صحيفة المثقف

عشوائية الأفكار والأساليب.. في أفلام العشوائيات بمصر

وكلما ظهر فيلم نجد أن المنتج والمخرج يبشرنا بفيلم وقائعي إنساني يسلط الضوء على فئة كبيرة مهمشة وفقيرة ومتعبة بسبب التغييرات الاجتماعية والاقتصادية الأخيرة، وبسبب تراكم المشاكل القديمة كالبطالة والفقر وضعف الخدمات بهذه المناطق.

 

وكانت السينما المصرية منذ ميلادها تنطلق من الحارة الشعبية وأبطالها أناس عاديون وفقراء، ولكن الحارة كانت تمثل منبع الصفاء والشهامة والنخوة والشجاعة والحلم.

 

في فيلم "الكيت كات"مثلا نغوص من خلال رجل أعمى هو الشيخ حسني إلى هذا العالم المتعب والمرهق والحالم نتفاعل مع الشخصيات ونفرح لفرحهم ونبك ي لأحزانهم ونتعلم من حكمتهم وتجاربهم.

 

لكن أغلب الافلام المنتجة في السنوات العشر الاخيرة تكاد ترسم لوحة اخرى للحارة والمناطق العشوائية فهي مصدر الجريمة والارهاب وهي منبع الدعارة والحشيش و المخدرات، ومصدر للخطر الذي يهدد التحضر والمدنية وشكل من أشكال الجهل والعنف والعهر والرذيلة.

 

فالشخصيات أغلبها خارجة عن القانون وعنيفة ومضطربة فمثلا فيلم "ابراهيم الابيض" يقدم شخصية مجرمة سفاحة واسراف كبير في مشاهد العنف والدم والضرب، فالشخصية تركض بشكل مرعب وتقتل بوحشية دون هذف و لم يقدم الفيلم تحليلا منطقيا أو نفسيا لهذا العنف، ولم يقدم شخصية ايجابية واحدة ويضعنا امام مجتمع وحشي يثير فينا الخوف وكأنه يريد خلق نوع من الكراهية ضد هذه الفئة ويحملها الصفات البشعة.

 

السخرية من التغيير

هناك أفلام تسخر من النداءات للتغيير وكنموذج لهذه الافلام يمكننا ان نتوقف مع فيلم "رامي الاعتصامي" حيث إننا امام ثلاثة نماذج لعكس صورة الشعب المصري النموذج الاول: شباب تافه يتمسك بقشور شكلية للحضارة الغربية وهو جيل ضائع  ومنحرف وفارغ فكريا وروحيا ورامي هذا الشاب مع مجموعة من أصدقائه يعكفون على تكوين جروبات على الفايكس بوك افكار تافهة اوغير مدروسة.

 

رامي يؤسس جروب دعوة للتغيير بتغيير النشيد الوطني وهذه الدعوة تجذب ربع مليون شخص و لم يطلق هذه الدعوة رغم خطورتها ودلالالتها عن دراسة وفكر بل كان كل ما يهمه ان يجذب إحدى الفتيات وبعد ان يتلقى اتصال هاتفي من برنامج تلفزيوني شهير، ويأتي للحديث عن هذا الموضوع يقرر الاعتصام بعد تلقيه مكالمة من رئيس الوزراء  تأمره بالصمت.

 

النموذج الاخر: هي فئة مهمشة ويقودها شخص هو سارق موبيلات وتعيش هذه الفئة في عشش في حالة مزرية، و تأتي الحكومة لتدمير هذه العشش، تلتحق هذه الفئة بالاعتصام لتطالب بنفس المطالب التي يطالب بها رامي ثم نجد أنفسنا أمام الفئة الثالثة: وهي اتجاه ديني متطرف. و تحدث عدة احداث لاكتشاف أن أحدا من هذه الفئات ليس لها رؤية واضحة للتغيير وهي مدفوعة سواء من دعم خارجي او  لتحقيق هدف مادي شخصي، و فعلا يحدث عراك بين هذه الفئات تنتهي بموت جندي بسيط كان يحلم بالزواج وليس له اي  ذنب.

 

هنا يقدم لنا الفيلم مدى حكمة الحكومة وصبرها وفهمها للتغيير بينما لا توجد اي رؤية للشعب أو المعارضة وتم اختزال شعب مصر العريق في ثلاث فئات فقط لا تملك فكر أو فلسفة أو رؤية للحاضر أو المستقبل، والحكومة هي الوحيدة الحكيمة و القادرة والفاهمة للتغيير ويجب انتظار التغيير منها وهي بحاجة لزمن أطول.

 

أفكار مبعثرة وتشويه مقصود

بعض الافلام قد تحوي بعض الافكار لكنها مبعثرة ومشوشة ومشوهة لهذه الفئة،  فالعشوئيات والحواري هي مصدر العهر والعوالم والاجرام، والحوار في هذه الافلام ساذج و مقزز، يغلب عليه السب والشتم  والالفاظ الفاحشة، وهذه الفئة هي مستغلة وعالة على المجتمع و أحد اسباب التخلف، وهي من الصعب تطويرها و تعليمها كونها استهلاكية كسولة والحل الذي تقدمه اغلب الافلام هو الاجتثاث وتدمير هذه العشوئيات، ولكن لا تقدم حلا جذريا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

 

مصر في الآونة الاخيرة فتحت أبوابها للاستثمار الاجنبي و تم بيع أجود وأروع الاراضي لمستثمرين من الخارج أو الداخل وبأبخس الاسعار، بينما مشاكل أكثر من نصف الشعب الفقير يظل مشكلة هامشية والحل هو التخدير والتهميش والاقصاء.

 

والكثير من هذه الافلام تعفي الحكومة والسلطات من أي مسئولية تجاه هذا الواقع   بدلا من دراسته والتعمق فيه، و إبرازه بصدق وانسانية ، وهناك افلام لا يمكننا ان نسميها افلام مثل افلام محمد سعد كونها اسكتشات تافهة لا يتوفر فيها اي عنصر  فني و لا لغة سينمائية ولا فكرة فلسفية اواجتماعية، ومشاهدة مثل هذه الافلام مضيعة للوقت ولا يجب ان نضيع الوقت للحديث عنها.

 

المباشرة  القاتلة

انا لا اعتقد ان السينما خطاب اجتماعي و وعظ ساذج وسرد قصصي مباشر واعتقد انها فن فلسفي و فكري وانساني شعري وفني، ولا بد من توفر العناصر الجمالية  الفنية، و أميل للافلام التي تتجه وتوظف الاستعارة والرمز والتورية والحذف ولا أميل لمشاهدة افلام العرض باعتبار السينما فن الحذف والتورية وهي تحليق في داخل النفس الانسانية ومحاولة لاكتشافها او على الاقل فهمها بغض النظر عن نوعية الشخصية و ميولها وجذورها الاجتماعية.

 

وفي بعض الافلام العربية الجيدة كنا مثلا نجد من صورة الام منبع للحنان والصفاء  و الاصل والروح لكن صورة الام اختفت، بل في بعض الافلام اصبحت مقززة  كصورة من صور التخلف والمادية البحتة، فهي إما مقهورة ومستسلمة أو ساذجة  جاهلة وعائق أمام الحلم، و ربما تكون الدافع نحو الاجرام والرذيلة.

 

هناك في أغلب الافلام التي تنتج حاليا تقديس لصورة الضابط أو أحد المسئولين، أي تقديس للسلطة، فنجد في أغلب الافلام ضابط بوليس يكون هو ضحية الاجرام أو شخصية مثالية، ونجد في أغلب الافلام الحل يأتي بقرار من جهات عليا، وغالبا ما يكون بقرار من الرئيس لحل مشكلة صعبة وجعل نهاية الفيلم سعيدة، ويمكن لآي مخرج ان ينتقد أي حالة أو مسؤول، المهم عدم التعرض أوالمساس  بقداسة الرئيس  والسلطة الحاكمة.

 

العديد من الافلام تحاول إظهار أن أخطاء وسلبيات الحاضر سببها الرئيسي أنظمة وسياسات الحكم السابقة مثل الحقبة الناصرية أو الساداتية وأن النظام الحالي نظام نموذجي فريد يجب عدم المساس به و يعطيه هالة من القداسة والمثالية وتسفه أي نداء معارض أو أي دعوة للنقد او التغيير، و يظهر أن هناك صفقة بين الرقابة وصناع الافلام، فالرقابة تغض النظر عن المشاهد الساخنة والمليئة بالايحاءات والمناظر الجنسية المباشرة والتي تقدم الجسد الانثوي كعامل إغراء وجذب مقابل ترويج صورة مقدسة للنظام السياسي.

 

هذا الموضوع يمكننا اعتباره كمدخل لدراسة هذه الظاهرة وهي بحاجة إلى بحث علمي وأكاديمي جاد، ونحن هنا لا نود أن نقدم صورة مثالية لمجتمع العشوائيات، و لكننا نشعر بنوع من التزييف المتعمد لحقائق وهو تشويه مقصود ومدفوع الثمن و تناول سطحي ساذج لمشلكة كبيرة انسانية واجتماعية المفروض ان ننظر إليها من جميع الزوايا، والتعمق في جذور المشكلة وأعماقها وعدم الاكتفاء بابراز السطح الهامشي بشكل ساذج كما يحدث الآن في أغلب الافلام المنتجة حديثا.

 

لقد كانت ومازالت مصر مصدر للتنوير الفني والثقافي والحضاري في العالم العربي، وظهور هذه الموجة من التفا هة والسذاجة لها تاثيرات خطيرة على العالم العربي بشكل عام، ونشعر بالحزن الشديد ونحن نرى غياب كبير لأفلام مصرية و عربية  في مهرجانات دولية ومحافل ثقافية، ونتمنى أن يعود لمصر تألقها الفني السينمائي باعتبارها الأم و الأخت وحاضنة الحضارة العربية والاسلامية  وحاملة مشاعلها والمعبرة عن همومنا جميعا.

 

فالسينما ليست فنا ترفيهيا ساذجا بل فن انساني فكري وفلسفي وحضاري وانساني و لكن الافلام والافكار الجادة لا تجد تمويلا أو تشجيعا،  وأفلام أخرى تافهة وساذجة تجد الدعم و الرعاية وهذا أمر مؤسف  ومحزن للغاية،  للاسف الاموال العربية  توجه لدعم التفاهة والخواء الروحي والفكري ونشعر بأن هناك حربا مقصودة تجاه اي فكر تنويري حضاري جاد

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1352 الاثنين 22/03/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم