتذة، وزيادة حصة التخصصات الطبية، وزيادة عدد الأوراق البحثية المنشورة للجامعات العراقية بشكل ملحوظ وعدد الاستشهادات، وزيادة نسبة المشاركة في المؤتمرات الدولية. لكن هذه المؤشرات لا تعكس بالضرورة تحسن في جودة التعليم أو في إسهامات البحث العلمي أو في تأثيره على التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

ووفقا للتصنيفات العالمية THEو QS، توجد في العراق عدد محدود من الجامعات التي تم تصنيفها وقد يكون لبعضها تصنيفات مختلفة في أنظمة أخرى، مثل Webometrics وSIR وRUR وCWUR وURAP، ولكن لازالت خارج أهم تصنيف عالمي وهو تصنيف شنغهاي (ARWU).

ولذلك، يحتاج التعليم العالي في العراق إلى إصلاح شامل يستند إلى رؤية استراتيجية تستجيب للاحتياجات المحلية والإقليمية والدولية، وتستفيد من التجارب الناجحة في بلدان أخرى، وتستخدم أفضل الممارسات في ضمان الجودة والاعتماد والتحسين. كما يحتاج إلى دعم سياسي وإداري ومالي من قبل الحكومة والبرلمان والقطاع الخاص.

س19: أ. مراد غريبي: ما هو تقييمكم لمستوى الجامعات العراقية مقارنة بجامعات الدول العربية الاخرى التي سجلت حضورا عالميا كجامعة قطر وغيرها؟

ج19: د. محمد الربيعي: تقييم الجامعات العراقية في التعليم والبحث مقارنة بجامعات الدول العربية الأخرى يعتمد على عدة مؤشرات ومنهجيات مختلفة. وفقا لتصنيف التايمز للجامعات العربية للعام 2022، فإن الجامعات العراقية لم تحقق مراتب تنافسية هامة حيث حصدت أعلى جامعة وهي جامعة بغداد المرتبة (46) فيما جاءت بعض الجامعات في مراتب متأخرة بينما لم تدخل الكثير من الجامعات خصوصا الأهلية في التصنيفات. والحال مشابه في تصنيف QS لجامعات المنطقة العربية للعام 2023، فإن الجامعات العراقية حصلت على مراتب متواضعة متمثلة بأعلى مرتبة وهي المرتبة الأربعين لجامعة بغداد.

بناءً على هذه التصنيفات، يبدو أن الجامعات العراقية تتمتع بحضور وسمعة عالميين أقل من بعض الجامعات العربية الأخرى، خاصة تلك الموجودة في المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي. ومع ذلك، فإن التصنيفات ليست المقياس الوحيد لجودة وتأثير مؤسسات التعليم العالي، وقد تكون هناك عوامل أخرى تؤثر على أدائها والاعتراف بها، مثل الموارد ومخرجات البحث والحرية الأكاديمية والتعاون الدولي، وما إلى ذلك. ولو أخذنا هذه العوامل بنظر الاعتبار فإن الجامعات العراقية لن تكون حظوظها بأفضل من تلك التي تقدمها لها التصنيفات الدولية. وبشكل عام، يمكن القول أن الجامعات العراقية لا تزال بحاجة إلى المزيد من الجهود والدعم لتحسين مؤشراتها وتحقيق رؤية استراتيجية ترتقي بمستوى التعليم العالي في العراق.

س20: أ. مراد غريبي: هل الخلل دائما بالكادر التعليمي أو المناهج، أم هناك ما هو أبعد من ذلك؟ ولماذا لم يتم معالجتها مع ثراء العراق المعهود؟

ج20: د. محمد الربيعي: هناك عوامل متعددة تؤثر على تدني مستويات الجامعات العراقية، منها:

- التخطيط الاستراتيجي والتقويم المستمر: ينقص الجامعات العراقية رؤية واضحة ومشتركة لأهدافها ومهامها ومخرجاتها، ولا توجد آلية فعالة لقياس جودة التعليم والبحث والخدمة المجتمعية، ولا توجد معايير متمكنة وعادلة للترقية والتقدير والحوافز للأساتذة والطلاب.

- البنية التحتية والموارد المادية: تعاني الجامعات العراقية من نقص حاد في المباني والمختبرات والمكتبات والمعدات والتقنيات الحديثة، كما تفتقر إلى مصادر التمويل الخارجية المستقلة والمستدامة، وتعتمد بشكل كبير على الموازنة الحكومية او الى تمويل المستثمرين في الجامعات الاهلية التي تخضع للتقلبات السياسية والاقتصادية ولا تتضمن تمويل للبحث العلمي والابتكار.

- المناهج والطرق التعليمية: تبقى الجامعات العراقية ملتزمة بمناهج قديمة ونظام تعليمي تقليدي يركز على نقل المعلومات بدلا من تنمية المهارات والقدرات، كما تغفل عن التطورات العلمية والتكنولوجية الحديثة، ولا تشجع على التفكير النقدي والابداعي والبحثي.

- الكادر التعليمي والإداري: يفتقر الأساتذة في الجامعات العراقية إلى التأهيل الأكاديمي والبحثي المناسب، كما يواجهون صعوبات في التحديث المستمر لمعارفهم وخبراتهم، كما أنهم يتعرضون لضغوط سياسية وأمنية واجتماعية تؤثر على أدائهم. أما الإدارة الجامعية فهي غير فعالة وغير شفافة ومبنية على المحاصصة السياسية، ولا تستجيب لحاجات المجتمع وسوق العمل.

ولذلك، فإن حل مشكلة تدهور مستوى التعليم الجامعي في العراق يتطلب جهودا مشتركة من جانب جميع المسؤولين في الحكومة والبرلمان والجامعات والأساتذة والطلاب والقوى الوطنية، بالإضافة إلى دور فاعل من قبل المجتمع المدني والشركاء الدوليين.

أما بخصوص سؤالك عن سبب عدم معالجة هذه المشكلة مع ثراء العراق المعهود، فإن الإجابة تتعلق بالتحديات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تواجه العراق منذ عقود، والتي أدت إلى تفاقم الفساد والهدر والنزاعات والانقسامات، وتقويض الثقة بين المواطنين والمؤسسات، وإهمال القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة والبنية التحتية.

أ. مراد غريبي: في الختام نتقدم بجزيل الشكر لسعادتكم البروفسور محمد الربيعي على هذا الحوار الخاص حول راهن التعليم العالي والبحث العلمي في العالم العربي وآفاق الإصلاح والتطوير وما هنالك من تطلعات أكاديمية ومجتمعية، سعدنا بهذا اللقاء وإلى حوار جديد معكم في المستقبل القريب دمتم موفقين..

د. محمد الربيعي: الأستاذ غريبي مراد المحترم وكل أسرة صحيفة المثقف أشكركم على إتاحة هذه الفرصة لبلورة وطرح أفكاري حول عدد من المواضيع المهمة التي تضمنتها أسئلتكم الراقية. أشعر بالامتنان لهذه الفرصة القيمة التي تمنحوني إياها للتعاون في نشر المعرفة والتحاور البناء.

***

حاوره: الأستاذ مراد غريبي – صحيفة المثقف

في المثقف اليوم