صحيفة المثقف

إجازة الاجتهاد وقيمتها الحوزويّة

ليس بمستغرب أن نسمع بين الفينة والأخرى: إن فلاناً أدّعى الاجتهاد وأعلن مرجعيّته وقام بطباعة رسالته العمليّة، فهرع بعض الناس لتقليده، والتبشير بعلمه وورعه ونتاجاته، والدعوة لتسليم الحقوق الشرعيّة له ولمعتمديه، وإن مفتاح حلّ الأزمات الشيعيّة بيده فقط... فأصدر شخصٌ آخر فتوى بعدم اجتهاده، بل وضلاله وانحرافه، وعدم جواز دفع الأموال له، وعلى هذه الرنّة تعيش وتعتاش عموم مجتمعاتنا الشيعيّة، بعد ما افتقدت المرجعيّة مركزيّتها ـ للأسف الشديد ـ في العقود الأخيرة.

بعيداً عن المؤامرة التي يُسكّن بعضهم نفسه بها، وبعيداً عن التخطيط الذي يقوم به الطابور الخامس كما يصفه بعضهم، وبعيداً عن عنايات الحُجّة (ع) التي يُراد زجّها في تحديد المرجعيّة، سأتحدّث عن الاجتهاد وفقاً للمقاييس العلميّة الطبيعيّة التي يذكرها الفقهاء ويشترطونها في بحوثهم، والتي تداولت في الأعراف الحوزويّة (التقليديّة)، علّنا نوفّق في إيضاح شيء من الحقائق للناس؛ كي نتخلّص من ظاهرة: (الاجتهاد الكارتوني) الذي تضخّم في مجتمعاتنا أخيراً، لكن علينا بدايةً أن نحدّد معنى الاجتهاد الذي نريد الحديث عنه في مقالتنا؛ لأن لهذا الاصطلاح دلالات متنوّعة.

حينما يدخل الإنسان إلى الحوزة العلميّة، ويتدرّج لسنوات عدّة في مدارجها الدرسيّة والبحثيّة، فربّما تحصل لديه القدرة على استنباط الأحكام الدينيّة أو الشرعيّة في قرارة نفسه، وربّما يحصل له الاحساس بذلك، ويشعر في نفس الوقت إنّه فقيه مسلّم الفقاهة، لا يُشقّ له غبار، ولا يُعثر له على عثار، قدوة الأنام، وعلم الأعلام، والبدر التمام...، لكن جميع هذه الاحاسيس لا قيمة (شرعيّة) ولا (حوزويّة) لها إلا على نفس الشخص فقط، وإذا ما أراد هذا الإنسان أن يطرح مرجعيّته الدينيّة أو الفقهيّة، ويدعو الناس لتقليده، فعليه أن يثبت قدرته على الاستنباط خارجاً، وفقاً للطُرق الشرعيّة والحوزويّة (الخالصة) حصراً، فتصدق حينئذ دعواه، ويجوز في نفس الوقت تقليده إذا ما توافرت بقيّة شروط مرجع التقليد الأخرى، وعليه فما نعنيه من الاجتهاد هو: مرتبة علميّة حوزويّة، يُرخّص لصاحبها: إفتاء الناس برأيه في الأمور الدينيّة التي اجتهد فيها، وقد اعتاد إطلاقه في القرون الأخيرة على المتخصّص في الفقه فقط.

لكن هذه المرتبة العلميّة وهي الاجتهاد لا تحمل ضوابط واحدة، ومعالم موحّدة عند جميع المدارس الحوزويّة؛ فقد ترى مجتهداً يحمل إجازات اجتهاد خطيّة من أساتذته، لكن لا يعترف المجتهد الآخر لا باجتهاده ولا باجتهاد أساتذته الذين منحوه الاجتهاد أصلاً، وقد ترى مجتهداً لا يحمل إجازة اجتهادٍ خطيّةٍ أصلاً، لكنّه مسلّم الاجتهاد والفقاهة عند الجميع، من هنا تحتّم عليّ أن أفتح البحث بشكل مختصر عن المعايير (العلميّة) ـ وأرجو التركيز على ما بين قوسين في كلّ ما أكتب ـ التي تتبعها الحوزات في تشخيص اجتهاد هذا وعدم اجتهاد ذاك، وسنضطر ـ على خلاف عادتنا ـ إلى الاستعانة ببعض الاسماء الحوزويّة بغية إيضاح الفكرة وتركيزها، يُتبع.

 

ميثاق العسر

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم