صحيفة المثقف

الإصلاحات الاقتصادية وأثرها على الاستقرار السياسي في تركيا

adil amir"أن الأخطار الداخلية على السيادة الإقليمية للبلاد وعلى المبادىء المؤسسة للجمهورية أصبحت أشد وطأة من الأخطار الخارجية". وشهدت تركيا خلال التسعينات ظهور الهويات الجديدة القائمة على العرق أو التعدد الثقافى، حيث شكل الاسلاميون والأكراد أكبر قطاعين نشطين فى هذا المجال الثقافى. حاولت الدولة التركية أن تماطل أو تقاوم المطالب المتصاعدة لمزيد من المشاركة الديموقراطية واحترام حقوق الانسان. أما من وجهة نظر النخبة الحاكمة فان "انتاج الفوارق وصنع التميزات التى يمكن أن تقوم بتحويل الأيديولوجية الرسمية للدولة تشكل فى ذاتها عدواً للدولة من الداخل". كان صبغ الأمور السياسية بالطابع الأمنى له آثار ذات دلالة على السياسة التركية الخارجية، "فالنظر للأمور بمنظور أمنى بطريقة مبالغ فيها يصل بالأمور إلى منتهاها فى الأزمات الأمنية مع دول الجوار التى لا تشارك تركيا مشروعها الأيديولوجى" . وقد كان هذا بالضبط هو حال العلاقات مع كل من سوريا وإيران، فلسنوات طويلة كانت مشاكل تركيا الداخلية مع الإنفصاليين الأكراد تنعكس على علاقاتها بسوريا. وبالمثل فإن إعلان أن الإسلام الرجعى هو من الأخطار التى تهدد الأمن القومى التركى جاء متزامنا مع أزمة ديبلوماسية كبيرة مع إيران فى فبراير عام 1997. (1) وجاء القبض على زعيم المنظمة الإرهابية حزب العمال التركى فى فبراير 1999 وكذلك مايطلق عليه الانقلاب الحديث ضد التحالف الحكومى الذى كان يقوده حزب الرفاهة فى 28 فبراير 1997 (2) والقرار الذى اتخذته قمة هلسنكى الأوروبية فى عام 1999 بشأن حالة تركيا من كونها مرشحا للعضوية – أدت كل هذه العوامل إلى خلق مناخ سياسى لم يطلق فقط عملية الإصلاح الإقتصادى والسياسى ولكنه مهد أيضا بيئة مريحة لظهور حوار عام حول تعريف تركيا لأمنها القومى. أظهرت عملية 28 فبراير حدود التسامح التى قد يذهب إليها الكماليون فى مواجهة حكومة إسلامية بحيث أصبح ذلك دافعا للأحزاب التالية، وبضمنها حزب "العدالة والتنمية" لتتخذ استراتيجيات أكثر إعتدالاً. وأدى كل ذلك إلى استعادة الثقة الداخلية سياسياً، وهو ما سهل الإنتقال إلى مجموعة الأفكار الإصلاحية وإلى التخلى عن المفهوم الأمنى فى أمور كانت فيما سبق من ِشؤون الأمن القومى. أما الأمر التالى فى الأهمية فى شأن السياسة الخارجية التركية فهو تغير نظرة تركيا إلى الأكراد؛ فمن خلال التأثر بالنموذج الأوروبى كانت الدولة التركية تعترف رسميا بوجود مسألة كردية لكنها بدأت فقط منذ أواخر التسعينات وفى سياق عملية التحديث الديموقراطى فى رؤية المشكلة. وخلال عقد التسعينات كان وضع حقوق الإنسان فى تركيا مثقلاً بسبب الإجراءات المتخذة بغرض إحتواء حزب "العمال الكردى" الإرهابى فى جنوب شرق البلاد. ومن ضمن هذه الإجراءات كان إعلان حالة الطوارىء وقوانين مكافحة الإرهاب التى أعطت مسئولى الأمن سلطات واسعة للغاية وكانت تضيق مجال الحرية الفردية إلى حد بعيد. جاءت الإصلاحات الديموقراطية وتلك المتعلقة بحقوق الانسان والتى دفعتها تركيا الى الأمام خلال العقد الماضى بصفة أساسية ولكن ليس فقط بدافع دعم موقف الأكراد فى تركيا. وفى ذلك فقد كان أكثر التطورات أهمية هو القبض على عبد الله أوجالان زعيم الحزب العمالى الكردى فى فبراير 1999. وعن طريق القبض عليه كان النزاع المسلح بين عسكر تركيا وإرهابيين حزب العمال الكردى والذى أودى بحياة أكثر من 30000 شخص فى جنوب شرق الأناضول قد خمد. وهو من الأمور الهامة جداً حيث أنه نجح فى تأصيل نقل مفهوم المسألة الكردية لدى الجمهور التركى بعيداً عن محور الإرهاب والأمن إلى مشكلة كامنة فى تركيبة الديموقراطية التركية. وانعكس التغير فى الظروف الأمنية على تبنى حساب تكاليف المسألة داخلياً من جانب اللاعبين السياسيين حيث أصبحت الحكومة قادرة على التجاوب بطريقة أكثر إيجابية مع مطالب الاتحاد الأوروبى والتى كانت دائما تعتبر مطالب شديدة الخطورة وعالية التكلفة الأمنية فى ذروة المواجهة الحادة بين الجيش التركى وإرهابيين حزب العمال الكردى من أجل قبول عضويته. وكانت حكومة حزب "اليسار الديمقراطي" هى أول من بدأت العملية الإصلاحية فى شأن الموقف مع الأكراد وذلك بحزمة التوافق التى أصدرتها عام 2001 والتى منعت عقوبة الإعدام واقعياً، وقامت بتعديل قانون مكافحة الإرهاب وسمحت بالبث الإذاعى باللغات غير التركية ومهدت الطريق لإعادة محاكمة جميع الحالات التى ثبت عن طريق محكمة حقوق الانسان الأوروبية أنها تخرق الميثاق الأوروبى لحقوق الانسان . ولكن الواقع يؤكد أن أكثر الإصلاحات شمولاً كان هو الذى تحقق على يدى حزب "العدالة والتنمية" عقب انتخابات 2002 التى جاءت به للسلطة. كان برنامج الحزب محدداً منذ البداية، حيث جنح بعيداً عن المفهوم التقليدى فى هذا الموضوع وذلك بالنص على أن الحزب سوف يسعى لحل المسألة الكردية بالطرق الديموقراطية وبإقرار الحقوق اللغوية والثقافية للأكراد المقيمين فى تركيا . وتمت ترجمة هذا البرنامج إلى أعمال فى العديد من المجموعات الاصلاحية القانونية التى تم اقرارها بين عامى 2002 و2005، والتى ألغت عقوبة الإعدام فى كل الظروف ووسعت من الحقوق الثقافية واللغوية كما ألغت المادة 8 من قانون مكافحة الارهاب، الذى كان يستخدم كأداة لتجريم الناشرين والصحفيين أصحاب الآراء الموالية للأكراد بتهمة مساندة الإرهاب . ألقت الإخفاقات السياسية بظلالها سنوات عديدة على الاقتصاد التركي مما أدى لتحقيقه أداء أقل من إمكاناته الكاملة. كما كان لمستويات عدم اليقين السياسي العالية خلال التسعينيات تأثير سلبي على عدد من المجالات، منها الاقتصاد. خلال هذه الفترة، تُرِك ارتفاع التضخم، وتراكم الدين الخارجي، وزيادة عجز الحساب الجاري الاقتصاد عرضة لصدمات محلية ودولية. أخفقت سلسلة من الحكومات الائتلافية في اتخاذ التدابير اللازمة والسياسات الملائمة. كانت هذه هي الظروف التي شهدت تركيا في ظلها إحدى أشد الأزمات الاقتصادية في تاريخها سنة 2001. عقب الأزمة المالية مباشرة، أسفرت انتخابات 2002 البرلمانية عن إخفاق أحزاب سياسية عديدة في تأمين تمثيل لها بالمجلس التشريعي الوطني، وهكذا فتحت الانتخابات صفحة جديدة في تاريخ البلاد السياسي. فاز حزب العدالة والتنمية فوزًا ساحقًا في انتخابات 2002، وشرع في سلسلة إصلاحات في السياسة، والاقتصاد، والسياسة الخارجية، وغيرها من المجالات الرئيسة التي يشار إليها مجتمعة بـ«تركيا الجديدة». وضعت الانتخابات نهاية لتعاقب الحكومات الائتلافية التي شلّت البلاد 11 عامًا.

بعد تولِّي السلطة أواخر 2002، اتخذ حزب العدالة والتنمية خطوات لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي. خلال هذه الفترة، وضعت الحكومة لوائح جديدة للنظام المصرفي، بهدف الانضباط المالي وخصخصة المشروعات المملوكة للدولة. دشنت سياسات الحكومة فترة من النمو المتواصل. في هذه الأثناء، اتخذ حزب العدالة والتنمية تدابير لتعزيز المالية العامة، وزيادة فعالية المؤسسات العامة، وتجنب الوقوع في فخ الديون. خلال العقد الذي تولى فيه العدالة والتنمية الحكم، أجرت ثلاث حكومات متعاقبة إصلاحًا شاملًا للاقتصاد التركي الذي يفوق أداؤه حاليًّا أداء دول عديدة تعاني أزمات بمنطقة اليورو من حيث مختلف مؤشرات الاقتصاد الكلي.

تقدم هذه الدراسة تحليلًا لاقتصاد تركيا خلال العقد الماضي مع الإشارة لمؤشرات الاقتصاد الكلي، وتحول المالية العامة، والسياسات الاجتماعية الجديدة، وتحسن العلاقات بالمنظمات الدولية، وتغيرات الاقتصاد العالمي عقب أزمة 2008 المالية العالمية. أخيرًا، تقترح الدراسة تدابير لتحسين المكانة الحالي للاقتصاد، وتفصل أولويات تركيا تجاه أهدافها لعام 2023.

النجاح السياسي والنمو الاقتصادي

أدى توسع الأسواق العالمية وتوافر الائتمانات الرخيصة عقب أزمة 2001 المالية إلى زيادة كبيرة في تدفق رؤوس الأموال من الأسواق المالية إلى الدول النامية. خلال هذه الفترة، جعل توافر السيولة الواسع في الأسواق العالمية، مع ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية في تركيا، البلاد وجهة جذابة لرؤوس الأموال.1 نتيجة لذلك، سجل الاقتصاد نموًّا بنسبة 6.2 بالمئة في 2002 متعافيًا من انكماش بلغ 5.7 بالمئة في 2001. بالمثل، شهدت البلاد نموًّا بلغت نسبته 5.3 بالمئة في 2003، و9.4 بالمئة في 2004، و8.4 بالمئة في 2005، و6.9 بالمئة في 2006. خلال هذه الفترة، لم يكن النمو الاقتصادي راجعًا فقط إلى زيادة حجم السلع والخدمات المصدرة، بل لانتعاش الطلب المحلي كذلك. في الوقت نفسه، أسهمت استثمارات أجنبية مباشرة كبيرة في الإنتاج المحلي. بفضل هذه الأسباب كلها، فضلًا عن التدابير الوقائية المتنوعة وبرنامج التقشف الاقتصادي بعد الأزمة، اكتسب الاقتصاد التركي مرونة ضد الصدمات الخارجية وسجل إحدى أسرع فترات النمو منذ 1950 بين 2002 و2007. (انظر الشكل1).

أثرت أزمة 2008 المالية العالمية في الاقتصاد التركي بشكل رئيس من حيث العلاقات التجارية بدرجة ما، وأدت في 2009 إلى ركود بلغ 4.8 بالمئة. نتيجة لفترة الركود، شرعت تركيا تسعى للوصول إلى أسواق جديدة على أمل إيجاد بدائل للاتحاد الأوروبي، وهو الكتلة التجارية التي تضم الغالبية العظمى من حجم التجارة الخارجية للبلاد. أسهم إنشاء صلات تجارية مع أسواق جديدة، بالإضافة إلى ازدياد حجم الطلب المحلي والصادرات في تعافي الاقتصادي التركي.

ضمنت إعادة تركيا لهيكلة قطاعها الحقيقي وإحيائه إمكانية أن تساهم جميع قطاعاتها في النمو الاقتصادي، وأتاحت للاقتصاد أداء جيدًا للغاية في 2010 و2011. خلال هذه الفترة، سجل الاقتصاد التركي نموًّا سنويًّا بمعدل 8.5 بالمئة ليصبح ثاني أسرع اقتصاد نموًّا في العالم، بعد الصين التي بلغ نموّها 9.2 بالمئة في 2011. واصل اقتصاد تركيا وتيرة نموّه بفضل التزام الحكومة بالانضباط المالي والسياسة الاقتصادية المتّسقة، بينما تأثرت دول منطقة اليورو تأثرًا شديدًا جراء الأزمة المالية العالمية. رغم تحقيق الاقتصاد التركي نموًّا متواضعًا بلغ 2.2 بالمئة في 2012 وأخفق في تلبية التوقعات، إلا أن هذا الأداء عرض تنويعة أنشطة اقتصادية مختلفة في تركيا وأظهر حراكًا نسبيًّا لهياكل البلاد الاقتصادية.

عقب أزمة 2001 المالية وفترةِ التراجع اللاحقة، سجل الاقتصاد التركي باستمرار نموًّا سنويًّا عاليًا حتى أزمة 2008 المالية العالمية. على مدى عقد ،2002–2011، شهد الاقتصاد نموًّا متوسطا بلغ 6.5 بالمئة – مما يعد أداءً قويًّا مقارنة بمتوسط نمو 4.7 بالمئة على مدى الثلاثين عامًا الماضية. وفقًا لتقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، ستحقق تركيا نموًّا سنويًّا بمتوسط 6.7 بالمئة بين 2011 و2017 لتصبح أسرع بلدان المنظمة نموًّا اقتصاديًّا.2

كان لأداء البلاد القوي في النمو الاقتصادي السنوي بين 2002 و2012 تأثير إيجابي أيضًا في مستويات الناتج المحلي الإجمالي للفرد خلال نفس الفترة. في 2012، بلغ الناتج المحلي الإجمالي للفرد 10504 دولارات أمريكية مقابل 3492 دولارًا في 2002. في الوقت ذاته، عززت تركيا مكانتها بين البلدان النامية بمساعدة نموها الاقتصادي. لكن هذا التطور جعل ترويج إنتاج منتجات ذات قيمة مضافة عالية ضرورة مطلقة لهذا البلد، لضمان تراكم أكبر للمدخرات المحلية ولإتاحة نمو أكثر وتركيز جهودها على قطاع الأعمال التنافسية لتجنب الوقوع في شَرَك الدخل المتوسط، وهو مشكلة شائعة لدى الاقتصادات النامية. بحسب تصنيف البنك الدولي للدول، الذي يُعرِّف البلدان ذات الناتج المحلي الإجمالي للفرد دون 1105 دولارات بأنها «منخفضة الدخل»، والبلدان ذات الناتج المحلي الإجمالي للفرد بين 3976 و12275 دولارًا بأنها «متوسطة الدخل»، والبلدان ذات الناتج المحلي الإجمالي للفرد فوق 12276 دولارًا بأنها «مرتفعة الدخل»؛ تهدف خطة تركيا متوسطة الأجل لفترة 2013-2015 إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي للفرد إلى 12859 دولارًا بحلول 2015، لتصبح دولة ذات دخل مرتفع حسب معايير البنك الدولي

 

ولعل أبرز هذه الإصلاحات التي أدخلت أنه قد تم، علي سبيل المثال، تبني قاعدة فصل السلطات لأول مرة في دستور عام 1961 كضرورة لا مناص منها في النظام الدستوري، كما أدخل مبدأ المقاضاة الدستورية في نص الدستور من قبل المحكمة الدستورية، ليضمن فعليا حكم عدم مخالفة القوانين للدستور. كما ينص دستور الجمهورية التركية الحالي الصادر عقب الانقلاب العسكري 1982 علي أن السيادة ملك للشعب بدون قيد أو شرط. والشعب يمارس سيادته مباشرة عن طريق الانتخابات وبصورة غير مباشرة عن طريق الأجهزة المختصة،والاجهزه تتمثل في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والسلطة التشريعية هي الأعلي في تركيا ومن اختصاص المجلس الوطني التركي الكبير (البرلمان ) ولا يجوز التنازل عنها، أما السلطة التنفيذية فهي بيد رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، بينما السلطة القضائية فهي من اختصاص المحاكم المستقلة. فوفقا للدستور الحالي؛ تركيا دولة قانونية وديمقراطية واجتماعية تعتمد علي قاعدة فصل السلطات في دستورها، وبالتالي فإن هذه القاعدة القائمة علي سمو القوانين جعلت مراقبة أعمال السلطة التشريعية من اختصاص المحكمة الدستورية، وأعمال السلطة التنفيذية وممارساتها من اختصاص القضاء الإداري.

وبالنسبة لأسس نظام الدولة: يقرر دستور الجمهورية التركية أن تركيا دولة جمهورية، ودولة قانونية تراعي حقوق الانسان، وترتبط بمبادئ أتاتورك ونهجه القومي، وتستند الي النظام الديمقراطي العلماني الاجتماعي. ويقر الدستور النظام الديمقراطي التمثيلي نمطا للبلاد ولا يسمح لأحد او لأي جهة استعمال سلطة الدولة من دون سند دستوري. الأصل في الدستور نمط الدولة الموحدة ومبدأ الشعب الواحد فالشعب واحد والوطن كل لا يتجزأ والدولة موحدة. بالنسبة للعلمانية، يقر الدستور التركي كحكم ثابت استحالة تطبيق القواعد الدينية ولو جزئيا، في كيان الدولة السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقانوني. كما لا يجوز اطلاقا لأي كائن أن يسيء استخدام المشاعر الدينية وقيمها المقدسة بغرض تحقيق مآرب سلطوية أو سياسية أو مصلحة شخصية. كما اقر الدستور مبدأ الدولة الاجتماعية بقصد الوفاء بضروريات النهج التقليدي للدولة القانونية، وأنيطت بالدولة مسؤولية حماية الضعفاء وغير القادرين إزاء الأقوياء وتحقيق العدالة الاجتماعية والتأمين الاجتماعي.

يتضح من المواد السابقة في الدستور التركي أن هناك تاكيداً علي الهوية الواحدة التركية في إطار التأكيد علي الاستقلال النسبي للدولة في مواجهة المجتمع، والحسم في قضايا قد تفتح الباب لإضعاف دور الدولة مثل موضوع الهوية والدين والحفاظ علي المبادئ الكمالية في مقابل أن الدستور يحدد وظائف الدولة تجاه المجتمع، ومن ثم نلحظ نوعاً من الانسجام بين نصوص الدستور والممارسة السياسية علي أرض الواقع، وهو ما يؤكد علي أن الدولة تكون مستقلة ذاتيا عندما يتم توزيع التفضيلات في شكل أدوار سلطوية، كما يمكن النظر أيضا الي الدولة باعتبارها القلب أو الجوهر الذي يقوم بوظيفتين أساسيتين: الأولي مركزية صنع القرار بواسطة السلطة التنفيذية، وبواسطة الطبقة البيروقراطية العليا والثاني الإدارة. ومن هنا فنجاح الدولة في القيام بوظائفها يرتبط باستجابة الفاعلين داخل المجتمع، حيث عندما تكون هناك استجابة للمطالب تقل تكلفة ومخاطر الوظائف السلطوية التي تقوم بها الدولة، وهو الأمر الذي يجعل التساؤل يدور حول الي أي نمط تنتمي الدولة التركية؟ هل هي تنتمي إلي نوع الدولة القوية، حيث تتمتع باستقلالية عالية في مقابل وجود دعم وتأييد لسياستها من قبل المجتمع أم أنها تنتمي الي الدول الضعيفة، والتي تكون درجة استقلالها الذاتي منخفضاً في نفس الوقت الذي يكون التأييد والدعم لسياستها منخفضا ايضا؟ فمنذ قيام الجمهورية التركية وقد حدثت ثلاثة انقلابات عسكرية، وقد تم تغيير الدستور في عقب انقلابين هما : انقلاب 1961، وانقلاب 1980، وهذه الانقلابات العسكرية والتعديل الدستور الذي أعقبها كان يعبر في شكل كبير منه علي الدولة التركية القوية واستجابتها للمجتمع، علي اعتبار أن المؤسسة العسكرية التركية من أقوي مؤسسات الدولة التركية وأكثرها تنظيما : فهي بمثابة سلطة عليا تقع فوق الدستور ومؤسسات الدولة الأخري بما فيها الهيئات المنتخبة. وهذا الوضع للمؤسسة العسكرية عمل علي تقوية الدولة والمجتمع في نفس الوقت علي خلاف ما يظن البعض خصوصا اذا ما كانت هذه المؤسسة تمثل الدرع الواقية لقيم المجتمع التركي والعلمانية التركية والهوية التركية الواحدة، وبالتالي فهي تمثل بطريق غير مباشر ضمانة لهذه القيم الدافعة للديمقراطية والتنمية، ومن ثم عند النظر الي الحالات الثلاث التي تدخل فيها الجيش نجدها كانت لصالح الدولة التركية وهويتها العلمانية، والذي ساعد المؤسسة العسكرية التركية علي القيام بهذا الدور موقعها ليس فقط في مؤسسات الدولة وإنما أيضا داخل المجتمع فهي تعتبر جزءاً من المكون الثقافي للمجتمع، ومن ثم يمكن اعتبارها تعكس نوعاً من الرأسمال الاجتماعي له. فالمؤسسة العسكرية تحظي باحترام وتقدير من قبل المجتمع، حيث إن الإلتحاق بها يشكل علامة فخر لصاحبها وأسرته. وفي هذا الإطار كانت المؤسسة العسكرية أحد الأضلاع في قوة الدولة التركية وعلامة علي استقلاليتها في مواجهة المجتمع.

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم