ثقافة صحية

قصة الروماتزم القلبي / فخري مشكور

بل لأن هذه المأساة وصلت الى مرحلة لا يمكن عمل شيء لها، فقد وقع الفاس بالرأس كما يقول المثل. وأشد ما يؤلم فيها أن هذه الأم لم تصغ الى نصائح الناصحين، فسلّمت «لحيتها» الى الفاسدين وكانت النتيجة ان اصيبت ابنتها بالروماتزم القلبي. ولم تعتبر من النكسة الاولى بل واصلت الاعتماد على من تسببوا في الكارثة ومضت تطلب الدواء من مصدر الداء، فخسرت ابنتها كما خسرت سمعتها... وصدق من قال: يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه.

بدأت القصة عندما كانت أميمة فتاة في الرابعة عشرة من عمرها تفتحت أنوثتها في بستان الجمال فاصبحت قبلة لآمال الطامعين. كان جمالها الأخاذ ملفتا للنظر بسبب تفردها بصفات قلما تجتمع... استعار وجهها استدارة القمر، وعيناها سحرَ النجوم، وقامتها أغصانَ الشجر، وحوَتْ من طيف الالوان ما يبهر كل ناظر: شعر أسود كالليل، ووجه أبيض كالنهار، وعيون زرق كالبحر، وشفاه حمر كالكرز. وكان على نورة– بعد استشهاد زوجها- حماية جمال ابنتها من الذين يرون المرأة سلعة للتجارة او متعة لقضاء الوطر.

اصبحت أميمة ذات يوم تشكو من حمى وألم في اللوزتين، لم تسارع نورة الى مراجعة طبيب بل تولت هي «علاجها» استنادا الى معلوماتها الشعبية فقامت بتدليك الرقبة كي ترفع اللوزتين اللتين نزلتا!

بالطبع لم تستجب اللوزتان للتدليك، فجراثيم المكورات السبحية Streptococci لا يضرها التدليك ولو استمر حتى الصباح.

بعدما ساءت حالة اميمة قررت نورة أن تطلب المساعدة، لكن مِن مَن؟ لجأت الى تجار الدين الذين يبهر السذّج جمال وجوههم فيتصورنه نوراً الهياً غافلين عن دور ملقط الشعر. طلبت نورة من أحدهم ان يساعدها على شفاء أميمة وهنا سالت لعاب الدجال طمعا بالفوز بهذه الفتاة الرائعة، فتظاهر بالشفقة عليها والزهد بالدنيا والخوف من الله واقنعها بضرورة علاجها على يديه وحذّرها من مراجعة الاطباء الذين لا يخافون الله... كتب لها الدجال دعاء لتغليه ثم تشرب ماءه، وأخبرها انه سيصلي الليلة لأجلها ويطلب من الله شفاءها، لأن الله لا يرد دعوة ذوي الوجوه النورانية الزاهدين في الدنيا، ولم ينس أن يوصيها بمراجعته كل يوم لمتابعة حالتها!

زارت نورة اخوها؛ وهو طبيب كان خارج الوطن، ولما اطلع على حال اميمة وما فعلته نورة قال لها:

- يا اختي العزيزة، ان ابنتك تشكو من التهاب اللوزتين، وهي في حاجة الى ابرة مضاد حيوي، ويجب الاسراع في اعطائه لها قبل ان تتطور الحالة الى روماتزم يصيب القلب.

- دعنا ننتظر اثر صلاة ودعاء السيد ذي الوجه النوراني أوّلاً.

وعبثا حاول أخوها الطبيب اقناعها بأخذ الدواء، ولما يئس من ذلك تركها وهو يقول: مغنية الحي لا تطرب.

انتكست حالة أميمة فاضطرت نورة لمراجعة طبيب. لم تستعن بأخيها بسبب عقدة نفسية تجعلها تنظر الأقربين بدونية، وللابعدين بقدسية. لم تكن تعلم ان هذا الطبيب دجال من طراز آخر، وانه هو الذي قتل زوجها، ولما قيل لها ذلك قالت: لكنه يتمتع بخبرة طويلة، ولعله تاب.

وبعد مراجعات طويلة تمكن الطبيب الدجال من تحقيق كل مآربه، ثم ترك المريضة تعاني من عجز القلب الذي أصيب بالروماتزم فأعطب صماماته وأضر بعضلته، ولم يسلم منه شغافه أيضاً.

بعد سنوات اضطرت نورة للاستعانة بأخيها الطبيب، ولما فحص أميمة قال لنورة:

- لقد تأخرت كثيراً، لم يبق في القلب شيء سالم، كان في امكاننا في البداية ان نعالج التهاب اللوزتين بحقنة واحدة من البنسلين...

- طيب الآن اعطها تلك الحقنة.

- لا يا اختي، لم تعد تنفع تلك الحقنة، فقد فات وقتها... ليتك سمعت نصيحتي في اليوم الاول. ان المرض الذي كان قابلا للعلاج بحقنة واحدة يحتاج الآن الى عملية قلب مفتوح وهي جراحة تنطوي على خطورة كبيرة.

- لا استطيع اتخاذ هكذا قرار من دون مشاورتها، دعني اتحدث معها أولاً.

لكنها لما ذهبت لتتكلم معها لم تجدها، لقد تركت اميمة نورة بعدما فعلت بها ما فعلت بسبب جهلها وسوء تدبيرها.

التهاب اللوزتين

مرض خطير يبدأ بشيء يسير، انه التهاب اللوزتين. نعم هذا الالتهاب الذي يتعرض له الكثير من الابناء ويستهين به الكثير من الآباء قد يتسبب- إذا لم يعالج بشكل صحيح- بالروماتزم القلبي، او حتى بالفشل الكليوي.

في فصل الشتاء حيث يوفر البرد ظروف انتشار جرثومة المكورات السبحية ?Streptococci من شخص الى آخر بسبب قلة تهوية الغرف بعد اغلاق الشبابيك، وبسبب الازدحام في الغرف او المدارس، تجد هذه الجرثومة فرصتها في الانتقال جوّاً (عن طريق هواء التنفس) من لوزة شخص الى لوزة شخص آخر حيث تجد مرتعا جديدا لم يكوِّن بعد مناعة ضدها، فتحل هناك وتتكاثر فتظهر على المصاب الجديد الاعراض الآتية:

? ألم في البلعوم (الحلق) خصوصا عند البلع، أي ان المريض عندما يبلع ريقه يشعر بوخز شديد كأنه وخز ابرة ما يلبث ان يخف بعد بلع الريق.

? حرارة عالية تصل الى 39 او حتى 40 درجة.

? وهن وفقدان شهية وصداع.

هذه الاعراض يجب ان يتم التأكد منها بفحص اللوزتين حيث تلاحَظ عليها بقع صفراء او بيضاء هي المستعمرات الجرثومية للمكورات السبحية التي استوطنت هنا وبدأت تفرز سمومها التي تسبب الحرارة والالم وباقي الاعراض.

احيانا يلزم الامر فحصا مخبريا تؤخذ فيه مسحة من هذه البقع لغرض فحصها تحت المجهر لمشاهدة هذه الجراثيم، او لزرعها للتأكد من هويتها.

كيف نعالج التهاب اللوزتين؟

بمجرد التشخيص لا بدّ من المبادرة الى اعطاء المضاد الحيوي الذي هو البنسلين عادةً.

للقضاء على الجراثيم - وليس مجرد مضايقتها والاسراع باعلان خلو الجسم منها- يجب ان يستمر تناول البنسلين لمدة عشرة ايام بانتظام وبلا انقطاع؛ لأن اي تراخ او وقفة في مكافحة الجراثيم تعطيها فرصة لالتقاط أنفاسها، وسرعان ما تتمكن من تصنيع مادة مضادة للبنسلين فلا يعود البنسلين نافعا لأنها نحجت في تكوين مقاومة ضده (وضد كل ما يشبهه في التركيب الكيميائي)، ما يتطلب استبداله بمضاد حيوي آخر قد لا يكون متوافرا او سليما تماما. لذا يفضل الاطباء استبدال الكبسول (الذي يؤخذ كل ثماني ساعات لمدة عشرة ايام) بحقنة واحدة فقط من بنسلين طويل الامد، ولا يحتاج الى شيء آخر عدا اقراص او شراب خافض للحرارة.

وكيف يحدث الروماتزم القلبي؟

اذا لم يتم القضاء على هذه الجراثيم بشكل كامل فان جهاز المناعة عند نسبة قليلة من الاطفال يصنع اجساما مضادة لهذه الجراثيم، لكن سوء الطالع يكمن في أن قسما من المواد الكيميائية التي تحتويها المكورات السبحية تدخل في تركيب أنسجة القلب والمفاصل والكلى والجهاز العصبي والجلد. وعندما يصنع جهاز المناعة الاجسام المضادة ويطلقها في الدم (للقضاء على الجراثيم) فان هذه الاجسام المضادة تلتصق بأنسجة القلب والمفاصل والكلى والجهاز العصبي وتؤدي الى تآكلها وتخريبها.

ان علاج التهاب اللوزتين بصورة صحيحة يؤدي الى الوقاية من روماتزم القلب، وان تجاهل نصيحة المخلصين بسبب الغرور، أو تحاشي ألم ابرة بسبب الجهل قد يؤدي الى فقدان نورة أميمة، وتبقى القاعدة الذهبية: الوقاية خير من العلاج.

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2306 الأحد 16 / 12 / 2012)

في المثقف اليوم