صحيفة المثقف

الطّائفيّة وشيوخ الضّلال

mahmod saidهناك مجرم ضيّع حياته في اقتراف فظائع الجرائم من سرقة وقتل واغتصاب وغشّ، ثم وعى في آخر حياته على أعماله الإجراميّة، وأراد التوبة، فذهب إلى حكيم ناسك متبتّل معروف بصلاحه، واعترف أمامه بماضيه المشين، ورغبته بالتوبة وسأله إن كان هناك وسيلة يعرف بها أن الله قد غفر له. فقال له الحكيم إذهب واغرس عصاك في الأرض فإن أورقت فاعلم أنّ الله غفر لك، ففعل كما أمره النّاسك، وانتظر مدّة طويلة لكن العصا بقيت كما هي، حتى قدم بعض النّاس يحملون جنازة فحفروا لها قبراً وأهالوا التّراب عليها، وبعد رجوعهم جاء رجل وحفر القبر وأخرج الجثّة، وقال لها بتشفٍّ: امتنعت عني بحياتك لكنك الآن بلا مقاومة. حينئذ انتفض الرّجل التّائب وهجم على الثّاني ليمنعه من المساس بالجثة، وفي حومة التّضارب والتّصارع سقط الثّاني ميتاً، عندئذ أحسّ الرّجل الأوّل باليأس، قال مع نفسه: أردت التّوبة لكنّي ارتكبت جريمة كبيرة أخرى فكيف سيغفر لي الله؟ ورجع خائباً إلى بيته، لكنّه عندما مرّ من قرب العصا شاهدها قد أورقت. فهرع إلى النّاسك ليخبره بما رأى، فقال له الحكيم: قمت من دون أن تدري بعمل خيّر فغفر الله لك.

هذه حكمة عميقة، وهي حكاية شعبية  متوارثة تفصح عن إيمان شعبنا بالتّسامح والخير والغفران، لكن ما نشاهده الآن يعمل بعكس هذ الحكمة تماماً، وبدلاً من أن يسود التّسامح في مجتمعنا الآن عمّ نقيضه البائس، وهو الحقد الأسود المتمثل بالطّائفيّة، والسّبب في شيوع هذه النّقيصة المنحطّة هم شيوخ التّفرقة والضّلال.

فالطّائفيّة أفظع ما ابتلينا به في تاريخنا كلّه، فهي التي فرّقتنا في فجر الإسلام، وأودت بأرواح مئات ألوف الأبرياء، في حروب عبثيّة وحشيّة، وأدّت إلى إسقاط الدّولة العباسيّة، وقضت على أعظم حضارة في العالم آنذاك، حضارة عمّت المنطقة من الأندلس حتى الصّين. الطائفيّة أنهت مستقبلنا، وأرجعتنا إلى عصر ما دون الجاهليّة.

وعندما قامت دولنا في القرن الماضي على أسس حديثة، وانتشرت الثّقافة، وتأثّرنا بأنظمة الحكم في الغرب، وشعّت أنوار التّعليم خُسف نجم الطّائفيّة وكادت تنتهي حتى جاء غزو العراق، ووقوعه تحت نير الاحتلال، فتصاعد نجم الطّائفيّة مرّة أخرى بعد أن فرض برايمر المحاصصة على أسس جائرة كيفيّة، وبذر معها الطّائفيّة والشّقاق والنّفاق، وإدخلها في الدّستور العراقي، وإثر التّأكد أن أزلامه سيراعونها لأنها ستكون وسيلتهم للاستحواذ على عائدة النّفط في العراق، وحرمان الشّعب منها انسحب تاركاً مبادئ التّخريب والتّفتت والانحطاط أمينة سليمة مزهرة، فتشبث بها مريدوه من أشباه الرّجال وأوصلوها إلى أقصى دركة سافلة لم يتوقّعها أحد.

هذا تأثير الطّائفيّة، فماذا عن الشّيوخ. الشّيوخ جمع شيخ، والشّيخ في العربيّة هو الكبير العظيم، السّيّد مع جمال ونبل، ويتراوح عمره بين إحدى وخمسين سنة إلى آخر عمره، وقيل من الخمسين إلى الثّمانين، وهو فوق الكهل ودون الهرم وذو المكانة من علم أوفضل أو رياسة، ثم أُطلق مجازاً على ذوي العلم والفطاحل في شتى العلوم دينيّة ودينويّة.فقالوا كان الخليل شيخ الليث، وكان وكان الكسائي شيخ فلان الخ.

لكن من المؤسف أن نرى رجالاً يطلقون على أنفسهم لقب شيوخ زوراً وغشاًّ، وهم ليسوا بفاطحل ولا علماء ولا أنصاف علماء، بل هم شبه أميّين. فأين ما توجّهت ترى قنوات تلفزيونيّة لا تتمتّع بأيّ مصداقيّة ولا إيمان ولا إخلاص للوطن أو للدّين أو للعلم. قنوات يسيطير عليها هؤلاء الشّيوخ المزيّفين، فإذا أنصتّ إليهم تراهم يسبّون فلاناً وعلاناً وفلانة وعلانة، ويعلون شأن فلان وعلان وفلانة وعلانة، إنّ نشاط هؤلاء الشّيوخ نشاط شيطانيّ لا إنسانيّ، لا إسلاميّ، لا وطنيّ مهما كانت نواياهم. إنّهم يؤجّجون الطّائفيّة ويلقون الوقود على لهيبها، ويزيدونها سعاراً، لتغدو في أعين البسطاء المؤمنين حقائق، يدفعهم الإيمان بها إلى تحويلها إلى أفعال، فينخرطون في جيش فلان، ومليشيات فلان، وعصابات فلان، لينعكس إيمانهم الأخرق متفجّرات واغتيالات ونسف وتدمير.

أما المستفيد الوحيد من هذا النّشاط الشّيطاني فهو السّلطة الفاسدة في البلدان العربيّة، فهي تسرق مليارات النّفط غير المحدودة، وتقتل من تشاء وتعتقل من تشاء وتستولي دون حق على ما تشاء بلا معارض ولا رقيب، لأن الشّعب أثبت جهله وابتعاده عن المراقبة وفضل أن يقضي الوقت يشاهد قنوات وتلفزيونات هؤلاء الشّيوخ المزيّفيين وهم يسبّون فلاناً الذّي مات قبل قرون، وشتم مثيله، وترديد قول الشّيخ الفلاني وكيف أفحم الشّيخ العلاني، وكيف فضح شيخ التّفاهة زميله، وكيف رفع شيخ الانحطاط مذهبه وإمامه الى غير ذلك من ألاعيب قذرة.

إن الشّخصيّة التّي يبجلها أو يلعنها هذا الشّيخ المزيّف أو ذاك ماتت وانتقلت إلى رحمة ربها قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، ولن يفيدها مدح أو إشادة هذا الشّيخ الجاهل أو الشّويخ الفاسد، ولن يضرها سبّ وشتم ولعن هذا الأميّ أو ذلك المثقف. لو كان هؤلاء الشّيوخ المزيّفون يؤمنون بالله لأدركوا أنّه هو وحده الذّي يستطيع مكافأة الميت أو معاقبته. لأدركو أنّ كلامهم لا فائدة منه قط. وأن الحساب والعقاب من الله وبيد الله، وأنّه هو وحده من يكافئ الميت بالجنة أو يلقيه في النّار. ألا يفكّر هذا الشّيخ الضّال الذّي شاب شعره ولم يبقَ فيه شعرة سواداء واحدة فيما يفعل أو يقول؟ ما فائدة مدح أو ذمّ رجل مات قبل قرون؟ سبّ وشتم ولعن الميت وذكر مساوئه مرفوض من قبل الدّين والأخلاق والعرف والتّقاليد في جميع بلدان المعمورة. إن كان ذلك الرّجل سيّئاً فلماذا يلوّث الشّيخ فمه بقذارة السّب؟ لماذا يلوّث أخلاقه بأدران الغيبة والنّميمة والكذب والبهتان. كلّ هؤلاء الشّيوخ يدّعون الإيمان بالله وبالإسلام، لكنّ ما يفعلونه مرفوض ومستنكر وملعون بتعاليم الإسلام التّي يدّعي هؤلاء أنّهم يؤمنون بها. إن لم يخجل هؤلاء الشّيوخ من تزييف الحقيقة فليخافوا من الله.

إنّهم يمسخون الوعي، ويملؤون عقول الجهلة بالأوهام والفساد والانحطاط. ألا يدركون أنّنا بنشاطهم المتخلّف أصبحنا الأمة الوحيدة على ظهر البسيطة التّي تلعن عظماءها وتسبّهم وتشتمهم وتحطّ من قدرهم من دون سبب أو تبرير!

من يذهب إلى فرنسا يرى تماثيل نابليون بونابرت وشارلمان ولويس السّادس عشر ووغيرهم ويرأى الشّعب الفرنسي يجلّهم ويحترمهم ويحسن إلى ذكراهم، وكذلك عظماء بريطانيا وغيرها من دول أوربا، وهم بالقياس إلى عظماءنا مجرمين قتلة متجبّرين مخربّين.

قليل من الوعي يا شيوخ السّوء والتّضليل والغش والجهل. عليكم التّوقّف عن نفخ نيران الطّائفيّة والشّقاق والنّفاق. يا أساتذة الشّر وزعماء المعصية.

أنتم مفرّقوا الأمة ومشعلوا حرائقها وزعماء تخريبها وتدميرها.

لماذا لا تسكتوا وتتركوا الشّعب العربي يلتفت إلى حكامه اللصوص ويقاومهم ويحاول تغييرهم؟ أتركوا الشّعب يناضل في تصحيح أوضاعه المزرية، فهو شعب مظلوم يريد ان يأكل لقمة عيش يسد بها رمقه ورمق أطفاله، ويرسل صغاره إلى المدرسة، ويعيش حياته كما يفعل خلق الله في أمكنة أخرى.

أهذا كثير؟

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم