صحيفة المثقف

ليلة أكتوبر

ترجمة لنصوص الشاعر

ألفريد دي موسيه

mohamad alsaleh

ليلة أكتوبر / تعريب: محمد الصالح الغريسي

 

الشاعر

الداء الذي عانيت منه، كالحلم تلاشى

فما استطعت أن أقارن الذكرى البعيدة منه،

إلاّ مع الضباب الخفيف الذي يثيره الفجر،

فلا يرقّ إلاّ مع النّدى.

ربّة الشعر

ماذا الذي أصابك، أيّها الشاعر؟

و ما الدّاء الخفيّ،

الذي فرّق بيننا؟

ما زلت للأسف، أعاني منه

فما هو هذا الدّاء الذي لا أعلمه

و الذي طالما أبكاني؟

الشاعر

لقد كان داء قبيحا، يعرفه الرجال جيّدا

لكن عندما تنتاب قلوبنا بعض الهموم

فإنّا نحن مساكين المجانين،

نتصور أن لا أحد قبلنا

أحسّ بالألم.

ربّة الشعر

ليس ثمّة من حزن مبتذل،

كحزن النفس المبتذلة.

أيّها الصديق، دع صدرك اليوم يتخلّص من هذا السرّ الحزين .

صدّقني، إنّي أخاطبك بكلّى ثقة في النّفس؛

إنّ إلــه الصمت القاسي، هو أحد إخوة الموت؛

ففي الشكوى، نجد العزاء

إذ بكلمة أحيانا، نكون قد تحرّرنا من الإحساس بالندم.

الشاعر  

إذا كان عليّ الآن أن أتحدّث عن معاناتي،

لا أعرف بالتحديد أيّ اسم كان عليها أن تحمله،

أ هو الحبّ أو الجنون أو الغرور أو التجربة،

و لا أدري، إن كان أيّ واحد في العالم، يستطيع أن يستفيد من ذلك.

لكن، أريد بكلّ تأكيد، أن أروي لك القصة؛

بما أنّنا الآن بمفردنا، جالسين قرب البيت.

خذ هذه القيثارة واقترب، ثمّ اترك ذاكرتي

تستيقظ بهدوء مع صوت تعديل أوتارك.

ربّة الشعر

قبل أن تخبرني عمّا يتعبك،

أيّها الشاعر  ! فهل شفيت منه؟

فكّر اليوم مليّا،

أنّه عليك أن تتكلّم بلا حبّ ولا حقد.

إذا تذكّرت أنّي نلت

اسم المواسية، الحلو هذا،

فلا تجعل منّي شريكتك

في عواطفك التي ضيّعتك.

الشاعر

لقد شفيت تماما من هذا المرض،

حتّى أنّي أشكّ في أمره حين أريد أن أفكّر فيه؛

و حين أفكّر في الأماكن التي خاطرت فيها بحياتي،

أحسب أنّي رأيت وجها آخر غريبا في مكاني.

يا ربّة الشعر، لا تخشي شيئا من النَّفَسِ الذي يمنحكِ الإلهام.

يمكننا بكلّ أمان أن نصارح بعضنا البعض.

فمن المريح أن نبكي، ومن المريح أن نبتسم،

حين نتذكّر الآلام، التي بإمكاننا نسيانها.

ربّة الشعر

مثل أمّ يقظة

عند مهد ابنها الحبيب،

أحنو مرتعشة على هذا القلب الذي

كان مغلقا أمامي.

تكلّم أيّها الصديق – إنّ قيثارتي اليقظة،

ذات النوتة الضعيفة الحزينة،

ما تزال تتابع نبرة صوتك،

و في شعاع من الضوء

تمرّ ظلال الماضي كحلم خفيف.

الشاعر

أيّام العمل ! هي الأيّام الوحيدة التي عشتها !

يا أيّتها الوحدة العزيزة عليّ أضعافا ثلاثة !

الحمد لله، ها أنا ذا قد عدت،

إلى مكتب الدراسات القديم هذا !

يا له من مسكين تنكّرت له الأيّام !

كم مرّة أمست جدرانه خالية،

أرائك يعلوها الغبار، مصباح لم تتغيّر ..

يا قصري.. يا كوني الصغير..

و أنت يا ربّة الشعر، يا أيّتها الشابّة الخالدة،

الحمد لله، فلنغنّ معا !

نعم أريد أن أكشف لك ما بنفسي،

ستعرفين كلّ شيء، وسأحكي لك،

ما يمكن أن تفعله امرأة من شرّ؛

و إنّها يا أصدقائي الأعزّاء، لواحدة من هذا الصنف،

(للأسف، ربّما كنتم تعرفون ذلك)،

إنّها امرأة سُلِّطَتْ عليّ، فكنت لها بمثابة العبد للسيّد.

ما أكَرَهَ هذا النير ! هذا ما أفقد قلبي قوّته وشبابه؛

و مع ذلك فقد كان لي في حضرة خليلتي، لقاء مع السعادة.

عندما سرنا معا قرب الجدول،

مساء على الرمال الفضّية،

عندما كان شبح أشجار الحور الأبيض أمامنا،

يدلّنا من بعيد على الطريق؛

ما زلت أرى تحت أشعّة القمر،

هذا الجسد الجميل يتأوّد بين يديّ...

كفانا حديثا عن ذلك...

-لم أكن أتوقّع، إلى أيّ حدّ سيقودنا النصيب.

لا شكّ أنّ غضب الآلهة في هذه الحالة،

كان في حاجة إلى ضحيّة؛

لأنّها عاقبتني، على محاولتي أن أكون سعيدا، كما لو كانت جريمة.

ريّة الشعر

ها هي ذي صورة من ذكرى حلوة

قد أهديت بعدُ إلى تفكيرك.

لماذا تخشى من العودة

على الأثر الذي تركه؟

أهو استعراض أمين للأحداث،

أكثر منه إنكار لتلك الأيّام الجميلة؟

أيّها الشاب، إذا كانت الثروة فاحشة،

فافعل على الأقلّ مثلما فعلت،

ابتسم إلى حبّك الأوّل.

الشاعر

لا..أنا إن ادعيت الابتسام،

فقد ابتسمت لسوء حظّي.

يا ربّة الشعر..لقد سبق أن قلت لك :

أريد أن أقصّ عليك بدون انفعال، همومي، وأحلامي، وهذياني

 بما في ذلك الزمن والساعة والمناسبة.

كان ذلك في ليلة من ليالي الخريف، في ما أذكر؛

ليلة حزينة باردة، شبيهة تقريبا بما نحن فيه الآن؛

كان همس الريح، بصوت ضجيجها الرتيب،

 يهدهد أفكاري القاتمة،

كنت أنتظر حبيبتي عند النافذة،

و أنا أنصت جيّدا في هذه العتمة،

أحسست في نفسي بشيء من التأزّم،

ممّا جعلني أ شكّ فجأة في وجود خيانة.

كان الشارع حيث أقطن، مظلما ومقفرا،

كانت بعض الظلال تمرّ وبيدها فانوس؛

كنّا حين تصفّر ريح الشمال في الباب الموارب،

 نسمع من بعيد، ما يشبه تنهّد كائن بشريّ.

حتّى أكون صادقا في القول، لست أدري،

لأيّ تطيّر مشؤوم، كانت نفسي قد استسلمت.

استنجدت - دون جدوى - ببقايا من شجاعة،

و أحسست برعشة تتملّكني، حين دقّت الساعة.

إنّها لا تأتي.كنت وحيدا، منحني الرّأس ؛

أنظر طويلا إلى الجدران وإلى الطريق،

و لم أخبرك، أيّ همّة غريبة كانت تثبرها في صدري هذه المرأة المتلوّنة.

لم أكن أحبّ أحدا غيرها في العالم،

كان يبدو لي، أنّ عيشي بدونها إنّما هو قضاء أكثر رهبة من الموت.

و الحال أنّي أتذكّر في تلك الليلة القاسية،

أنّي بذلت قصارى جهدي، كي أكسر قيدي.،

كنت أسمّيها غادرة وغير مخلصة،

لقد أحصيت كلّ ما سبّبته لي من شرور.

للأسف ! في ذكرى جمالها المدمّر،

كم من الشرور ومن الأحزان، ما يزال على حاله، لم يخفّ !

لقد طلع النهار أخيرا – بعد انتظار مضن لا طائل من ورائه،

أخذني النعاس على حافة الشرفة؛

ثمّ فتحت أجفاني من جديد على الفجر الوليد،

و تركت نظري المبهور يسبح حيث يشاء.

و فجأة، سمعت في منعطف الزقاق الضيّق،

صوتا خفيفا، لخطوات تسير على الحصى،

يا الله يا عظيم احفظني ! إنّي ألمحها! إنّها هي ؛

إنّها تدخل – من أين أتيت؟ماذا فعلت هذه الليلة؟

أجيبي، ماذا تريدين منّي؟ما الذي جاء بك في مثل هذه الساعة؟

أين كان هذا الجسد الجميل ممدّدا حتّى طلوع النهار؟

في حين ظللت في هذه الشرفة وحيدا، ساهرا أبكي،

في أيّ مكان، وعلى أيّ سرير، وإلى من كنت تبتسمين؟

خائنة..أما زالت لديك الجرأة، لتأتي وتهدي شفتيك لقبلاتي؟

ما المطلوب مني إذا؟بأيّ عطش رهيب تجرئين على استمالتي إلى حضنك المتعب؟

اذهبي .. انسحبي ..يا شبح حبيبتي !

ادخلي قبرك إن كنت قد نهضت،

اتركيني إلى الأبد..، انسي شبابي،

فعندما أفكر فيك، أحسب أنّني كنت في حلم.

ربّة الشعر

أناشدك أن تهدأ؛

فكلماتك قد جعلتني أرتجف،

يا محبوبي !

بإمكان جرحك أن ينفتح من جديد.

هو للأسف عميق جدّا؟

و مآسي هذا العالم

لا تمّحي إلاّ ببطء شديد !

انس، أيّها الطفل، واطرد من بالك اسم هذه المرأة،

الذي لا أريد ذكره.

الشاعر

عار عليك، أنت أوّل من علّمني الخيانة،

و بالرعب والغضب، أضاع رشدي !

عار عليك يا أيّتها المرأة صاحية العين السوداء،

يا من حبّها القاتل، دفن في الظلّ ربيعي، وأيّامي الجميلة!

إنّه صوتك..إنّها ابتسامتك،

إنّها نظرتك المفسدة،

ذلك، ما علّمني كيف ألعن،

إلى حدّ الإحساس بالسعادة؛

هما شبابك وسحرك، من بعثا في نفسي اليأس،

فلئن صرتُ لا أثق في الدموع،

فلأنّني رأيتك تبكين.

عار عليك، كنتُ ما أزال

ساذجا، مثل طفل صغير،

كزهرة عند طلوع الفجر.

كان قلبي يتفتّح بحبّك.

و ممّا لا شك فيه، أنّ هذا القلب الأعزل،

كان من السهل استغلاله،

لكن الإبقاء على براءته كان أسهل.

عار عليك ! كنت أمّا

لأحزاني الأولى،

و جعلت من جفني نبعا تتدفّق منه الدموع !

فظلّت تسيل، وكوني على ثقة، أن لا شيء سيجعلها تجفّ؛

إنّها تنبع من جرح لن يطيب أبدا؛

لكنّي - على الأقلّ - في هذا النبع المرّ، سأغتسل،

و آمل أن أتخلّى فيه عن ذكراك البغيضة !

ربّة الشعر

يكفي أرجوك، أيّها الشاعر .

عندما لا يدوم وهمك مع امرأة خائنة، سوى يوم واحد،

فلا تشتم هذا اليوم حين تتكلّم عنها؛

إذا كنت تريد أن تُحَبَّ فاحترم حبّك.

إذا كان الجهد المطلوب، يفوق قدرة البشر الضعيفة،

على مغفرة ما يسلّطه علينا الآخرون من شرور،

فوفّرْ على نفسك على الأقلّ عناء الكراهية،

و عند غياب العفو، عليك أن تتدرّع بالنّسيان.

إنّ الأموات يرقدون بأمان في حضن الثرى:

كذلك ينبغي أن تنام عواطفنا وقد انطفأت جذوتها.

هذه الآثار الباقية في القلب، لها مخلّفاتها هي الأخرى،

فلنرفع أيدينا عن بقاياها المقدّسة.

لماذا لا تريد أن ترى في فهذه القصّة المليئة بالمعاناة،

سوى حلم، وحبّ قوبل بخيانة؟

أتعتقد أنّ العناية الإلهيّة تتصرّف دون موجب،

و هل تعتقد حينئذ، أنّ الله الذي ضربك غافل؟

فالضربة التي تشكو منها، قد تكون أيّها الطّفل،

هي التي أبقت عليك،

ذلك أنّ هذا الباب بالذّات، هو الذي انفتح منه قلبك.

فالإنسان هو الصبيّ والألم هو المعلّم،

و لا أحد يعرف نفسه، إن هو لم يتألّم.

إنّه لقانون قاس، ولكنّه القانون الأعلى،

قديم قدم العالم والقدر

الذي حكم علينا، أن نعمّد بالألم.

و بهذا الثمن المؤلم أن نشترى كلّ شيء.

إنّ الغلّة لكي تنضج، تحتاج إلى الندى.

و لكي يحيا الإنسان ويحسّ، يحتاج إلى الدّموع؛

و للسعادة رمز، هو النبتة المكسورة،

النديّة بقطرات المطر، المكسوّة بالزهور.

ألم تكن تحدّث نفسك أنّك برئت من الجنون؟

أم تكن شابّا، سعيدا، مرحَّبا بك حيثما حللت؟

و هذه المتعُ الخفيفةُ، التي تحبّبُ إلينا الحياة،

على أيّ حال كنت ستكون، لو انّك ما بكيت؟

و حين كان النهار يلفظ أنفاسه الأخيرة،

و أنت جالس على خميلة من نبات "الخلنج"،

مع صديق قديم تشربان بحريّة،

قل لي يا صاحب القلب الطيّب جدّا،

هل كنت سترفع كأسك، لو لم تشعر بالجذل والانشراح؟

هل كنت ستحبّ الزهور والمروج والخضرة،

و قصائد "بيترارك" وتغاريد الطيور، و" ميكال آنجل" والفنون،

و" شيكسبير" والطبيعة، لو لم تجد في ذلك تنهّداتك القديمة؟

هل كنت ستفهم انسجام السماوات الأقدس جلّ ذكرها،

و سكون الليل وهمس الأمواج، لو لم تحملك الحمّى والأرق

في مكان ما هناك، على التفكير في الراحة الأبديّة؟

أليس لك الآن خليلة حسناء؟

حين تمسكها من يدها بحرارة وأنتما تذهبان إلى النّوم،

ألا تجعل ذكرى حماقات الشباب البعيد ابتسامتها الربّانيّة أكثر عذوبة؟

ألا تذهبان أيضا في نزهة معا، وسط الغاب الموشّح بالأزهار، على الرمال الفضيّة؟

و في هذا القصر الأخضر، ألم يعد شبح شجر الحور الأبيض،

 يعرف كيف يدلّك على الطريق؟

الم تعد ترى تحت أشعة القمر كما من قبل، جسدا جميلا بين ذراعيك،

لو كنت ستجد الثروة وأنت خلفها في المسرب وهي تغنّي، هل كنت ستمشي؟

ممّ إذا تشكو؟ فالأمل الخالد، قد لطّخ فيك يد الشقاء من جديد.

لماذا تريد أن تكره التجربة الفتيّة، وتمقت الشرّ الذي جعلك أفضل؟

آه يا طفلي ! تذمّر من ُ هذه الحسناء الخائنة التي أسالت الدموع من عينيك في ما مضى؛

تذمّر منها ! إنّها امرأة، وقد جعلك الله قريبا منها، تحزر وأنت تشقى، سرّ السّعداء.

لقد كانت مهمّتها مضنية، ربّما كانت تحبّك؛ لكن القدر أراد منها أن تكسر قلبك.

كانت تعرف الحياة، وقد عرّفتك بها،

و لكنّ امرأة أخرى هي من جنت ثمرة ألمك.

تذمّر منها! لقد مرّ حبّها الحزين مثل حلم؛

لقد رأت جرحك، لكنها لم تقدر أن تضمّده.

صدّقني، أنّ كلّ شيء في دموعها كان صادقا.

عندما تكون قد تذمّرت من كلّ شيء فيها! عندها ستعرف كيف تحبها.

الشاعر

قد قلتِ صدقاً:الكراهية أمر غير محمود،

إنّها لرجفة مشحونة بالرّعب،

تستولي على قلوبنا،

عندما تخلد هذه الأفعى إلى النوم.

فاسمعيني إذا، يا أيّتها الربّة !

و كوني شاهدة على قسمي:

أقسم بعيني خليلتي الزرقاوين،

بلازورد القبّّة الزرقاء؛

بهذه الشرارة اللاّمعة،

التي تستمدّ اسمها من "فينوس"،

و التي تشعّ بعيدا في الأفق،

كجوهرة مرتعشة؛

أقسم بعظمة الطبيعة

بطيبة الخالق

بالكوكب العزيز على المسافر،

في وضوحه الهادئ، الصافي،

بالعشب في المرج، بالمراعي الخضراء

بعظمة الحياة،

و أقسم بنسغ الكون؛

أن أطرد من ذاكرتي

بقيّة حبّ تافه،

قصّةً مظلمةً غامضةً،

ستظلّ نائمة ً في الماضي !

و أنت التي قديما، أخذت عن صديقة لي شكلها واسمها،

فإنّ أعظم لحظة أنساك فيها، ينبغي أن تكون هي لحظة المغفرة.

فليغفر كلّ منّا للآخر؛

- سأقطع مع الفتنة، التي كانت تجمع بيننا عند الله.

بآخر شفرة، تقبّلي منّي هذا الوداع الأبديّ.

- والآن أيّتها الشقراء الحالمة،

الآن يا ربّة الشعر، لأجل حبّنا !

قولي لي بعض أغنية مفرحة،

كما في عهدنا الأوّل من تلك الأيّام الجميلة.

فالمرج بعد ما يزال معطّرا، يحسّ باقتراب الصباح..

تعالي وأيقظي محبوبتي، واقطفي الأزهار من الحديقة.

نعالي وانظري الطبيعة الخالدة تنزع عنها حجب النوم؛

سنولد معها من جديد، عند أوّل شعاع للشّمس.

 

ألفريد دي موسي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم