صحيفة المثقف

نسقيات المعجزة عند الانبياء

sadam alasadiبعد ان تعرفنا عبى المعجزة في الدلالة واللغة والاصطلاح وترتيب نزولها على الانبياء في الفصلين السابقين لابد وان ندرس اثر المعجزة ونحن ادركنا ان المعجزات كثيرة (بل كل نبأ من انباء الغيب معجزة)[1] .

و انه ليروعنا هذا الاعجاز اذا لاحظنا تلك الكثرة الغامرة التي تتخلف منها نبوءة واحدة بل وقعت مع دعوة كل نبي ولولاها لما اعتقدت الناس بحصولها وقد حصل الشك وعدم الاقتناع، ولو تخلفت واحدة لقامت الدنيا وقعدت ولكن كل نبي ومعجزته ومدى تأثيرها على قومها الذين دعي اليهم فكانت سفينة نوح ما يناسب حال قومه الذين عكفوا على عبادة غير الله واتخذوا الاصنام الهة يعبدونها وقد فشى الفساد بينهم كما فشى تسلط ذوي المال والجاه والمركز (فان دل هذا على شيء فأنما يدل على بعد المسافة بين عهد ادم (عليه السلام) ابو البشر الاول وعهد نوح (عليه السلام) الاب الثاني وكلنا يسمع ويقرأ قصة نوح ولكن ربما القليل[2] منا يدرك بان ذكر نوح قد ورد في 28 موضعاً في القرآن واختص ذكره في سورة باسمه فان دل ذلك على شيء فإنما يدل على انه من الآيات المعجزات التي تذكر بعظمة القران وبلوغه الذروة في الاعجاز حيث يعبر عن الموضع الواحد بعبارات مقدرة يشبه بعضها بعضا مع الاجمال والتفضيل والايجاز والتطويل .

ولابد هنا من تقديم تلك الموازنة بين معجزة نوح (عليه السلام) ونبينا محمد (صل الله عليه واله) ونستطيع ايجازها بالنقاط الاتية :

1-   كان بدء الدعوة عندها سرا ثم امر الله بإظهارها فلاقيا العصيان وصبرا كثيرا (قال رب اني دعوت قومي ليلا ونهارا)[3] .

2-   ان اول من امن بهما المستضعفون والفقراء (ما نراك اتبعك الا الذين هم اراذلنا)[4] .

و قد كان قوم نوح ممن امنوا به كانوا قلة ظل يحاورهم ويجادلهم ولم يجد ذلك شيئا بينما نجد اغنياء مكة وكبراؤها يرضخون في النهاية ويسلمون لما اقتنعوا بمعجزة النبي محمد (صل الله عليه واله) .

3-   ان حياة الناس كلها تتهالك وراء زيف قيادات مظللة ذات سلطان ومال، قوم نوح استكبروا واظلوا واصروا على الكفر ذلك ان رؤساءهم وذوي الجاه فيهم كانوا يغرونهم وينمقون لهم الحياة الدنيا ويذكرونهم بدين ابائهم واجدادهم ليجعلوا الناس متمسكين بدينهم الاول وهكذا كان مجتمع مكة الذي كان مستكبرا وخاصة اهل الجاه والمال والحسب والنسب امثال ابي جهل وامية وغيرهم .

4-   قوم نوح عاملوه بأساليب سطحية التفكير لا يعلمون ان النبي عندما يبشر قومه ويدعوهم يستطيع ان يمتلك الدنيا وانهم لا يريدون سوى الجاه والمال ولذا بدأوا يفكرون بامالة النبي واعطائه المال ليكف عن دعوته وهكذا حاول اهل مكة اغراء الرسول (صل الله عليه واله) بالمال والسلطة لكن الصمود والصبر اقوى من اغرائهم، حيث قال الرسول (صل الله عليه واله) : (و الله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على ان اترك هذا الامر ما تركته حتى يظهره الله او اهلك دونه)[5] .

5-   موقف اليأس من القوم الضيق بهم والاستسلام لله ومناجاة ولكن هذا الموقف متشابه عند كل الانبياء وبعدما يأس نوح من قومه قال على لسانه جاء في القران : (رب انهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده الا خسارا)[6]

و اما النبي محمد (صل الله عليه واله) يترك مكة ويذهب الى الطائف ولكن يلحقه اهل الحجارة فيستند الى جوار حائط يدعو ربه، وهكذا صبر النبيان على اذى قومهما .

6-   محاولة التخلص من النبي والدعوة التي جاء بها فيتجهون الى المسائل المعنوية فيتهمونه بالجنون والسحر وغير ذلك فلا يجدي اغراءه بالمال فيسفهون اراءه ثم يطبقون عليه فيحاولون التخلص منه فيهددونه بقولهم         (لتكونن من المرجومين)، ولذا كانت المعجزة سلاحا مباشرا لبقاء دعوة النبي وتسكيت ادعاءاتهم واكاذيبهم وعلى الاقل لفت الانظار اليها وتحديهم بها والا ما جاءت برهانا وحسب بل انها حالة مهمة لابد ان تقدم رسالة النبي لذلك كان قوم محمد (صل الله عليه واله) يكيدون له ويطلبونه وهو خارج لصلاة الفجر لكن الله ينجيه وحق عليه ان ينجي خير عباده واولياءه المقربين ولذا باتت محاولات الكافرين فاشلة حين يتربصون بالأنبياء ومن هنا نتوصل الى (ان ذكر نوح (عليه السلام) ما كان لمجرد سد قصة تاريخية وانما كان للعبرة والعظة كان دليلا على وحدة العقيدة منذ زمن نوح والذي كان نبيا لأول مجتمع يصح ان يطلق عليه مجتمع الى زمن النبي (ص) [7] .

ان معجزة نوح تمثل قصة المجتمع الذي استكمل صورته (و انه اول مجتمع جعله الله موضعا للعبرة والعظة)[8] .

ان اكثر ما يميز عصر نبي الله نوح (عليه السلام) تبلور عبادة الاصنام وانتهاءه الى الجمود والجحود الذي يسلمنا الى مدى ما لقي نوح من العنت والشقاء في سبيل اعادتهم الى حظيرة الدين وعبادة الله وحده، لكن دون جدوى الامر الذي جعله يسلم امره الى الخالق الذي بدوره ارسل عليهم الطوفان عذابا منه ليكونوا عبرة لمن يعتبر بعدهم، وطال الزمن وقومه في غي وظلال يضعون اصابعهم في اذانهم لكي لا يستجيبوا للدعوة ولما زاد في دعوتهم وارشادهم كلما ازدادوا اعراضا وظلالا كل هذا بالرغم من كونه يعطيهم من ادلة حسية وعقلية وحين طالت مدة الدعوة وطال الجدال بين نوح وقومه فطفح الكيل عند القوم فجاءوا اليه فقالوا (يا نوح قد جادلتنا كثيرا فاتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين)[9]، وحين انتهى صبر النبي فيأس ويشكو امره الى الله وقد بلغ الانتظار به 950 سنة فاعلمه الله انه لم يبق في اصلاب الرجال مؤمن ولا مؤمنة)[10]، وهنا حق العذاب على من لم يؤمن وحان اتيان المعجزة لتبرهن الفارق بين الايمان والكفر وبين الخير والشر فكانت السفينة وقد اخذت الوثنية منهم كل مأخذ ولم يعد في الاستطاعة ارشادهم (رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا انك تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الافاجرا كفارا)[11]، وهنا بدأ الخوف عليهم وقالوا لنوح اتدعوا علينا وانت بين اظهرنا لتخرج عنا انت ومن معك فيعود الى طمعه في ايمانهم فيقول لهم (ان امنتم بالله غفر لكم وعفا عنكم فما كان منهم الا ضربوه ضربا موجعا وهنا حن دور المعجزة لتحسم الموقف فاخبره الله بالطوفان بعد اربعين سنة بصناعة الفلك لينجيه به ومن معه وهنا انقسم الناس الى فريقين الاول يأخذ باسباب النجاة ويعمل مع اهل الايمان والثاني ضل السبيل بسبب زيف قياداتهم وزيف المال والجاه وتغيير الحقيقة ثم انتهى العمل بها وكانت على ثلاث طبقات في الاولى وضعت الدواب والوحوش من كل زوجين اثنين وفي الثانية وضعت الانس وفي الثالثة وضعت الطيور ومن كل زوجين اثنين وقد حدثت علامة الطوفان حين فار التنور وحزن نوح على قومه الذين لم يهتدوا حزنا شديدا (و ظلت السفينة ما يقارب الستة اشهر تطوف البلاد من الشمال الى الجنوب ومن المشرق الى المغرب ثم رست على جبل الجودي والذي يقال انه جبل من جبال الجنة)[12]، وحين توقف نزول المطر ابتلعت الارض الماء وخرج القوم من السفينة الى الحياة ثم بعث نوح غرابا يستطلع الحياة وهل بقي من الماء شيء ولكن الغراب لم يعد لاشتغاله بجثة حيوان قد غرق فنسي ما ارسل اليه فبعث نوح حمامة فعادت من ارض اليمن مخضبة القدمين بطين الارض وتحمل عرق الزيتون في منقارها فباركها نوح وبارك شجرة الزيتون ودعا على الغراب ومن هنا كانت محبة الانسان للحمامة وكرهه للغراب[13] .

و هذه المعجزة الخاصة بالطوفان والحاصلة في عهد نوح (عليه السلام) وقف عندها العلماء فاختلفوا في تفسيرها وهي تحمل تفاصيلا وعبرا وقيما توجه الانسان الذي يطغى ويختار الحياة الدنيا ويتجاهل قدرة الله واحقية عبادته وطاعته والسير على خطى رسالة العظماء وما ان يطلع الانسان على سورة نوح في القران الا وتركت في الانسان حبا في النفس واعجابا وتقديرا لذلك المجاهد النبيل وان المشاق والمتاعب والتضحيات والالام انما هي الطريق الوحيد الذي ينتهي بالانبياء الى درجة الكمال .

و مما جاء في دلالة المعجزة المتعلقة بسفينة نوح امر النبي لقومه ان يركبوا في السفينة معتمدين على حول الله وقوته : (اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها أن ربي لغفور رحيم)[14] .

و يفتتح الله بها وحيه في مرحلته الاخيرة (اقرأ باسم ربك)[15]، ثم توضع رمزا واحدا في سور القران لترتبط بمعناها قلوب المؤمنين كلما قرأوا وكلما عزموا على امر ذي بال .

و عندما انزل الله تعالى الانبياء واحدا بعد الاخر وكل واحد يحمل معجزته، فابراهيم (عليه السلام) حين يلقى في النار ومع هذا الجبل من الحطب الذي جمعه القوم ثم تشعل فيه النار فيخرج سالما معافى (يا نار كوني بردا وسلاما) ماذا يعكس امام القوم ؟ انها معجزة اراد الله بها البرهان ولكن الاقوام لم تتعظ وقد تتفاوت بينها الازمان، ثم معجزة يوسف عليه السلام تلك المعجزة التي كانت في وقتها مختلفة عن معجزة الانبياء الذين سبقوه، فكيف يلقى في البئر وتأخذه السيارة وماذا حصل له من مواقف وصراعات حتى يستلم الوزارة وهو يبدأ من نقطة الصفر وقد كان الاعتداء عليه من اخوته حتى اكتملت معجزته (اني رأيت احد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) سورة يوسف .

و هكذا قدم الباري عز وجل قضية يوسف معجزة تعكس ايته العظمى غرس روح الايمان في الانسان وكيف تكون نهاية الصبر وهذا ما سار عليه يوسف، الصبر على عذاب اخوته، والصبر على البئر وفراق ابيه، ثم الصبر على زليخة وتهمتها وحياته في السجن، حتى خرج من الامتحان ناجحا فائزا، وكانت دلالات تلك المعجزة تضاف للمعجزات السابقة لما فيها من صبر وايمان وتيقن شديد بالله الخالق الاوحد الذي لا ينسى عبده المؤمن في المحن والشدائد .

و ليس مثل معجزة يونس معجزة ان يبتلعه الحوت في وسط البحر ويخرج من فمه معافى ويقذفه على ضفة البحر وهذه القصة تعطي الناس درسا للأيمان وعدم اليأس الى اخر لحظة ان الله لا ينسى عبدا ابدا، وهكذا كانت معجزات الانبياء تعكس براهينها وترسم ابعادها التربوية والسلوكية للانسان كي يعتقد ويؤمن ويصفي نيته بالأيمان والا لماذا تنوعت تلك المعجزات وكل نبي قد تمثلت له قضية تختلف عن الاخر .

فان ناقة صالح التي كانت حجة للنبي يثبت بها يقينه لما يدعو اليه وهو عبادة الله الواحد الاحد قائلا لهم ما ادعوكم اليه هو من عند الله لا من عندي قال لهم (يا قومي هذه الناقة التي شرفها الله بإضافتها الى اسمه تعالى (ناقة الله لكم اية) لها صفة خاصة مميزة تعلمون منها انها اية بينة دالة على هلاككم ان خالفتم امره تعالى فاتركوها تأكل وتشرب على النظام الذي بينته لكم واحذروا ان تمسوها بسوء فيعاجلكم العذاب المقدر لكم في علم الله .

و لم يأبه القوم بهذا الانذار وذبحوا الناقة ونجى الله صالحا ومن امن معه برحمة منه تعالى من عذاب الدنيا ومن الخزي والذل والفضيحة في اليوم الاخر، فالمعجزة بيان لهم وبرهان على صدق النبي ولما خالفوها نالوا جزاءهم الذي يستحقونه وقد كانت ثمود ميتة اشر ميتة فأصبحت جاثمة في دورها بعد الصاعقة ومشهدها المريع وخربت ديارهم لكفرهم وعصيانهم وعدم اقتناعهم بالناقة كدليل وشاهد على صدق دعوة صالح عليه السلام، ثم ان الخطاب موجه الى النبي محمد (صلى الله عليه واله) ان الآيات الكريمات هذه جاءت لتخفف من همه وتفكيره وعدم التراجع امام دعوته عندما يرى تلك المواقف وانه ليس اول من اوذي وكذب فما هي الا قصة مكررة مع كل الانبياء يتصدى لهم السفهاء من اقوامهم والمترفون المغرقون بالملذات المتسلطون على رقاب العباد بالباطل فما يلقى منهم الانبياء الا السخرية والاستهزاء والاصرار على الكفر والعناد حتى يحل بهم غضب الله وهكذ كان قوم لوط (عليه السلام) الذين كانوا يستعجلون الهلاك كفرا واستهزاءاً به فلما جاء امر الله ونفذ قضاءه جعل عالي القرية سافلها وخسف ارضها وامطر عليها حجارة من طين متتابع بعضه اثر بعض وسها علامة لا تنزل على غيرهم وغير هذا العذاب الصارم الا رد فعل لنكرانهم وجود الله وتحديهم المعجزة التي لن يصدقوا بها .

و هكذا ايضا تعامل قوم شعيب (عليه السلام) بسخرية فانكروا عليه ذلك قائلين (اصلاتك الكثيرة اثرت في نفسك فجعلت منك واعضا ومرشدا لنا بترك ما كان يعبد اباؤنا من اصنام، وكان رده الاصرار على الاصلاح والامر بالمعروف والتمسك بالفضيلة وقد تحدث لهم في مصارع قوم نوح وهود وصالح وقوم لوط (عليهم السلام) لان هذه تصرفاتهم تدل على المعصية والكفر والتكذيب وهكذا يطوف بهم سيدنا شعيب (عليه السلام) في مجالات العظة والتذكير والخوف والطمع لعل قلوبهم تخشع وتلين ولكن القوم ازدادوا كفرا قائلين (لولا رهطك لرجمناك وما انت علينا بعزيز) وعندئذ تأخذ شعيبا (عليه السلام) الغيرة على جلال ربه القوي الجبار فيترك الاعتزاز برهطه وقومه قائلا (امضوا في طريقم الذي اخترتموه فقد نفضت يدي منكم واني عامل على طريقي وفهمي وسوف تعلمون بعد ذلك الشقي، وجاء تعذيبهم فنجى الله شعيبا والذين امنوا معه واصبحت ديار مدين خاوية كأنهم لم يقيموا فيها وقتا من الاوقات فطويت صفحتهم من الوجود واستحقوا اللعنة .

و جاء موسى يحمل الايات والادلة على نبوته وصدق دعواه، فدعا فرعون واشراف قومه الى عبادة الله فعارض فرعون وعز عليه ان يعبد قومه غيره، وكانت العصا خير معجزة على تحدي سحرة فرعون ولم يقتنعوا ثم خروج يده بيضاء للناظرين فلم يقتنعوا حتى انفلاق البحر لموسى والسير عليه ماشيا وكل هذه المعجزات الخارقة تتحدى اهل السحر الذين بلغوا بسحرهم العجائب ولم يقتنعوا بها وقد كانت معجزات موسى غرائب عصره لهؤلاء القوم الذين لعبوا بالسحر والشعوذة ما لا تلعبه الازمان، وكل هذا قد تحايلوا على موسى وارادوا قتله وازدادوا عصيانا فعاقبهم الله بسبب ما ارتكبوه من المعاصي .

ان تلك المعجزات الكبرى التي فاقت ازمنتهم لم تؤثر فيهم واستمروا على عصيانهم ونالوا عقابهم، وكلها دروس تقدم للنبي لتسليته وتثبيت قلبه فقد اجهد نفسه في هداية قومه وحرص على دعوتهم الى الايمان وهم لا يزيدون الا عنادا واستكبارا، فيشق ذلك على نفس الرسول (صلى الله عليه واله) وقد اراد الله ان يطلعه على حقيقة امر الناس وان الهداية بيد الله هو الذي يتولى امر خلقه وقد طمأن الله الرسول (صل الله عليه واله) بانهم لن يفلتوا من عقابه ولابد ان يريه الله ما يحل بهم جزاء عنادهم وقد حقق الله وعده للرسول واراه شيئا من عذابهم في يوم (بدر) اصابهم ما اصابهم من القتل والتنكيل والاسر والذل والعر وكذلك يوم فتح مكة ويوعز الله للرسول ان يتمسك بالقران والذي هو معجزته الكبرى .

و جاء القران اخر المعجزات ليتحدى العرب فهم متطورون على حب البلاغة والادب والشعر، وجاء القران افصح من خطبهم واشعارهم، ابلغ اسلوبا ومعنى ليجد السبيل الى قلوب الناس .

و لكن زعماء الشرك ابوا الاذعان للدين الجديد وللمعجزة الكبرى فبدا التحدي عندما قالوا ان القران هو شعر وهو سحر وهو اساطير الاولين ورموا النبي بالكهانة والجنون .

(و لما كان من عادة العرب ان يتحدى بعضهم بعضا في المساجلة والكلام والمقارضة بالقصيد والخطب لهذا تحداهم القران في آيات كثيرة ان يأتوا بمثله او بعضه)[16] .

ان حكمة هذا التحدي وذكره في القران انما هي ان يشهد التاريخ في كل عصر يعجز العرب عنه وهم الخطباء والفصحاء اللسان، وقد كانت الطريقة التي سلكها القران في تحديه لهم لمعجزة (قل فاتوا بكتاب من عند الله هو اهدى منهما اتبعه ان كنتم صادقين فان لم يستجيبوا لك فاعلم انما يتبعون اهواءهم)[17].

و قد طلب القران منهم في هذه الاية انشاء كتاب مثل القران وكان قد نزل قبلها 47 سورة [18]، وهكذا حارت العرب في امرها لا تدري كيف تأتي بكتاب مثل القران حتى خاطبهم القران متحديا (قل لئن اجتمعت الانس والجن على ان يأتوا بمثل هذا القران لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)[19]، ومضى القران خطوة اخرى في تحديهم فلم يطالب بكتاب ولكن بعشر سور (قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين)[20]

ثم مضى القران ثالثة مطالبا الاتيان بسورة واحدة (فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله ان كنتم صادقين)[21]، وهذا القضاء الحاسم والتحدي ليس قضاءا بشريا ومن الصعب بل من المتعذر ان يعقله احد ان ليس من البشر بل من الله .

و عندما سمع العرب آيات التحدي وانتشرت فيما بينهم ودارت على الالسنة فبدأ عجزهم وظهر ضعفهم عن مجاراة هذا التحدي .

ثم امتدت الاجيال وتوالت العصور والعلماء والادباء والبلغاء في كل عصر يعترفون بإعجازه ويقرون بقصورهم عن بلوغ منزلته من الفصاحة والبلاغة والبيان واين الفحول من الشعراء والخطباء امام القران وكل منهم قد اذعن وانبهر بالقران بل خشع وخضع وايقن انه وحي السماء .

اذن اقتضت حكمة الله ان تكون معجزة محمد من جنس ما اشتهر العرب بالنبوغ فيه (لان كل رسول تكون معجزته من جنس ما نبغت فيه امته وقد تعرضنا لهذه الفكرة في مبحث سابق [22]، بان قوم موسى اشتهروا بالسحر فكانت المعجزة السحر، وقوم عيسى اشتهروا بالمعارف والطب والحكمة فكانت معجزته ابراء الاكمة والابرص تحديا لهم في الوقت الذي عجزوا فيه عن علم اشتهروا به .

و لهذا لما كان قوم فرعون اهل علوم رياضية وطبيعية واولي موسى سحر وصناعة اتى الله رسوله موسى آيات كان السحرة والعلماء اعلم الناس بها بانها من عند الله لا من كسب موسى وما العصا التي انقلبت حية تسعى فلقفت حبال السحرة الا شاهدا على ذلك .

ان عجائب الرسل السابقين الدالة على صدق نبوتهم هي وقائع تنقضي يراها الذين عاصروا الانبياء فيؤمنون حق الايمان بمن جاءت على يدهم ولا يراها الذين ياتون من بعدهم بل تصل اليهم بالأخبار فيضعف تأثيرها على الامم التالية، وهذه المعجزات توافق عقول تلك الازمان التي كان فيها العقل في طور الطفولة والان بعد ان ترقى العقل وكثرت المعارف ودخلت الشبهات على الاديان ضعف تأثير هذه المعجزات على اتباع الاديان وبالاحرى ضعف الايمان وسرى الالحاد فكان الدين بحاجة الى دلائل وبراهين على صحته .

و مما يجهله الناس ان الاسلام سار على غير سمة الاديان التي كانت قبله وسن نهجا جديدا في البرهان على صحته وعلى انه من عند الله فالقران هو الكتاب المعجز للبشر وبهدايته وتشريعه واسلوبه ومعانيه التي تتميز بخلودها وبقاؤها على الزمن فقد انزل القران بعد ان ترقى العقل البشري فكان البرهان الذي يتفق مع هذا الرقي، وقد جاءت معجزة النبي (صل الله عليه واله) بالقران وثمة ميزات ثبتت عدم امكانية البشر ان تأتي بمثله ولو بحرف واحد .

1-   اسلوب القران ليس وضعا انسانيا ولو كان من وضع انسان لجاء على طريقة تشبه اسلوبا من اساليب العرب او من جاء بعدهم [23] .

2-   وزن القران وايقاعه الموسيقي يتخذ الالفاظ العذبة ونظمها مع نسق خاص يبلغ من الفصاحة ارقى درجاتها فعند الايقاع تتفق الاية مع وزن بحر من بحور الشعر وليس معنى ذلك ان القران هو شعر فهو لم يقصد اليه الا انه جمع بين مزايا النثر والشعر جميعا فقد اعفى التعبير من قيود القافية والتفعيلات الثابتة فنال بذلك حرية التعبير الكاملة [24] .

3-   التشبيه في القران : وقد جاءت التشبيهات في القران تستمد عناصرها من الطبيعة التي تؤثر في السامع لانه يدرك عناصرها ويراها قريبة منه .

4-   الاستعارة في القران وحكمة ذلك اظهار الخفي وايضاح الظاهر الذي ليس بجلي بصورة اجلى واوضح وقد احتوى القران على صنوف من الاستعارة .

5-   الايجاز في القران : ان القران يدل بالكلمة الواحدة وبالكلمات المختصرة على معان متعددة يطول شرحها واذا اراد المتكلم البليغ التعبير عن المعاني التي ارادها القران .

6-   الامثال في القران : ذكرت للوعظ والتذكير والاعتبار والتقرير وتقريب المراد للعقل في تصويره بصورة المحسوس لان ذلك اثبت في الاذهان واسرع الى اقناع الوجدان، مثال ذلك (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما اضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) [25]

7-   اشتمال القران على انباء غيبية : من الدلائل على اعجازه وكونه وحيا الهيا اشتماله على انباء غيبية صدقتها الحوادث وهذه النبوءات تشتمل على تأثيرات الله بانه سينصر المسلمين على اعدائهم ومن الانباء الغيبية قصص القران ومعجزاتهم التي هي قلب موضوعنا هذا تلك الانباء التي اتى بها القران الاخبار عن قصص الاولين من الانبياء من غير انحطاط عن الكلام الجزل بأبلغ كلام وتناسق لا يعرف له مثيل وهذا وجه نورده من باب المجاز القران لان النبي محمد (صل الله عليه واله) لم يكن كاتبا ولا قارئا ولا عرف عنه انه يجلس الى احبار اليهود ورهبان النصارى ثم جاءت هذه القصص من القران كقصص ابراهيم ويوسف وموسى وعيسى (عليهم السلام) دليلا على انه وحي يوحى فالقصص في القران تحمل المعجزات التي لا يقصد بها تاريخ الرسول ولا تاريخ قومه وانما المقصود بها ما في القصص من دروس وعبر فيها هدى وعظة لكل داع الى الحق ولكل مدعو اليه .

8-   معجزات القران العلمية في تحقيق وحدة الكون وسر الحياة ونشأته وتمدد الكون وسعته وتحركات الشمس والقمر والارض ووجود احياء في السماء ونقص الاوكسجين في المرتفعات وتقسيم الذرة والزوجية في كل شيء وتلقيح السحاب واهتزاز الارض بسبب المطر وكل شيء .[26]و لتأكيد دقة المعجزات نود ان نمثل بأمثلة لها تكشف عنها في وسائل متنوعة :

1-   معجزة يكشف عنها التاريخ الحديث قال تعالى : (قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله)[27]

ذلك ان اسم عزير لم يكن معروفا عند بني اسرائيل الا بعد دخولهم مصر واختلاطهم باهلها واتصالهم بعقائدها ووثنيتها واسم عزير هو (اوزيروس) كما ينطق به الافرنج او عوزر[28]

و هذا سر من اسرار القران لم يكتشف الا بعد ظهور حقيقة ما كان عليه قدماء المصريين في العصر الحديث وما كان شيء في ذلك معروفا في الدنيا عند نزول القران حتى ان اعداء الاسلام كانوا يصوغون من جهلهم بهذه الحقيقة التاريخية شبهة يلطخون بها وجه الاسلام ويطعنون بها في القران، فقال اليهود منهم ان القران يقول لنا ما لم نقل في كتبنا ولا في عقائدنا واتى دعاة النصرانية منهم بما شاء لهم ادبهم من السب والطعن .

2-   معجزة يكشف عنها الطب الحديث من الناس من يتوهم ان في صيام رمضان وهو ركن من اركان الاسلام مضرة تلحق بالصائم لما يصيب الجهاز الهضمي خاصة وغيره عامة .

3-   معجزة يكشف عنها علم الاجتماع .

ان هذا النجاح الباهر الذي احرزه القران في هداية العالم فقد وجد قبل النبي (صل الله عليه واله) انبياء ومصلحين وعلماء ومشرعين وفلاسفة واخلاقيين وحكام تسنى لاحد من هؤلاء بل ما تسنى لجميعهم ان يحدثوا مثل هذه النهضة الرائعة التي احدثها محمد (صل الله عليه واله) في العقائد والاخلاق وفي العبادات والمعاملات وفي السياسة والادارة وفي نواحي الاصلاح الانساني كافة وما كان لمحمد ولا لالف رجل غير محمد ان يأتوا بمثل هذا الدستور الصالح الذي احيا موات الامة العربية في اقل من عشرين سنة من البعثة ثم نفخ فيهم من روحه فهبوا بعد وفاته ينقذون العالم ففتحوا ملك كسرى وقيصر ووضعوا رجلا في الشرق ورجلا في الغرب وخفقت رايتهم على نصف المعمور في اقل من قرن، فهل هذا سحر ام برهان عقلي لمحه المنصفون فاكتفوا من محمد (صل الله عليه واله) بهذا النجاح على انه رسول من رب العالمين .

و قد ذكر احد فلاسفة فرنسا (ان محمدا كان يقرأ القران خاشعا اواها متألها فتفعل قراءته في جذب الناس الى الايمان به ما لم تفعله جميع آيات الانبياء الاولين)[29] .

اجل لقد صدق الرجل فان فعل القران في نفوس العرب كان اشد وارقى وابلغ مما فعلت معجزات جميع الانبياء وان شئت مقارنة بسيطة فالنبي موسى عليه السلام قد اتى بني اسرائيل بآيات باهرة من عصا يلقيها فاذا هي ثعبان مبين ومن يد يخرجها فاذا هي بيضاء للناظرين ومن انفلاق البحر فاذا هو طريق يابسة يمشون فيها ناجين امنين الى غير ذلك من الايات الكثيرة في مصر وطور سيناء، فهل تعلم مدى تأير هذه الآيات في ايمانهم بالله ووحدانيته واخلاصهم لدينه ونصرة رسوله، انهم ما كادوا يخرجون من البحر بهذه المعجزة الالهية الكبرى ويرون بأعينهم عبدة الاصنام والاوثان حتى كان منهم ما حكاه القران (و جاوزنا ببني اسرائيل البحر فاتوا على قوم يعكفون على اصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا الها كما لهم الهة قال انكم قوم تجهلون) .

و لما ذهب موسى لمناجاة ربه واستخلف عليهم اخاه هارون (عليهما السلام) نسوا الله تعالى وحنوا الى ما وقر في نفوسهم من الوثنية وخرافاتها فعبدوا العجل كما تحدثت سورة الاعراف (و اتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار الم يروا انه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا) .

و لما دعاهم موسى الى قتال الجبارين ودخول الارض المقدسة التي كتب الله لهم ابوا وخالفوا والاستهزاء على الجلاد والنزول الى ميادين الجهاد (قالوا يا موسى ان فيها قوما جبارين وانا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فان يخرجوا منها فانا داخلون) [30]، واذا كان هؤلاء اصحاب موسى انظر الى اصحاب محمد (صل الله عليه واله) كيف تأثروا بالقران حتى يحدث التاريخ عنهم انهم قطعوا شجرة الرضوان وهي تلك الشجرة التاريخية المباركة التي ورد ذكرها في القران وما هذا الا لان الناس تبركوا بها فخاف عمر (رض) ان طال الزمان بالناس ان يعودوا الى وثنيتهم ويعبدوها فامر بقطعها ووافقه الصحابة على ذلك، ويذكر التاريخ ان الرسول (صل الله عليه واله) استشار اصحابه حين عزم القتال ضد المشركين في غزوة بدر فقالوا (و الله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، انا لا نقول لك ما قال قوم موسى اذهب انت وربك فقاتلا انا ها هنا قاعدون، ولكن نقول لك اذهب انت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون)[31] .

و هكذا كانوا يفضلون مصافحة المنايا في ميادين الجهاد ويتهافتون على الغزو طمعا في الاستشهاد وهكذا حرصوا على الموت فوهبهم الله الحياة واتقنوا صناعة الموت فدانت لهم الملوك وعنت الكماة (و من جاهد فإنما يجاهد لنفسه، ان الله لغني عن العالمين)، (و لينصرن الله من ينصره ان الله قوي عزيز)[32] .

و القران ظل معجزة الرسول (صل الله عليه واله) الخالدة في كل مكان وزمان ولا تزال الايام تمدنا بالحجة على انه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد قال ابن مسعود (اذا اردتم العلم فاثروا القران فان فيه علم الاولين والاخرين)[33] .

و بعد كل هذه المعجزات اننا لنعجب كيف تضع الناس الشبهات وتتعلق بالقشة من اصحاب السوء واعداء الدين، وان الكلام عن المعجزات طويل وعلاج جميع الشبهات التي لفقها اعداء الاسلام تحتاج الى كلام اطول، ولعلنا بهذا البحث قد قدمنا شيئا متواضا يسد فراغا ما، ونحمده سبحانه ان كتب لنا التوفيق ومنحنا الغاية ونستغفره ونتوب اليه من كل خطأ وزلل ونسأله الرضا والقبول واخر قولنا ان الحمد لله رب العالمين .

 

البروفيسور صدام فهد الاسدي

.....................

[1]- مناهل العرفان في علوم القران، محمد عبد العظيم الزرقاني، ط3، عيسى الحلبي، ج2، 1953، ص77 .

[2]- فرح في القران، مجلة هدي الاسلام، العدد 7/8/1980، ص49.

[3]- سورة نوح اية (5) .

[4]- سورة هود اية (23) .

[5]- قصص الانبياء، د. عبد الوهاب النجار، ط3، مصر، ص30 .

[6]- سورة نوح اية (21) .

[7]- مجلة هدي الاسلام، العدد 7/8/1980، ص51 .

[8]قصص الانبياء، الخولي، مجلة المسلمون، العدد 6، ص9 .

[9]- سورة هود، اية (32) .

[10]- قصص الانبياء، النجار، 4 ب .

[11]- سورة نوح، اية 26 .

[12]- سمط النجوم العوالي، عبد الملك العصامي، ج1، القاهرة، 1379هـ، ص106 .

[13]- مجلة هدي الاسلام، ص58 .

[14]- سورة هود، اية 41 .

[15]- سورة العلق، اية 1 .

[16]- روح الدين الاسلامي، عفيف عبد الفتاح طبارة، ط6، دمشق 1964، ص28 .

[17]- سورة القصص، اية 49 .

[18]- روح الدين الاسلام، ص30 .

[19]- سورة الاسراء، اية 88 .

[20]- سورة هود، اية 13 .

[21]- سورة البقرة، اية 23 .

[22]- روح الدين الاسلامي، ص32 .

[23]- اعجاز القران، مصطفى صادق الرافعي، ص203 .

[24]- روح الدين الاسلامي، اية 35 .

[25]- سورة

[26]- ينظر : روح الدين الاسلامي، ص49-64 .

[27]- سورة التوبة،

[28]- مناهل العرفان، محمد عبد العظيم الارقاني، ص278 .

[29]- مناهل العرافان، ص307 .

[30]- سورة

[31]- مناهل العرفان، ص308 .

[32]- سورة

[33]- موجز البيان، كمال الطائي، بغداد 131، ص13 .

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم