صحيفة المثقف

من عبّاس إلى مهنّي كل شيء ممكن في جزائر التعددية

وهم يبحثون عن فرحات آخر (فرحات 03) لدولة الحزب العتيد ، طالما أنه في كل أزمة يولد في الجزائر فرحات جديد، والمصادفة هنا أن هذه الأسماء تعيدنا إلى عهد الباءات الثلاثة، فهل يتحقق حلم  فرحات مهني والأفلانيين ؟ أو أن مصيرهم سيكون مصير عبان رمضان، عميرة علاوة وغيرهم من الذين كانت نهايتهم الاغتيال؟

 

في كل مرة تعيش الجزائر أحداثا جديدة هي في الأصل قديمة، دار حولها صراع كبير انتهى بالتصفيات الجسدية، ولكنها تتجدد حسب الظروف ، وهاهو فرحات عباس رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة يعود إلى الساحة من جديد في فكر فرحات مهنّي الذي أعلن من باريس عن تشكيل حكومة موازية للحكومة الجزائرية الحالية، وعين على رأسها ووزراء ومسؤولين وهذا من دون شك يؤكد  أن مطلب الحكم الذاتي لمنطقة القبائل ما زال موضوع نقاش، وخروج دولة مستقلة من رحم الدولة الجزائرية مصير لا مفر منه وهذا يتنافى تماما مع فكرة تقسيم الجزائر، لأن الدولة المستقلة ستكون خاضعة إلى " الدستور" الجزائري الذي سيكون قاسما مشتركا بين الحكومتين أو الدولتين..

لم يعد للتعددية السياسية في مضمونها في الجزائر أي معنى أو وجود، بعدما دخلت الأحزاب السياسية بيت الطاعة بما فيها أحزاب المعارضة التي تنشط داخل التراب الجزائري ، وقبلت أن تحتمي بظل السلطة، ونقصد بذلك حزب لويزة حنون التي أعلنت الولاء للرئيس في الانتخابات المحلية الأخيرة (نوفمبر 2007)، وبالتالي فالتعددية نظام شكلي، لأن الجميع اتفق على تطبيق برنامج رئيس الجمهورية ، منذ رئاسيات 2004 ورئاسيات 2009.. إلى اليوم، واتجاه الدولة إلى النظام الملكي بعد ترشحه بعهدة ثالثة، رغم اعتراف هذا الأخير بفشل سياسته الاقتصادية، ولا أحد أصبح يطالب بالتغيير.

أما الأحزاب الأخرى فقادتها ورموزها يقفون اليوم على الأطلال بحيث لم يعد لهم وجود ويكاد اسمهم يغيب تماما عن الساحة السياسية أو عبر وسائل الإعلام مثل حركة العدل والوفاء الغير معتمدة التي يترأسها الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وحزب حسين آيت أحد، ماعدا رجلان ما زالا يحلمان بالعودة وهما: علي بن حاج  الذي  بين الحين والآخر يخرج إلينا بتصريحات المعارضة بعدما طوى النظام الجزائري ملف "الفيس" نهائيا ، كذلك عبد الله جاب الله  المؤسس الأول لحركتي النهضة والإصلاح الوطني، هو الآخر ما زال الحلم يراوده بتأسيس حزب جديد ومُعَلـِّقـًا آماله في كسب ودّ الداخلية لاعتماد حزبه..

لطالما أثبتت الجزائر أنها بلد يؤمن بالتعددية السياسية وبالتعبير الحرّ  وتجسيد مبادئ الديمقراطية ، وربما هو السبب الرئيسي الذي دفع بفرحات مهني إلى الإعلان عن تشكيل حكومة مؤقتة من باريس ، وهذا الإعلان يدخل في باب الإيمان بتعدد الحكومات، كون الجزائر ليست البلد الأول الذي سار في هذا الاتجاه، فقد سبقتها في ذلك دول عديدة مثل  روسيا، الولايات المتحدة، كوريا، الهند..الخ، ولدا لا يعد هذا الإعلان خيانة وطنية أو عمالة لحكومة أو دولة ما..

ما يمكن قوله هو أن الرجل كانت له الجرأة السياسية في الإعلان عن تأسيس حكومة موازية للحكومة الحالية، وهي مواقف شُجاعة في تجسيد مبدأ "المعارضة" ليس من أجل المعارضة ، بل رفضا لواقع معاش، ويؤكد من خلالها مقولة (أصابت امرأة وأخطأ عمر)، لأن النظام الجزائري والحكومة الجزائرية وحتى الأحزاب الجزائرية غارقة في الأخطاء، وأنه آن الأوان لحل المشكلات المطروحة ومعالجتها من جذورها..

إعلان فرحات مهني عن حكومة الجديدة للقبائل يعيد عجلة التاريخ إلى الوراء والوقوف على السيناريو الذي حدث في صائفة  1958 عندما دفعت المعطيات العامة لقيادة جبهة التحرير الوطني إلى مبادرة سياسية تمثلت في إنشاء الحكومة المؤقتة لمعالجة المشاكل القائمة في مختلف المجالات ورغم أن المبادرة حققت نتائج إيجابية في الساحة الدولية، غير أنها لم تغير شيئا في الأوضاع السائدة داخل البلاد، وضمن القيادة التي كانت عاجزة عن إيجاد الحلول الملائمة أمام التراكمات أو الترسبات التي أضحت تبعث عن القلق خاصة بعد اغتيال عبان رمضان في 27 ديسمبر 1957 وتعرض الجو داخل البلاد إلى التسميم بعد عودة الجنرال ديغول إلى الساحة الفرنسية وأصبح السؤال مطروح هل سيُصَعـِّدُ ديغول الحرب أو سيتجه نحو الحوار؟ فكانت النتيجة إنشاء الحكومة المؤقتة التي بادر بها حسين آيت أحمد وعرضها على لجنة التنسيق التي أيدت فكرة تشكيل الحكومة وقَبُول فكرة حلها، ومن المعلوم أن الحكومة المؤقتة التي  عُيِّنَ على رأسها فرحات عباس كانت تضم 19 عضوا ، 16 وزيرا و03 كتاب دولة مقيمين بالداخل، وكان كل أعضاء لجنة التنسيق في الحكومة المؤقتة ماعدا الكولونيل أوعمران كونه كان متهما في قضية أخلاقية في أوت 57 من قبل عبان رمضان..

و إن كانت حكومة فرحات عباس  المؤقتة فشلت على مستوى الداخل في حل المشاكل المتعلقة بالقيادة والتسيير، لأن السلطة ظلت في أيدي الأشخاص أنفسهم أي الباءات الثلاثة ( كريم بلقاسم، بن طوبال وبوصوف) ،فالأمور لم تتغير والأوضاع بقيت على حالها واشتدت الأزمة فقرر الباءات الثلاثة - حسب الكتابات التاريخية طبعا- تجميد الحكومة واستدعاء القادة العسكريين للاجتماع في تونس بغية إيجاد حل للأزمة وتعيين قيادة جديدة ، خاصة بعد وقوع حادثة (عميرة علاوة) الذي كان يعمل تحت سلطة (إبراهيم كبوبة)  المناضل السابق في حزب فرحات عباس عندما كان ضمن بعثة الجبهة في بيروت، وقد عثر على هذا الأخير (عميرة)  "ميتا" أمام مبنى الحكومة المؤقتة بالقاهرة وجاء قضية اغتياله بعدما طالب هذا الأخير التحقيق في ظروف اغتيال عبان رمضان ولكن فرحات عباس ادعى أنه مات منتحرا، ولا يهم هنا قضية عميرة إن مات مقتولا أو منتحرا بقدر ما تهم دوافع المطالبة بحل الحكومة المؤقتة التي كان يترأسها فرحات عباس والتي كانت في الأرجح بسبب عدم الاعتراف بقيم خارج الوطن..

الأزمة كانت سائدة والسيناريو يعيد نفسه بنفس الطريقة والأسلوب وفي كل أشكال الاستفزازات والتحرشات، لأن الوضع في الجزائر صار أكثر تأزما من خلال الأحداث التي مرت من فترة ما بعد الاستقلال إلى أحداث أكتوبر 88.. إلى العشرية السوداء، ورغم بوادر المصالحة الوطنية بقيت الأزمة مستمرة وظهرت إلى السطح قضايا الفساد والرشوة واحتكار الحكم (في أفراد ) في أسمى معانيه على كل المستويات، فضلا عن عدم تطبيق الدستور خاصة فيما تعلق بمسألة تعليم اللغة الأمازيغية في المؤسسات التربوية وبقائها مجرد حبر على ورق..

إن القطرة التي أفاضت الكأس هو تضاعف جيش البطالين من الشباب وانهيار القدرة الشرائية للمواطن واستمرار مظاهر انعدام العدالة الاجتماعية بازدياد الثراء الفاحش على حسب الطبقات الفقيرة من أبناء الوطن، كذلك سوء توزيع السكن ومناصب الشغل وثروات البلاد، والإضرابات والاحتجاجات عن سوء المعيشة، جعلت الإطارات الجزائرية تلجأ إلى الخارج وأخرى ترى الهروب عبر قوارب الموت الحل الأمثل للخروج من الأزمة ، ما داموا لا يتمتعون بحق المواطنة، دون أن ننسى التدهور الأخلاقي للمجتمع الجزائري، الذي شجع الشباب والمرأة الجزائرية على الفساد والمتاجرة بالأجساد من أجل لقمة العيش وهي ظواهر لم تكن موجودة في وقت ما..، وربما تزامن إعلان فرحات مهني عن حكومته الجديدة مع ذكرى 19 جوان 1965 للانقلاب على الحكومة الحالية.

إذن أمرٌ عادي جدا أن يأتي جزائري ويعلن عن تأسيس حكومة ، طالما أصبح كل شيء ممكن في جزائر التعددية والديمقراطية وطالما هناك " حـُكـَيْمـَات " ، فالوالي أصبحت له حكومته الخاصة وكذا مساعديه ، والمير له حكومته و..و.. وحتى أمناء الأحزاب، فلكل أمين عام حزب له "فـُزَّاعـَاتـُهُ" التي يخيف بها مناضليه الذين منحوه صوته، يهددهم ، يتوعدهم بالإقصاء، وأصبحت فكرة إقصاء الآخر تفتح "شهية" أمناء الأحزاب لأنه يشكل له خطرًا، إذا قلنا أن المترشح للانتخابات لم يعد في حاجة إلى أصوات، ما دام يملك المال وأصبح النضال الحزبي يقاس بالشكارة،  فئتان من المناضلين أصبحت مطلوبة ومرغوب فيها في زمن التعددية : فئة معروفة بالشكارة وأخرى تبصم وهي معصوبة العينين، وهي تلك التي تتقن حرف "الميم" ( ماشفتش، ماسمعتش وما علابليش) ، وكانت دعوة بعض المناضلين المخلصين إلى  "دمقرطة " الحزب مجرد صرخة في وادي مثلما كانت فكرة "الإصلاح" التي نادي بها جبهويون سابقون..

نفس الأخطاء ترتكب سواء في الحكومة أو في الحزب ، فليس سهلا أن يصرخ مناضلا "واحزباه"  ويتغلب على آلامه ويقول للنشء  الصاعد في هدوء : إن حزب جبهة التحرير الوطني قد "اغتيل"  ، عبارة قالها الدكتور الطاهر الزبيري تقييما للعشرية التي تلت انقلاب 19 جوان 1965 والتي نتج عنها تثبيت العناصر اللاوطنية في المناصب الإدارية، وهذا ما يؤكد على أن حزب جبهة التحرير الوطني  تحول هو الآخر إلى ملكية تتصرف في شؤونها مجموعة أفراد، وهم الأشخاص الذين مارسوا بالأمس ضغوطاتهم على المناضلين ويمارسونها اليوم (المؤتمر التاسع) ، والنتيجة هي عزل أبناء الأفلان الأصليين،  كما كانت النتيجة عزل الحزب عن منظماته الجماهيرية ، فبعد سيطرة الأحزاب الأخرى على الإتحاد الوطني للنساء الجزائريات ومنظمة أبناء المجاهدين، هاهي التنظيمات الأخرى التي ما تزال تابعة للأفلان لم يعد لوجودها أي صدى في الحزب العتيد وهي اليوم مهددة بالانهيار بسبب التصدعات التي أصابت سقفها وهي الإتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية، وقد يُسْتولى عليها من قبل نفس الأحزاب التي استولت على التنظيمات السالفة الذكر.

ويكفي الوقوف على الأرقام التي لها أهمية ودلالة في الممارسة السياسية التي تحققت خاصة في انتخابات المجالس المحلية  وانتخابات مجلس الأمة وفقدان الحزب بعض المقاعد التي كان يتولي عليها في بعض الولايات والبلديات ، ويكفي الوقوف على هياكل الحزب المغلقة، ويكفي الوقوف على اتساع نسبة قوائم المرشحين الأحرار وانخفاض نسبة المشاركة وارتفاع كذلك نسبة الأوراق الملغاة، كل هذه الأسباب والعوامل قد تدفع باس شخصية "كاريزماتية" تطالب بالحكم الذاتي، مادام المسؤولين غير قادرين على حل هذه الأزمة، لأن مرحلة مغالطة الأمة والشعب ولت وانتهت وحان الوقت للتفكير الجدي في بناء دولة الديمقراطية ودولة العدالة والحريّة، ، ما يستنتجه المواطن الملاحظ هو أن إعلان فرحات مهني عن الحكومة المؤقتة ليس له علاقة بخيانة الوطن لأن الرجل وقف أمام جزائر الإضرابات والمسيرات والتجمعات طارحا سؤال ماذا يحدث لهذا البلد ومن يتحمل مسؤولية ذلك.

 

علجية عيش

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1426 الاحد 13/06/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم