صحيفة المثقف

ما معنى هذا الانفعال الذي نسميه الكرم في حياتنا؟

fatima almomaniليس الغرض في التفلسف في مسألة الكرم باعتباره فعل يقوم خلافا لبقية الأفعال الإنسانية. وإنما الاستئناف ومساءلة فعل الكرم في حد ذاته. وتبعا لطبيعة هذا الفعل أن يكون موضوع تحاور نقدي بين الفلسفات بل من أهم المفاهيم التي يمكن أن يفضي إليها التفلسف ففكرة الكرم باعتبارها دال على عطاء دون أخذ أو على عطاء بدون حساب إي يقوم على الاختلال بين ما أعطى وما أخذ وهو شرط إدراك الخلل الحقيقي الذي فيه انتقاء الكرامة البشرية ومن ثمة موضوع الكرم لا يمكن فهمه إلا كانفتاح عن الأخر وهو اختلاف في ذاته أي هو حرية ما هو متناهي والحرية إنشاء إبداع لظاهرة ما.

فما حلتنا اليوم أن نسأل عن الكرم؟ وما معنى هذا الانفعال الذي نسميه كرم في حياتنا؟ وكيف يتماهى الكرم أو فعل الكريم مع الحرية باعتبار كليهما ابتداء لا سابق له؟

فعل الكرم فعلا نأتيه دون أن ننتظر منه شيئا أي الكرم فعل لا يقابله رد فعل فليس ثمة توازن منشود بين ما نعطي وما يمكن أن يقابل العقل أي أن الكرم عطاء دون أخذ لأنه لو تعلق الأمر بعطاء وأخذ لآل إلى عملية حسابية ولكان ما هو متوقع مقابل ما أعطى يصبح الأمر عملية تبادلية المطلوب فيها أن يتساوى المعطى والمأخوذ.

يقول ديكارت׃« وهكذا فالرأي عندي إن الكرم الحق الذي يجعل المرء يحترم نفسه كل الاحترام الذي هو جدير به إنما في جزء منه يتمثل من ناحية في أن يعرف المرء أن لا شئ يمتلكه حقيقة هذا الاستعداد الحر للإرادة volonté وفي أنه يعلم انه ليس ثمة ما يدعو إلى الشكر والتوبيخ إلا استخدام السيئة أو الحسنة لتلك الإرادة ومن ناحية أخرى يتمثل الكرم في أن يشعر المرء في داخله بعزم وتصميم صلب ferme ثابت على حسن استخدامها. ومعناه انه لا يفتقر فقط الإرادة إرادة المبادرة في كل ما يبدو له أفضل وانجازها وذلك المعنى اتخاذ الفضيلة منهجا» 1 .

يقسم أرسطو الفضائل إلى قسمين׃ فضائل عقلية وتظهر جليا في العلم والحكمة والفن ثم الفضائل الأخلاقية وهي الشجاعة والعفة والكرم، وهي فضائل تكتسب بالإرادة الواعية والتربية الحسنة. فالفضيلة عند أرسطو ترتبط بمفهوم الوسط أي بين بين فمثلا الشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والعفة وسط بين المجون والمجون، من ثمة يعرف أرسطو "الفضيلة بأنها ملكة خلقية إرادية تجعل صاحبها قادرا على تخطي الإفراط والتفريط واختيار الوسط بينهما، بناء على مبدأ عقلي."

الكرم يتحدد بمقدار׃ فما فوق الكرم يصبح تبذيرا، وما تحت هذا المقدار يصبح شحا. أي أن مسألة الكرم عند الجاحظ واقعة في إطار "التكميم"la quantification". إذا كان الكرم هو إتلاف تلك الموجودات إلا يكون الكرم دال على التعالي البشري في الوجود المادي لنتبين في هذا الإطار كيف إن الكرم في أخر المطاف هو فعل حر، بحيث نجد في كتاب"انفعالات النفس" لديكارت الذي يتناول في جزء منه إشكال الكرم وإشكال العلاقة بين الاحترام والكرم باعتبار إن العنصر المشترك بينهما هو التقائهما في معنى الحرية ويعبر عنه ديكارت بالاستخدام الحر للاختيار والسيطرة على إرادتنا وهذه الحرية بصفتها في مستوى ما هو أمره بأيدينا فان هذه الحرية وهذا الاختيار يتمثل في أننا نريد ما نستطيع وبالتالي تكون لدينا السيطرة على إراداتنا يقول ديكارت׃« تتمثل عظمة الحرية في السهولة الكبيرة التي نجدها في اختيار أفعالنا». ألا يصبح إشكال الكرم إذا ما وصلناه بإشكال احترام الذات؟ هو عين إشكال الكرامة بمعنى لا يحترم ذاته إلا الكريم يقول ديكارت׃« فان الرأي عندي إن الكرم الحق الذي يجعل المرء يحترم نفسه كل الاحترام».

إن إشكالية الكرم والاحترام يلتقيان عند موضع واحد وهذا الموضع هو الحرية بما هي اختيار. مبدأ الكرامة هو مبدأ المساواة بين البشر وهو لا يقبل إي مساومه بمعنى إن الكرامة لا ثمن لها وخاصية الكرامة أنها ليس لها ما يكافئها وما يضاهيها أي أن الإنسان يصبح غاية في ذاته ولذاته. والكرامة تقضي باختراق مبدأ السببية ومبدأ الهوية لان الكريم والكرم يكمنان في الفعل الذي لا ينتظر جزاءا. فكأننا نحن أمام أفعالا لا أسباب لها هي أفعال تخرج عن التوقع السببي وتخرج عن التجديد السببي لان الكريم هو الذي يعطي دون أن يستبقي شيئا خلافا للإيثار فالكرامة إذن تكرم فهي لا سبب لها ولا علة لها تماما كما أن الكرامة ليس لها كفؤا.

يذهب كانط إلى أنه يجب التسليم بعلية أو سببية (السبب معناه هو الخيط الرفيع الذي يجمع بين طرفين) وهذه القضية عند كانط هي مسلمة وموضوع التسليم أو المصادرة هو تأكيد العلة الحرة من ناحية وتأكيد العلة الطبيعية من ناحية أخرى فكلاهما مسلم به قبليا. وشرط إمكان هذه العلية (الحرية) أن تكون مثل الفعل الكريم أو مثل المبادرة الكريمة أي لا سبب لها فهي ابتداء بإطلاق أو أنشاء بإطلاق فكان الحرية هي الفتح بإطلاق.

إن فعل الكرم قد ينتفي بمجرد أن تكتشف على أسباب له مادية أو لا مادية واعية أو غير واعية وهو ما لا يمكن افتراضه في مجرى الحياة العادية لا يمكن أن يتنزل في سلسلة سببية فيكون التكرم خوفا أو طمعا أو انتظارا نتيجة ما مثل׃ رضا الوالدين،أي كل هذه الأفعال يمكن أن يطرح بشأنها سؤال لماذا؟ ويمكن أن يجاب عنه لعله كذا لسبب كذا سوى كان السبب نفسيا كراحة الضمير أو التنفيس الوجداني ولكنها ليست من قبيل التكرم وإنما من قبيل التقرب من غاية أما الفعل الكريم فهو ينأى بذاته عن التنزيل عن تلك السلسلة السببية فكأنما هو فعل لا بداية له ولا يمكن أن يكون سببا فهو الابتداء بإطلاق أو ما يسميه أندري جيد" الفعل بإطلاق أو العفوي".

كما يسميه كانط الحرية أي الفعل بإطلاق ليس له علة سببية فالإنسان الحر هو الكريم والكريم والكرم ليس له غاية مرجوة. ففعل الكرم باعتباره فعل ابتداء يعلو عن كل سببية فهو الفعل الذي يبتدئ به السبب فهو السبب الأول على النحو الذي بينه كانط في كتابه نقد العقل المحض عند حديثه عن الحرية بالمعنى الكوسمولوجي يقول "اعني بالحرية  بالمعنى الكسمولوجي للكلمة قدرة المرء أن يشرع بذاته".

فقد تبين لنا من خلال ديكارت التماهى بين الفعل الحر والفعل الكريم بين الحرية والكرم ورأينا بالخصوص مع كانط كيف أن تلك الحرية هي الابتداء بإطلاق وإذا الفعل الحر لا يمكن تفسيره على هذا النحو لان تفسيره يفسده أي يخرج عن طبيعة فإذا كان الأمر كذلك كان لزم القول بتعالي الحرية وبالتالي تعالي الفعل الكريم عن العقلنة لان العقلنة تعني إدراج شئ ما في سلسلة سببية׃ فهل فلسفة الكرم باعتبارها فلسفة الحرية هي فلسفة اللاعقلانية أو فلسفة فوق العقلانية؟ وهذه العقلانية الأرقى المفترضة كان لابنتيز سماها "مبدأ العلة الكافية". هذا المبدأ يتجاوز المنطق الصوري هو مبدأ ميتافيزيقي في مقابل مبدأ الهوية وهو أرقى من مبدأ الهوية ويمكن أن نصوغه على النحو التالي׃rien ne se fait sans raison "ليس ثمة من شئ لا علة له" فان هذا يتجاوز عند لابنتيز فكرة مبدأ الهوية ليرتقي إلى ما هو أرقى من العلوم الصورية ولا سيما الحقائق العينية هذا التحليل يعني بأننا نقر بأن لكل شئ سبب وعندما نقول "كل"tout نعني به كل ما هو موجود وكل ما يمكن أن يوجد.

إذن مبدأ العلة الكافية هو المبدأ الشامل من المبادئ المنطقية لأنه لا يستثني شئ من الوجود بل يقر بأن ما من شئ واقعي موجود في أعيان أو ممكن قائم في الأذهان إلا وله سبب ولا يمكن أيضا أن نقول إن فكرة عدم الوجود أو العدم غير المنطقية لان اللامنطقي هو الفكرة المتناقضة تناقضا ذاتيا مثل "فكرة المربع المستدير". مع ذلك إن وجود العالم ليس ضروري بقاء العدم على الدوام ليس الضرورة فنحن إذن من الوجود إلى العدم تنتقل من ممكن إلى ممكن أخر في حين إن طرح إشكال الوجود والعدم هو طرح وجود هذا التوازن׃ أليس ذلك يعني إن إيجاد الوجود هو العلامة على الحرية بإطلاق وبالتالي هو الاسم الأخر للجود أي للكرم.

إشكالية الكرم هي في نهاية الأمر، هي إشكالية الحرية التي يكون بها الإنسان صورة لله وبالتالي إشكال الكرامة باعتبارها تعني أن لا نعامل الإنسان أبدا باعتباره وسيلة وإنما باعتباره ذاته ولذاته وإذا كان الأمر كذلك فإن إشكال الكرم لا يستوفي إشكال الحرية وإنما إشكال الكرامة إذ يرد كل شئ في نهاية الأمر إلى الحرية فنجعلها أمر أرقى من المعقول دون أن يكون معقولا. فاللامعقول هو ما يناقض قوانين المنطق والكرم لا يناقض قوانين المنطق وإنما يتجاوزها هي قوانين لا تحكمه ولا هو تناقضه فكأنما إشكال الكرم فوق إشكال المنطق والعلم لأنه إشكال الحرية ومعنى ذلك إن ليس للعلم ولا للمنطق سلطان على الحرية.

كيف يؤول الأمر في مفهوم الكرم مع كانط إلى فكرة الابتداء باعتبارها العنصر المشترك بين مفهومين الحرية والكرامة حيث إن كليهما لا تمام له إلا بغياب المحدد السابق والمحدد اللاحق. فكانط في جدلية المتعالية لنقد العقل المحض تحدث عن الحرية بالمعنى الكسمولوجي أي بالمعنى الوجودي فهي كنه الإنسان ذاته وليس كما في نقد العقل العملي هي شرط إمكان الفعل الأخلاقي فليست الحرية بالمعنى العملي وإنما بالمعنى  الكوسمولوجي وعندها ندرك العلاقة الوطيدة بين الوجود البشري من ناحية باعتباره حرية وبين إشكالية الكرم باعتبارها إشكالية الحرية من ناحية أخرى.

يقول ابن العربي" إن الكرم جود ليس الجود إلا مقلوب الوجود" فما يمكن إذن أن يكون العلاقة بين الكرم بما هو جود أي هبة عطاء دون سؤال والحرية والوجود. فالقاسم المشترك بين هذه المعاليم الثلاث هو الارتقاء عند موضع غياب العلة أي عند منطق اللاتحدد، اللاتعين بحكم غياب الدوافع والأغراض والعلل والأسباب.

إذا طرحنا إشكال الكرم على هذا النحو انتهينا إلى انه يلتقي مع إشكال الحرية وإشكال الخلق الإلهي الميتافيزيقي (ومالا سبب له يجل عن التعقل) فان الأمر يعود في كل مرة إلى معنى الاهتداء والابتداء دون تحديد سابق فكأنما هو إنشاء عن عدم وإذا اعتبرنا ذلك الإنشاء بما هو ابتداء بإطلاق يربو عن التعليل والتفسير وبالتالي العقلانية باعتبارها عملا تتسلسل فيه الأسباب والمسببات׃ فإذا كان الأمر كذلك فهل يعني أن إشكال الكرم يتحدى العقلانية التقليدية فلا يوقعه مبدأ الهوية ولا مبدأ التناظر ولا مبدأ التوازن؟ فهل يعني ذلك إن إشكال الكرم يظهر فشل العقلانية الكلاسيكية أم انه يدعو إلى عقلانية أرقى؟

إن انخرام التوازن الذي حدد الكرم باعتبار أن الحرية المعنية هاهنا هي وجود الإنسان نفسه فكأنه وجود ناتج في نهاية الأمر عن الوجود الرباني معنى ذلك أن الحرية هي قدر الله في الإنسان وبالتالي وجب أن نميز بين مرحلتين مرحلة الإيجاد أو الخلق ومرحلة الوجود.

ومن ثمة يمكن القول بان إشكال الكرم باعتباره يتماهى أساسيا مع إشكال الحرية فهو أساس الوجود البشري انطولوجيا وتاريخيا.

إذا لازم في استشكال مسألة الكرم باعتبارها عطاء دون أخذ فإن الكرم من الأفعال التي لا يمكن تعقلها ولا عقلنتها من خلال مبادئ الفكر التقليدية مثل مبدأ الهوية في المنطق أو مبدأ التوازن في العلوم الميكانيكية .

ما يحرك مساءلتنا  لفعل الكرم هو في الحقيقة لازمة إن الكرم هو فعل يتماهى أساسيا مع الحرية بما هو فعل حر فعل ابتداء ليس له غاية مرجوة. لكن فعل الكرم ينتفي بمجرد أن تكتشف له عن أسباب مادية أو لا مادية واعية أو غير واعية.

 

....................

 1-« Ainsi je crois que la vraie générosité, qui fait qu'un homme s'estime au plus haut point qu'il se peut légitimement estimer consiste seulement partie en ce qu'il connaît qu'il n'y a rien qui véritablement lui appartienne que cette libre disposition de ses volontés, ni pourquoi il doive être loué ou blâmé sinon pour se qu'il en use bien ou mal, et partie en ce qu'il sent en soi même une ferme et constante résolution d'en bien user c'est à dire de ne manquer jamais de volonté pour entreprendre et exécuter toutes les choses qu'il jugera être les meilleures; ce qui est suivre parfaitement la vertu. » Descartes, Les passions de l’âme, 1649, ART. 153

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم