صحيفة المثقف

إطلالةٌ على ظاهرةِ ٱنْقراض ٱللغات ومستقبل العربية (1-3)

ملخّص: هذه محاولة لتسليط الضوء على ظاهرة قديمة وحديثة اسمها انقراض (اندثار، موت) اللّغات ونادرًا ما يعرف المثقّف العربي عنها شيئًا ذا بال. يعود اهتمامي بهذا الموضوع إلى عقد من الزمان تقريبًا، إثر مطالعتي لمقالة قصيرة بالفنلندية. شهدت نهاية القرن الماضي اهتمامًا عالميًا ملحوظًا بهذه الظاهرة نتيجةً لوتيرة متسارعة في عملية اندثار اللّغات، موت لغة كل أسبوعين. هذا يعني أن نصف لغات العالم، ٣٥٠٠ لغة، ستندثر حتى نهاية القرن الحادي والعشرين.

طُرحت في هذه المقالة مجموعة من الأسئلة والمواضيع ونوقشت في خلال فترات متنوّعة بناءً على مصادرَ أجنبية بمعظمها ذُكرت في النهاية لمن يودّ الاستزادة والتعمق في هذا المجال. هذا الموضوع لم يحظ حتى الآن بما يستحقّه من بحث وتحليل باللّغة العربية. ما تعريف اللّغة المنقرضة؟ ما هي العوامل الداخلية والخارجية المؤدية في آخر المطاف إلى هذا الانقراض؟ قد يكون لهذا الانقراض نفس نتيجة الانتحار أو القتل وهو بمثابة إفقار حضارة عمرها قرون من الزمان (Denison, 1977، المسدي، ٢٠١١).

من المحزن التنويه بأنّ هذا الانقراض يحدث عادة للشعوب الفقيرة والنامية، والتي تكون بالطبع في أمسّ الحاجة لمواردها الثقافية وعلى رأسها اللّغة من أجل البقاء. أتينا بقائمة مختارة من اللّغات المحتضرة في مناطقَ مختلفة في العالَم. لماذا يتوقّف استعمال لغة معيّنة أو لماذا يهجرها متحدّثوها الأصليون ويتحدّثون بلغة أخرى؟ كما هي الحال لدى معظم العرب الفلسطينيين في إسرائيل. أين يكمن التهديد الشديد بالاندثار؟ما العمل من أجل الحفاظ على هذه اللّغات؟ هل إحياء اللّغة ممكن وكيف؟ ما دَور نفوذ القوى الاستعمارية الأوروبية في غضون القرون الماضية؟ أهناك علاقة بين اندثار لغة ما وبنيتها النحوية _ فاعل ففعل فمفعول به؛ فاعل فمفعول به ففعل؛ فعل فمفعول به ففاعل؛ ومفعول به ففاعل ففعل؟ أو هل ثمّة صلة بين التعقيد اللغوي والانقراض؟ ما المقصود بالتوازن اللغوي؟ ما مصير اللّغة العربية المعيارية الحديثة (Modern Standard Arabic = MSA)، مثلاً بعد نضوب النفط العربي؟كيف ستكون طبيعة العربية الفلسطينية في إسرائيل في نهاية هذا القرن فيما إذا استمرّت موجة العبرنة والتعبرن وتفاقمت؟ بعض الاقتراحات والتوصيات من أجل الحفاظ على العربية في الديار المقدّسة بخاصّة (مواسي، ٢٠١٣؛ عطالله، ٢٠٠٤).

 

اللّغة عامّة واللّغة المنقرضة

إن أوضحَ ميزة فارقة بين الإنسان وسائر الكائنات الحيّة هي اللّغة، شجرة نسب الأمم، وقد عُرِّف الإنسانُ في حقبة تاريخية معينة بـ “الإنسان المفكّر، الحيوان الناطق” (ابن رشد، ١٩٩٤، ص. ٩٢, Firth, 1966, pp. 19-23). من قبيل المستحيلات تصوّر إمكانية التعبير عن فكر ما بدقّة وشمولية وعمق دون اللجوء إلى الكلمات. تُعتبر اللغةُ أروع أداة ٱخترعها الإنسان (Pinker, 1994) وهناك من يذهب إلى أن اللّغة من صنع إلاهي، إلهام لا اصطلاح (ابن جني، ١٩٥٢، ص. ٤٠-٤٧) قبل مليون سنة تقريبا وبُدِیء بالكتابة بها قبل خمسة آلاف عام (الكك وعلي، ١٩٧٢، ص. ٢٨-٣٠, Harald, 2004). يُعرِّف اللغويون عادة "اللّغة المنقرضة" بأنها تلك التي يتكلمها أقلُّ من ألف إنسان (Denison, 1977; Brenzinger, 1992; Dorian, 1981; Dixon, 1997; 2002; Crystal, 2002; Harrison, 2007; Kaaro, 2009; Harrison, 1977; Crystal, 2002 ;Brenzinger, 1992). تواجه معظمُ لغات العالم في عصر العولمة ضغطًا شديدًا بسبب هيمنة العولمة واللّغات العالمية الأساسية، الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والصينية (Crawford ed., 1992;  Crawford, 1992).

97% من سكّان العالم الموزّعين على أكثرَ من مائتي دولة مستقلة يتكلّمون 4% فقط من اللّغات و96% منها لا يتكلّمها سوى 3% من سكّان المعمور. كلّ أسبوعين تندثر لغة وذلك إثر فترة من الذبول جرّاء وفاة آخر ناطقيها (Evans, 2001). في غضون القرون الخمسة الأخيرة اختفى نصف لغات العالم. وبموت اللّغة يموت نمط معين من الثقافة وفهم للعالم كان قد تبلور عبر القرون (Dalby, 2003). هذا الموت قد يحدث تدريجيًّا، أو من أسفل إلى أعلى أي انحطاط اللّغة لدى ناطقيها أو بالعكس من أعلى إلى أسفل أي جرّاء سياسة حكومية وقوانين دولة، وقد يكون الموت راديكاليًّا، أي إثر عملية تطهير عرقي (Denison, 1977). أكثر حالات الموت اللغوي شيوعّا هي عندما يصبح شعب ما ثنائيَّ اللّغة (bilingual) ويفضّل استعمال لغة الحاكم متأثرًا بثقافته ثم يُهمل بالتدريج لغة أمّه. بعبارة وجيزة، أية لغة يهجرها اللّسان مصيرها إلى الزوال. يُجمع معظم اللغويين أنه بانقضاء القرن الحادي والعشرين سيندثر قرابة نصف لغات العالم. الإنسان، سيّد اللّغة، لا يفقد لغته لأنّ الآخرين ينتزعونها منه، بل لأنه ينقطع عن الاهتمام بها، أي عدم استعمالها وتطويرها وتكييفها مع مستجدّات العصر. في اللّغة أكثرُ مما يستطيع الإنسان استعمالَه، ولذلك لها حياتها وفيها ارتفاع وهبوط، مدّ وجزر، دون انقطاع.

تعود بدابة الاهتمام البحثي بظاهرة انقراض اللّغات إلى بداية تسعينات القرن الماضي. ظاهرة اندثار لغات الأقليات تثير قلقًا ملحوظًا ليس في أوساط اللّغويين وعلماء الإنسان فحسب بل ولدى كلّ من يهتمّ بحقوق الإنسان وبالهُوية الثقافية للشعوب في خضمّ تبلور ثقافة معولمة (Nettle & Romaine , 2000).

 

لمحة عن لغات في العالم

يُقدَّر عدد اللّغات في العالَم بقرابة سبعة آلاف (Ethnologue. Retrieved, 22.03.2012 12-03-22) وهي موزّعة بالنِّسَب التالية: في آسيا 32%، في إفريقيا 30%، في المحيط الهاديء 19%، في الأمريكيتين %15 وفي أوروبا 4% (Asher & Moseley, 2007). تأتي لغة المندرين الصينية في المرتبة الأولى من حيثُ عددُ الناطقين بها، قرابة التسعمائة مليون وتليها الإنجليزية فالإسبانية فالبنغالية فالهندية فالبرتغالية فالروسية فاليابانية. قد يُدهَش القارىء العربي لغياب اللّغة العربية عن هذه اللائحة، إذا علمنا بأنّ عدد العرب يصل اليوم إلى 400 مليون تقريبًا، وعليه فالعربية يجب أن تتبوّأ المرتبة الثانية قبل الإنجليزية بواقع 322 مليون متحدّث وقبل الإسبانية بواقع 266 مليون ناطق بها. لا غرابةَ في الأمر إذا ما فكّر المرء قليلاً بشأن المقصود من لفظة “العربية”، أهي العربية الحديثة المعيارية (MSA) أم الكم الهائل من اللهجات العربية المحلية الحديثة التي هي، في الواقع، لغةُ الأم بالنسبة للعرب. العربية المعيارية المعاصرة، كما هو معروف للجميع، ليست لغةَ أمّ طبيعية بالمفهوم العادي للمصطلح بالنسبة لأي إنسان عربي، والإنسان العربي هو السوري والفلسطيني والمصري واليمني والعُماني والسوداني إلخ. لا بدَّ من التنويه بأنّه لا ذِكرَ للفظة “عربي" في جوازات السفر أو الهويّات الشخصية العربية، اللهمّ، على الأقل، باستثناء هويّات أبناء الأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل، قراية المليون ونصف الملبون نسمة حتى السنوات الأخيرة الماضية.

ثمّة ألفاظ فضفاضة لا طائلَ تحتها مثل "اللّغة هي ديوان العرب" في حين أن العرب مفرَّقون حتى في اللّغة وما قد يوحّدُ بعضَهم لغويًّا هو ما يُسمّى بلغة بين بين، اللّغة الوسطى، اللّغة المشتركة، لغة المثقفين. ولا توجد إحصائيات دقيقة يعوَّل عليها بالنسبة لعدد أو نسبة المسيطرين على هذا النمط اللغوي العربي، الذي هو بدوره، لا يمكن تسميتُه بلغة أمّ عادية (فريحة، ١٩٥٩، إبراهيم، ١٩٧٠؛ شاهين، ١٩٨٨، ص. ٢١٥-٢٣٠).

قبل أكثر من عقد من السنين نشرت منظمة اليونسكو، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (UNESCO = The United Nations Educational, Scientific and Cultural Organisation) بحثًا من تسعين صفحة بعنوان ”أطلس لغات العالم الموجودة في خطر الاندثار” وتأتي في المقدمة لغات في القارتين، أمريكا وأستراليا ( Uhlenbeck, 1991; Wurm, 1996; Moseley, 2012).

مما يجدُر ذكرُه أن لنسبة ضئيلة جدًّا من اللّغات، أقلّ من 7%، أي حوالي خمسمائة لغة، تمثيلاً معيّنًا على الشبكة العنكبوتية. تتصدّر الإنكليزية اللائحةَ بنسبة عالية جدًّا 68.4% فاليابانية فالألمانية فالصينية فالفرنسية فالإسبانية فالروسية فالبرتغالية فالإيطالية فالكورية الجنوبية. أمّا العربية فمرتبُتها أقلُّ من صفر فاصلة بعض الكسور وهذا بالرغم من أنّ نسبة عدد العرب تصل إلى حوالي 4.5% من سكّان العالم.

 

أزمة ثقافية

هنالك أزمة ثقافية عالمية شبه خفية تتمثّل في أنّ نصف لغات العالم ستنقرض قبل انسلاخ هذا القرن. زد إلى ذلك أن 40% منها في حالة تهديد حقيقي للاندثار، لأنّ عددََ الأولاد المتحدّثين بتلك اللّغات في تناقص شديد ومستمرّ، مثال على ذلك، خمسون لغة في كاليفورنيا وبعض اللّغات في إندونيسيا. يشار إلى أن المصطلح الأجنبي الذي يصف احتضار اللّغة هو moribund المأخوذ من اللّغة اللاتينية moribundus من الفعل mori

أي “يموت” (http://www.etymonline.com/index.php?allowed_in_frame=0&search=mori&searchmode=none).

نعم، تطوّر اللّغات المستمرّ هو أمر حتمي وطبيعي وغالبًا ما نجهل كنهَه اجتماعيًا ونفسيًا، بل وبعضها ينقرض أحيانًا، فهي، بمعنى ما، تشبّه بالكائنات الحيّة كحيوانات وطيور قدِ انقرضت كالديناصورات والضفادع أو النباتات، إلّا أنّها، في واقع الأمر، عبارة عن منظومة أنماط في عقل المتكلّم وسلوكه ولا وجودَ لجينات في اللّغة. ومن هذه الكائنات الحيّة طائر الدودو، وهو بحجم الإوزّة، ينتمي إلى فصيلة الحَمام، لكنّه لا يقوى على الطيران. وهذا الطائر، ذو المنقار الكبير والقائمتين المتينتين وفي كلّ منهما أربع أصابع، كان قد ٱنقرض عام 1681. كان موطنه في جزيرة ماوريتيوس على المحيط الهندي إلى الشرق من جزيرة مدغشقر. تُستعمل لفظة الدودو، dodo في الإنجليزية المستمدّة من البرتغالية doudo بمعنى “الأحمق، المتخلّف عن العصر الحاضر، “دقّة قديمة” http://www.etymonline.com/index.php?allowed_in_frame=0&search=dodo&searchmode=none).

في البرازيل وحدها انقرضت قرابة 170 لغة بعد الاحتلال البرتغالي لها في القرن السادس عشر والذي استمرّ حتى العام 1822، أما في المكسيك، متعدّدة اللّغات والثقافات، فقد بلغ عدد "الوفيّات اللّغوية" إلى 113 لغة وبقيت 12 لغةً.

 

فذلكة حول لغات منقرضة

المصير ذاته كان من نصيب لغات كثيرة في الماضي البعيد، مثل معظم اللّغات السامية التي تُعدّ بالعشرات، مثل الأكّادية بفرعيها، الأشوري والبابلي، والأوغاريتية، وجيعز-جئز، لغة الحبشة الكلاسيكية، والفينيقية وابنتها البونيقية والأمورية ولغات أخرى كالغوطية والإتروسكانية والإيبيرية والسومرية والحتية والهيروغليفة. وذاك المصير ينسحب أيضًا على لغات في عصرنا هذا، مثل بعض اللّغات في شمال أوروبا المنتمية إلى الفصيلة الفنّو-أُچرية، Saame, Liivi, Vatja والإيدش الغربية. يصل عدد اللّغات التي في رمقها الأخير إلى أكثرَ من أربعمائة وتتواجد في معظمها في منطقة المحيط الهادىء فأمريكا فإفريقيا فآسيا فأوروبا (Krauss, 1992).

ثمّة من يعتقد أن اللّغة اللاتينية قد لفظت أنفاسها الأخيرة لأنIها غيرُ محكية حاليًّا، إلّا أنّها في الواقع، لم تندثر بل تبدّلت بمرور الزمن وتغير اسمُها إلى لغات عدّة مثل الفرنسية والإسبانية والإيطالية والسردينية، فكلّها متحدّرة من اللاتينية الأمّ. أضف إلى ذلك أنّها موثّقة جيّدًا. يحلو لبعض الباحثين تشبيه العربية الفصحى ولهجاتها الحديثة باللاتينية وبناتها رغم الاختلاف الجوهري بينهما؛ فللعربية المعيارية المعاصرة مكانتها ومجالاتها وللهجات استعمالاتها اليومية. من اللّغات التي في طور الاحتضار يمكن الإشارة إلى لغة تتار القرم المسلمين ولغة Gaeli في جزيرة Cape Breton الواقعة إلى الشمال الشرقي من Nova Scotia التي كانت تشكّل إحدى الولايات الأربع في دومنيون كندا (Edwards, 1998). يقدّر عدد الناطقين بهذه اللّغة اليوم كلغة أمّ بحوالي خمسمائة من المسنّين، في حين أن عددَهم في مستهلّ القرن العشرين قد تراوح ما بين خمسين ألفًا وخمسة وسبعين ألفًا.

يُشار إلى أنّه في عام 1890 قُدّم اقتراحٌ في البرلمان الكندي يجعل لغة چايلي لغة رسمية ثالثة في البلاد. في ذلك الوقت، تحدّث أكثرُ من ثلاثة أرباع سكّان جزيرة كيپ بريتون لغاتٍ اسكتلندية قديمة (Dorian, 1981). هناك بعض الجامعات التي ما زالت تدرّس لغة الچايلي ضمن اللّغات السلتية (Celtic) وهي مجموعة من اللّغات الهندية-الأوروبية؛ أما في جزيرة كيپ بريتون فهناك أربع مدارسَ فقط تعلّم اللغةَ المذكورة فيها كمادّة ٱختيارية وهناك إمكانية لتعلّمها على الشبكة العنكبوتية. من اللّغات العربية الجنوبية القديمة الآيلة للانقراض نشير إلى البطحرية (٢٠٠ متحدّث بها) والحرسوسية (٦٠٠ متحدّث) والسقطرية (٥٠ ألف متحدّث) والشحرية (٢٥ ألف متحدّث) والمهرية (٢٠ ألف متحدّث) والهبيوتية (١٠٠ متحدّث). من الفوارق النحوية البارزة مثلاً بين العربية والمهرية نشير إلى أسلوب النفي، ففي العربية نقول مثلاً “أنا لا أعرف” أما في المهرية فيقولون “اغُورْب لا”، أي أنّ أداة النفي ترد في آخر الجملة ومعجميًا “قال” العربية تقابلها “آمور” في المهرية (http://i-cias.com/e.o/arabian_south_l.htm).

 

لغات ولّت في العقود الأخيرة

 

في عام 1992 توفى آخرُ ناطق باللّغة Ubykhin في تركيا وهو السيّد Tefvik Esenc وقبل ذلك بثلاثة أعوام رحلت عن هذه الفانية آخرُ متكلمة باللّغة Kamassin وهي السيّدة Klavdia Potnikova وفي العام 1974 توفى السيد Ned Maddrell آخر متحدث بلغة Manksin في الجزر البريطانية، وكذلك الأسترالي Arthur Bennett الذي كان يَعرف، إلى حدّ ما، اللّغة Mbabaram وكذلك الأمر بالنسبة للسيّدة ماري من ألاسْكا، (Marie Smith, 1918-2008)، ولغتها Eyakintiaani (http://news.bbc.co.uk/today/hi/today/newsid_8311000/8311069.stm)، والسيّدة Elizabeth Gravelle من جنوب غرب كندا ولغتها Ktunaxa التي تحتوي على أصوات حلقية (gutturals). وفي أفغانستان لغة Tirahi يتحدّثها مائة شخص فقط، وفي وسط سيبيريا لغة باسم Ket وهي في طور الاحتضار وتعتبر قواعدها من أعقد قواعد اللّغات التي وثّقها اللّغويون، وفي أرمينيا Lomavren التي يتكلّمها خمسون شخصًا فقط ولغة شاميكورو/شاميكولو في منطقة لاغوناس في دولة پيرو يتحدّثها ثمانية أشخاص. يذكر أن ٢٨٪ من لغات العالم يتكلّم بكل واحدة منها أقلّ من ألف شخص (لغة_بائدة /http://ar.wikipedia.org/wiki).

وللراغب في المزيد حول اللّغات المهدّدة بالانقراض تصفّح أطلس اللّغات الذي نشرته منظّمة اليونسكو. وفي سيبريا ومنغوليا لغة “توفان” يستخدمها البدو هناك وهي مهدّدة بالاندثار (Harrison, 2007; Moseley, 2012; Wurm, 1996; Asher & Moseley, 2007).

ويشارإلى أنّ مواطني ألاسكا قد تحدّثوا بأكثرَ من عشرين لغة، واليومَ يتعلّم الأطفال اثنتين فقط. وفي ولاية مونتانا الأمريكية لغة باسم “جروس فينتري” وعدد متحدّثيها عشرة من المسنّين فقط، ولغة “مينوموتي” في ولاية ويسكونسين يتحدّثها خمسة وثلاثون شخصًا (Mithun, 1999; Campbell  & Mithun, 1979). وهناك لغة تُعرَف باسم “نوشو”، لغة النساء الوحيدة في العالم، كانت قد انقرضت مؤخّرًا في أعقاب وفاة آخر ناطقة مسنّة بها في الصين السيّدة يانغ هوآنيي، والطريف أن كل ما دُوّن بهذه اللّغة كان مصيره الحرق تمشيًا مع عقيدة تلك الجماعة

 (http://taher-mss.net/v.b/showthread.php?t=2104).

والملاحظ من هذا كلّه انعدام أيّ قاسم مشترك بين هؤلاء الأشخاص وما مثّلوا من لغات وثقافات، كلّ واحد منهم انتمى إلى بقعة جغرافية بعيدة عن موطن الآخر. وبالرغم من كلّ هذا، يمكن القول إنّ القاسم المشترك الوحيدَ الذي يجمعهم هو اندثارُ لغاتهم ثم ثقافتهم وتراثهم بعد رحيلهم عن هذه الفانية، انفراط الحلقة الأخيرة من السلسلة، ذهب الأصل ولم يخلّف فرعًا. نذكر من ناحية أخرى، أنّ هناك بعض المحاولات أحيانًا للحفاظ على لغات معيّنة مثل “ليفونيان” في لاتڤيا, حيث يقوم الشباب بجهود ملحوظة بهذا المجال وقل الأمر نفسه بالنسبة للوضع اللّغوي في كندا (Edwards, 1998).

 

أسباب موت اللّغات

كيف من الممكن للغة بشرية ما أن تموت؟، فالبشر لا ينقطعون عن الكلام طالما بقوا أحياء، إلّا أنّ السؤال الجوهري: الكلام بأيّة لغة؟ من عوامل اندثار اللّغات حروب إبادة  وهجرات قسرية وصراعات عرقية وكوارث طبيعية كما جرى لشعوب الكاريبي خلال عقد من السنين بعد زمن الرحّالة الإيطالي، كريستوفر كولومبس (1451-1506م)، وإبادة قبائل في الهند وإندونيسيا وتايلاند وسريلانكا في أعقاب إعصار تسونامي عام ٢٠٠٤؛ غير أنّ مثل هذه الحالات تكون نادرة (Skutnabb-Kangas, 2000). وهكذا في إثر اندحار العرب في الأنّدلس بعد قرابة ثمانية قرون من الحُكم، انقرضت عربيتُهم هناك؛ وفي جنوب السودان مثلا ظهرت عربية “جوبا” وفي جزيرة مالطا تحوّلت عربيتها إلى لغة أوروبية. كان لدى الهنود الحمر في القرن السادس عشر مثلاً أكثر من خمسمائة لغة ولم يبق منها اليوم سوى مائتين.

وفي عصرنا الحاضر حلّت الإنجليزية محلّ الإيرلندية في شمال إيرلندا وتهدّد الآن الولشية والجالية في أسكتلندا. عادةً ما يكون سبب الموت ناتجًا عن عواملَ داخلية أو خارجية، احتلال أو حلول لغة ما تدريجيًّا مكان لغة أخرى لأسباب اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو نفسية (Wurm, 1991; Brenzinger, 1992; Sasse, 1992; Woodbury, 1993; Nettle & Romaine, 2000; Crystal, 2002; Harrison, 2007; http://en.wikipedia.org/wiki/List_of_languages_by_time_of_extinction). مثال على ذلك لغة “كشوا” في أمريكا الجنوبية التي يتحدّثها نحو ثمانية ملايين نسمة، وبالرغم من ذلك فهي مرشّحة للانقراض بعد بضعة عقود، لأنّ الأطفال يتكلّمون الإسبانية عوضًا عنها (http://articles.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=149720).

وعندما نتحدّث عن موت لغة ما فذلك لا يعني أنها هرمت وذبلت ووهنت وهوت أرضًا جرّاء عمرها المديد، إذ أنّ الموت قد يحلّ بلغة حديثة العهد أيضًا، كما هي الحال بالنسبة للبشر. إنّ اندثار اللّغات في كلّ الحالات يحدُث عندما تحتلّ لغة ما ذات هيبة ونفوذ، سياسيًا وٱجتماعيًا وٱقتصاديًا، مكان لغة ثانية. ذلك الموت قد يكون، كما يُذكر في مراجعَ معيّنة، إما انتحارًا وإما قتلاً، ويكون الأول عند تشابه اللغتين والثاني حين ٱختلافهما. في الواقع، لا خطَّ واضح المعالم دائما بين نمطي “الموت” هذين وأمامنا على المحكّ ظاهرة اجتماعية في الأساس(Denison, 1977).

 

سمات وأماكن اللّغات المنقرضة

إنّ العبرة المستفادة من مثل هذه الاندثارات اللغوية المحزنة تتمثّل في أنّ مصير اللّغات الصغيرة على وجه هذه الكرة الأرضية في طريقه إلى الزوال في عصر العولمة هذا (Crawford, 2000). لا بد من التنويه بميزة معيّنة بالنسبة للغة “أوبيخ” في تركيا التي رحلت مع رحيل السيّد توفيق إسينش المذكور سابقًا عام ١٩٩٢ وهي كثرة الأصوات الصامتة (consonants) مقارنة بالصائتة (vowels)، يصل عدد الأولى إلى؛ أمّا الثانية فإلى ثلاثة فقط. وقد وُجدت في إفريقيا لغات ذات عدد أكبر من هذه الأصوات الصائتة. وممّا يجدُر ذكرُه أنّ نحو 80% من لغات هذه القارّة هي محكية فقط (http://ajrasalhurriya.net/ar/news_view_17508.html). وفي بعض الأقطار الإفريقية لغات كثيرة تتصارع، ففي ساحل العاج مثلاً سبعون لغة وطنية ونيّف تعيش حالةَ صراع كهذه (Brenzinger, 1992). في المقابل، هناك لغات تضمّ عددًا ضئيلاً جدًّا من الأصوات كما هي الحال في بابوا-غينيا الجديدة ذات أكبر عدد من اللّغات في العالم، قرابة 820 لغة، حيث نجد فيها لغة فيها خمسُ حركات وستّة أصوات صامتة، ومثل هذه اللّغات معرّضة للاندثار (Foley, 1986).

يتوقّع انقراضُ قرابة 50% من لغات العالم في غضون هذا القرن، الحادي والعشرين كما أسلفنا، وعليه فباحثو اللّغات على اختلاف تخصّصاتهم ومدارسهم في سباق مع عجلة الزمن المتسارعة لرصد خصائص تلك اللّغات وتوثيقها. إن أستراليا مثلاً، كانت قد شهدت في فترة زمنية معيّنة، قبل الاحتلال البريطاني عام ١٧٨٨، حوالي 250 لغة أصلية واليوم بقيت منها عشرون لغة، ومن المحتمل مستقبلاً اندثار 90% منها خلال هذا القرن و”الحبل على الجرّار”، (Dixon, 1980; McConvell  & Thieberger  2001 & 2006) إن لم تتمّ إجراءات عاجلة وفعّالة للحفاظ على بعضها على الأقلّ. لذلك هنالك مثلاً “اليوم العالمي للغة الأم” المصادف في الحادي والعشرين من شباط من كلّ عام، حيث تقام فعاليّات مختلفة ترمي إلى لفت النظر إلى أهمية لغة الأم وسُبل الحفاظ عليها وتطويرها؛ إلا أنّ ذلك اليوم العالمي غير كاف بالمرّة (Fishman, 1991). وفي هذه القارّة بعض اللّغات التي لا يتكلّمها أكثرُ من مائة شخص. وتحتلّ القارّة الأمريكية الشماليةُ المركزَ الثاني من حيثُ عددُ اللّغات الأصلية المندثرة أو الآيلة إلى الأفول فالزوال، حيث يقدّر عددها بحوالي 80%. كان لدى الهنود الحمر في أمريكا، على سبيل المثال، أكثر من 175 لغةً بقي منها عشرون لغة فقط. ولم يبق منها، في الواقع، سوى خمس لغات يصل عدد ناطقيها إلى عشرة آلاف فقط (Campbell, 1997). أمّا في كندا فالوضع لا يختلف كثيرًا، إذ أنّه من ضمن ستين لغة أصلية لم يبق إلا خمس لغات ما زالت حيّة تُرزق (Edwards, 1998). أما في القارّة السوداء فيصل عدد اللّغات التي ولّت أربعًا وخمسين وعدد التي في دائرة خطر الاندثار مائة وستّ عشرة لغة. يلاحظ أنّ اللغاتِ المهدّدةَ بالاندثار تعاني من ضعف في النقل منها وإليها وبخاصّة إذ ما أخذنا بالحسبان أنّ 40% من المؤلَّفات المترجمة في العالم هي من اللّغة الإنجليزية الأمريكية (Steiner, 1977, pp. 1-48; Ladefoged, 1992; Hale et alia, 1992; Haboud & Ostler 2011). وصف الكثيرون القرن المنصرم بـ “القرن الأمريكي” وكلّ الدلائل الراهنة تشير إلى استمراره حتّى يوم الناس هذا. والجدير بالذكر أنّ ظاهرة الاندثار اللّغوي تحدث عادة لدى شعوب فقيرة وغير متقدّمة وهي بأمسّ حاجة لمواردها الثقافية للبقاء وعلى رأسها اللّغة الوطنيّة.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم