صحيفة المثقف

مقامة: انا وايلاف والقمر

ameen sabahkobaصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، فلما اسدل ستار الدجى، قدح زند الاسى وانشدت:

اغازل البدر مفتونا بطلته

فيرتمي البدر من ألحاننا خجلا

اقول يابدر يامن نستضيئ به

فاقتك ايلاف فارحل من هنا عجلا

اجابني البدر مكسورا ومبتئسا

من التي صارت الاوجاع والعللا

قلت التي اتخذت من قلبنا سكنا

منها الجمال ومنها النور فيَّ جلا

فصاح البدر :انا سراج الظلماء، وانشودة الشعراء .قد كنت للياليكم منيرا، وللضالين مرشدا ومشيرا، وللعشاق حارسا ورقيبا. قد تربعت على عرش الظلماء، محروسا بنجوم السماء .انا ميقات الشهور، ومسير الامور. لطالما ناجيتموني، وبالشدات استجرتموني. اشكوكم عاشقا قد تهور، وللجميل انكر، فقام بفعلٍ اظنه منكر، فصير ايلافه القمر، وابعدني عن سمائكم يا معاشر البشر.

قلت قمركم عجوز ميت، وانا بقمري قد ابتليت .قمركم اطلع على الخبايا، وراقب الضحايا .قد شهد ما شهد من حوادث الزمن .فارتدى قفطان الظلماء، لكي لا يتسخ بياضه بدماء الابرياء .اتسخ بغبار الزمن ، حتى اصابه الوهن .فابدلته بقمرٍ انقى، لا قمر لمقامه يرقى.

 ثم التفت نحوها وقلت:

يا قمرا قد تعالى، فازداد بعلوه جمالا . يا نجما قد ارتفع، وانار بتلألأه البقع . يا تكبيرة العيد، وياباكورة المواعيد.يا جمالا قد تهلل، فتقدم الى ربه وابتهل .يا جميلة الصفات، ويا مصب المكرمات .يا نسيم الربيع، ويا حديثا زخرف بالبديع .يا كريمة اليد، ويا ممشوقة القد. يا عيونا قد سحرت، فصوبت على فريستها وانتصرت. يامن فاقتهن برفعتها جمالا، واكتسبت من الخلق الكريم خصالا .

قالت: سلو عن القلوب الميتة، والارواح الخاملة، من التي احيتها؟، ومن الكسل حركّتها؟ .انا والله فعلت ذلك، وترفعت عن سائر الاحياء، وتركت النفاق والرياء، فظفرت بمنزلتي في السماء، واصبحت بديلا للقمر الوضاء .

ولما حلت محل القمر، عم ضيائها وانتشر، وفاح عبقها وعطّر، فاصبحت سلطانةً على البشر.

٢

 انقشع الظلام، فباغت المستهام. ورحلت ايلاف، وحل محلها ضياء شفاف، فتربعت الشمس على عرشها، و خرجت الطيور من عشها، فرحت اغازلها وشمسها، لانشغل عن من اسرت قلبي بحبها. فغرقت ما بين غزل وهجاء، لبنات حواء، وسمعت ما سمعت من الانباء، قالوا ايلافك في العلياء، محفوفةً بنجوم السماء، قد غرقت باناشيد الشعراء .ظنت ان عاشقها قد نسيها، قد آرقها واضناها، واتعبها واشقاها، فاصبح اشقاها، ولم يبق واحدة الا غازلها او هجاها.

ولما شاخ اليوم، نُسجت خيوط الظلام ، وسطعت ايلافي من بين الغمام .فلم اشعر الا و محلي منها كمحل القطب من الرحى ، وكقرب الضواحك من الرحى. فانشدت مرتبكا :

كم صار رقيقًا قلبي حين تعلم بين يديكِ

كم كان كبيرًا حظي حين عثرت يا عمري عليكِ

يا نارًا تجتاح كياني .. يا فرحًا يطرد أحزاني

يا وجهًا يعبق مثل حقول الورد ويركض نحوي كحصانِ.

قالت كفاك هذيا بالالحان، فقد كشف سرك وبان، يا مطرب الخود الحسان. فلا انت للحق تتبع، ولا للعضات تستمع، دأبك ان تتقلب مع الاهواء، وتخبط خبط العشواء،

 دأبك ان تتغزل بالنساء، حتى نسيت انك تركتني في السماء، بديلا للقمر الوضاء. لم اعهدك اسيرا للنظرات، ولم اعرفك مصاحبا للبنات، تركتك كعصفور صغير، لا يحسن الطير.

قلت قلبي بقربك دوحةٌ مخضرة، وببعدك ارض مقفرة، وبقربك ارض كلها مسرة، وببعدك واحةٌ دائمة الحسرة.

احتشدت في غيابك جيوش الكلمات، فاصابتني بالنائبات .منيت نفسي ان القاك، او ان يلفحني نسيم من هواك .فلما اشتعلت جذوة الاشتياق، غازلتهن وفي القلب اوجاع، لاصبر نفسي على الفراق.

قالت ابدعت باللف والدوران، يا بلبلي الجذلان، لذا قف باتزان، واسمع مني هذا البيان.

يا عشاق الالحان، في كل زمان ومكان .قد حكم على هذا العاشق، بالرمي بالبنادق، او بالسجن في ليل غاسق، فاحرمه تمام الغاسق.

قلت:

اريدك فاقتليني ...كي احسك

واقتلي الحجرا

بفيض دمٍ بنار منك واحترقي بلا نارِ.

فلما سمعت ما قلت، هجرت موضعها في السماء، ورتلت تعاويذ الشعراء، وقالت: تضعفني ابيات السياب، هلل فقد درأ العذاب وانشدَت:

 دعني لآخذ قبضتيك كماء ثلج في انهمار

من حيثما وجّهت طرفي ماء ثلج في انهمار

في راحتيّ يسيل في قلبي يصبّ إلى القرار

يا طالما بهما حلمت كزهرتين على غدير

تتفتحان على متاهة عزلتي.

قلت هذه قبضتي فخذيها، وهذه الحاني فردديها .ثم قلت:

 يا خفي الالطاف، هب لي قلب ايلاف، فقد سار نحوه الشغاف، وانر دياجينا بقمر لا يسكت على باطل، ولا ينير الا لعاذل .

٣

علا نحيبهم، وازداد ضجيجهم .تسائلوا عن ايلاف والقمر، وعن الظلام الذي قد انتشر .قالوا خدعنا العاشق المشتاق، وقال ان ليس لايلافه محاق .لم نعلم انها كانت للياليه تنير، مبعدة عنه كل صعب عسير، وفضلته على كل كبير وصغير. وانا نستجيرك يا قمر، ان تعود فتشغل الفِكَر، هذا ما رددته معاشر البشر.

 عندها همس القمر، بنشيد اذهل البشر، فدخل الى قلوبهم وتوجّر، واشعل حماسهم وفجّر وقال:

الموت محتمل ضيف به ثقلُ

كذا قيامي بعد الموت محتملُ

والليل حمل انا من تحته جملُ

يا قائمي الليل لا خوف ولا وجلُ

وعاد قمرهم بشكل هلال، آسرا قلوب العذال. واستقبله الشعراء بالتبجيل، والمحرومون بالعويل. قالو بعث من رقدته ليعوم، وليضيئ بانواره درب المظلوم .عندها اصابتني رشة ماء، ولم اعرف اكنت في صحو ام اغفاء؟.

فاخبرني صديقي انني غفوت على ضوء القمر، عندها لعنته و تذكرت ايلاف وانشدت:

قاتلتي ترقص حافية القدمين بمدخل شرياني

من اين اتيت؟ وكيف اتيت؟ وكيف عصفت بوجداني؟.

٤

روي عن البدر التمام، المتلألأ في الظلام، الذي تلحف الغمام، والذي انار دروب الانام، فصار حارسا لكل عاشق مستهام. انه قال:حللت بارض بحرها بلا ماء، اشجارها صفراء وزهورها ذابلة شعثاء. حتى صادفها شاعر، فرواها بفيض المشاعر، سألته :يا محيي الارض بفيض الدموع، ويا من روى بمشاعره كل ينبوع.اخبرني بحق الاشهر الحرم، ما كل هذا الالم؟.

اجابني: جرح ٌ اذا ما تذكرته تورم، وحديث اذا ما افضيته اعدم، وحبيبٌ رجوته ولم يرحم، قد اوتر قوس لحظه واسهم، ورقص على احزاني وتنعم، وردد حروفي ففهم، اذا غازلته اطرب وافعم، واذا ذكرت غيره عبس وتجهم، قد كان لجرحي مسكناً ومرهم، قالوا انشغل عنه لعلك تُرحم، فيغيب طيفه عنك وتنعم، وقالوا انعم بارض الغرباء، فان زينتها شرابٌ ونساء. لعلها تنسيك وتشفيك. فاهملتهم وكلي وجوم، وغازلتها بما هو معلوم ، بنص له لمعان النجوم.

قلت أ لست الذي ابدلني بايلاف؟ الم ارك في العراق؟ تحوك الاسجاع، وتطرب الاسماع.

قال بلى، قلت ابعث لايلافك سلاما، واطرب قلوب الانام.

قال:سلام على لحظٍ قد صوب، وعلى كلام قد اسهب، فولج الى النفوس وتشعب، سلام على خُلقٍ لاقته المغريات فما ذهب، فكان كالذهب، كلما تصهره النار التمع واستوعب.

ثم قال :استحلفك يا قمر، اذا سألك عني بشر، فقل انه عاشق قد تهور، وشاعر قد اندثر، امضى مسائه ليرسل سلاما مع حجر.

واعلموا يا معاشر البشر، ان هذا قد حدث وتكرر، مع عشاق مثل قيس وعنتر، فخذوا الحكمة من حجر، لعل واحدكم من الذنوب يتطهر، ويبجل خالقه اذا ما صاح المنادي الله اكبر.

هذا ما ردده القمر.

 

امين صباح كبة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم