صحيفة المثقف

استاذتي نازك الأعرجي...

salam khadomfaraj(نحن لا نجامل الزعماء بل نجامل الادباء ....سلام)..

ربما هي أصغر مني سنا.. لا أعرف.. ولكنها كانت في يوم ما معلمتي.. كيف؟؟ تلك قصة طويلة لا بد من سردبعض المقدمات.. في منتصف السبعينيات بدأت النشر في صحف البصرة المحلية.. بتشجيع من الفقيد جليل المياح

نشرت في الثغر والأيام الثقافية التي كانت تصدر عن مهرجان المربد... وكنت قد فزت بجائزة رفيعة تمنح للنقاد الشباب الذين لم يتخطوا الإعدادية !! وقد منحني الجائزة في حينها محافظ البصرة محمد محجوب .. وبارك خطواتي الفقيد الشاعر محمود البريكان والفقيد القاص محمود عبد الوهاب... كان من المنطقي ان استمر في الكتابة والنشر.. لكن امرا رهيبا قد وقع لي.. فقد اعتقلت لاسباب سياسية بحتة.. وقدمت تنازلات مخجلة لكي انجو...

منها التوقيع على تعهد عقوبة النكث به الإعدام شنقا !!!هذا التعهد ينص على التفرغ لشؤون أسرتي والامتناع عن الكتابة والنشر إلى أبد ألآبدين..

ولأنني لا أدعي شجاعة مزيفة.. فقد امتثلت للأمر.. وهجرت الكتابة .. وغادرت الحلم الشاعري في ان أكون اديبا..

(كان مجرد ان ترى اسمك في اية صحيفة مطبوعة.. مجرد ان ترى اسمك... تجتاحك سعادة غريبة . افتقد لذتها الان..)... عندما اندلعت الحرب مع الجارة العزيزة ايران.. كرمت على صبري وحرماني بمنصب خطير هو جندي مكلف احتياط خريج.... امرك يا سيدي...سوق.. اثناء الحرب نستني السلطة.. وأصبحت واثقا من انها تنظر الي ّ كمواطن صالح ملتزم.. لا غيابات. لا هروب.. لا كلام فارغ في السياسة.. فرجعت لعادتي القديمة .. ابحث عن الكتب لاقتنيها !!! وكنت قد أحرقت مكتبتي كلها.. ابقيت على نسخة من القرآن الكريم .. وديوان أبي القاسم الشابي.. فقط.. حتى ديوان المعري .. ورسالة الغفران. وسقط الزند. وديوان المتنبي. احرقتهما شر حرقة !!!..

وزيادة في الايضاح لابد من التنويه ان الاخوة في الامن العامة امروني شفهيا..(ولكنه امر يحمل قوة الملحق للتعهد السابق).. ان امتنع تماما عن التدخين وشرب الكحول فامتثلت !! حتى والدتي لم تفهم سر امتناعي عن التدخين وشرب البيرة واعتقدت ان الله سبحانه قد هداني..لكنها لم تعلم وأنّى لها ان تعلم ان ولدها قد زرعوا في ذهنه فكرة ان كاميرات خفية تنقل (صورة وصوت) كل حركاته وسكناته.. لن اطيل عليكم في الحديث عن قصة التنصت او التصنت عند حكومات ذلك الزمان.. فقد لمستها لمس اليد.. في تجارب كثيرة لم تجر على فأر ولا شافتها حتى كلاب بافلوف..

ومع ذلك ان للضجر أسبابه.. ومن غير الكتاب بالنسبة لي منقذ من الضجر؟؟ فرجعت حليمة على عادتها القديمة .. ورجعت. الى الكتابة والكتاب.. (ما أحلى الرجوع إليه..)..كانت السلطة صامتة صمت السماء المؤقت عن الكفار والمشركين.. لذلك انتابني الشوق لتجريب قلمي في كتابة بعض القصص.. وكنت مثل الحصان الذي تكسرت اطرافه فنسي الركض بين الحقول.. كنت أمزق ما اكتبه في الليل قبل حلول الصباح.. قصص قصيرة.. قصائد تفعيلة.. قصائد نثر... خاطرة..لكن التمزيق كان النهاية المحتومة لكل ما اكتب.. حتى بعد ان أكملت نصف ديني.. انتبهت زوجتي لهذه الظاهرة التي لم تفهمها إلا بعد سقوط الصنم بمساعدة الأصدقاء المارينز.. حين شرحت لها قصة الكاميرات الخفية.. فبسملت وحوقلت.. وجاملت على (ٌقد عقلي !!!..)..

والان نعود إلى معلمتي واستاذتي الرائعة التي لن انسى فضلها في إعادة الروح والجذوة لوجداني.. بين عامي 86 و89 .. كنت قد عرفت ان السلطات قد اعدمت صديقي الشاعر خليل المعاضيدي... خليل الذي قررت ان أنساه تماما لكي انجو ... علمت بمقتله من جندي بعقوبي التقيته مصادفة على ساتر من سواتر حربنا مع ايران..حينها لم استطع ان أنم.. وأحسست بمرارة الفجيعة.. ورغبت باللحاق به.. واكتشفت سخف ان ابقى وخليل يموت.. في اول إجازة.. هرعت الى بار قريب من بيتي وكرعت كؤوسا من البيرة. لا أتذكر عددها.. وكتبت قصيدة طويلة... أتذكر منها: انا لا انكر اني قد شربت / في ليلة ظلماء بيد اني ما سكرت.. انا ما كسّرت اقداحي. ولكني انكسرت.. شاهدا كنت وبعد جريمة القتل صمت.. انا ما بعت قرآني.. أضاعني يا سيدي زماني.. فما بالك كجرذ تدور حول قافية عنود.. وحين تستريح.. متسع هناك.. لقبض الريح.. قلت لزوجتي.. الان طاب الموت ياعرب !!! كتبت النص بخط انيق بالحبر الشذري كما أتذكر وأرسلته الى نازك الاعرجي.. قلت لها : سيدتي.. أكون ممتنا. ان نشرت هذه القصيدة في صفحتك الغراء.. وكانت تشرف على صفحة الأدباء الشباب في جريدة الجمهورية... كان عنوان النص... (مالم يقله سلم الخاسر....) ..لم تقصّر الأستاذة نازك.. خلال بضعة أيام وجدت قصيدتي المحبوبة القاتلة منشورة على صفحات اهم صحيفة عراقية متوفرة آنذاك.. حينها فكرت ومثلما يقال.. عندما تذهب السكرة تجيء الفكرة.. ماذا لو أصطادني العقيد متلبسا في نشر الممنوعات.. صحيح هي ممنوعات من نوع بعشرة قروش خس.. ولكن ماذا لو اعترفت انني أرثي خليلا؟؟ خليل المعدوم؟؟ وماذا عن تلك الشابة البريئة التي وجدت في نصي ما يستحق النشر.. فنشرته؟؟ لا أحد يمكنه ان يفهم ماذا يعني ان يقع المرء في فخاخ التحقيق في دوائر الامن.. لا يعرفه الا من عاشه.. وليس مثلي احمق من يفعلها ويجازف تلك المجازفة الغبية وقد انتفخت بطن زوجتي بطفلنا المحبوب هشام في ذلك الوقت العصيب..

مرت الأيام ثقيلة علي ّ... لكنها مرت بسلام.. هل أتوب؟؟ انهمر النبوغ كما انهمر على نابغة بني ذبيان فرحت أرسل الرسائل..ونازك الاعرجي لا تقصّر.. ربما تجاوزت النصوص العشر... او ربما أكثر.. إلى ان خاطبتني بهذه الجملة على نص لم تنشره : سلام.. عندما جاءوا به.. ظننته نائما.. !! أليس كذلك ؟؟ ( كانت هناك مساحة صغيرة للردعلى النصوص التي فيها ما يستحق الملاحظة ...).. ما زلت أتذكر مقطعا من النص وهو عن فتى بعمر الورد استشهد في الحرب وبقيت والدته تنتحب ويصل صوتها الى كل الجيران طوال ليال عديدة.. فكتبته على لسانها.. وعندما جاءوا به ظننته نائم.. وعندما ودعّته.. أودعته ربيعنا .. وعمرنا الهائم..).. حزنت كثيرا لرد المحررة .. وكتبت لها رسالة عتاب طويلة.. حدثتها عن السياب وكيف يقول. عيناك غابتا نخيل ساعة السحر..(هنا الاستحقاق الجر..) او شرفتان راح ينأى عنهما القمر..( هنا الاستحقاق الرفع ..) لكنه وظّف السكون..وجعل الروي والقافية واحدة وما هي بواحدة.. كانت الرسالة طويلة.. لكني لم أرسلها.. فقد إنشغلت بحبيبي هشام وحبيبتي وجدان ابنتي الغالية... لكني لم أنس ملاحظة معلمتي الغالية التي هي الان من اعز الأصدقاء على صفحات التواصل الاجتماعي.. وهذه المقالة تحية لها والشكر لها فقد كان لعطر حبر الجريدة سحر لايقاوم... ولولا نازك الاعرجي.. لبقيت صامتا محروما إلى أبد الآبدين ..

 

سلام كاظم فرج..

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم