صحيفة المثقف

ضَوءٌ يشُقُّ شرنقتَه

قصي عطيةضوءٌ يشُقُّ شَرنقتَه

صَباحَ اللَّهفةِ الأولى

سوادٌ يتلاشى،

وأقفاصٌ تُطلِقُ طَرائدَها المَسْجُونة

صوتُهُ يهتفُ بالقلبِ: تمسَّكْ

أعرفُهُ، كانَ هنا ليلة الأمسِ

شربنا كأسين من الويسكي معاً

هتفنا بالزّمن الضّائعِ معاً

نظَّارتاهُ...

سُبَّحتُهُ...

وأُفسحُ مكاناً كي يمرَّ شُعاعٌ

من التّنهيدات المُتعبَة

أمنحُ القلبَ برعماً تُكلِّله بقايا عطرٍ

تنزفُ من شرفات الأملِ المرمَّد

غادرَ دونما ذاكرته

تركَ رائحةَ حزنه على زجاج مرآتي

دونما أمل بالرّجوع

سكونٌ

يتهشَّمُ

يفيضُ بالوحدة

يعاودُ رسمَ الجرحِ

يهوي برصاصة الوداع

شهقاتُ الصَّمتِ لاتصل إليها

أصابعُ الرحيل

لا يطالُها الغيم

يمحو إثمَ العتبات

خانتِ السُّفنُ شواطئها

خانتِ الرّيحُ بياضَ الغيمِ

يحلُم بخلاصٍ سديميّ

مشدود إلى اللانهايات

يهيمُ بالغبشِ،...

بأكاليل الصّور

يرتدي معطفَه على عجل،

مبلَّلاً بغربته

أيلولُ يعشعشُ في وجه الرصيفِ

لا يتَّسعُ لبقعة ضوءٍ جديدة

تتسلّلُ إلى المرايا

أيقونةٌ، خنجرٌ، نعشٌ ...

أريجُ النّسيمِ القابع في سترة الليل

يحيا بلا حلمٍ

بلا مصابيحَ أو نجوم

يفتحُ شبَّاكّهُ يعبرُ منه ماضياً

لا مستقبلَ لهُ

يمضي... ضائعاً على شاطئ قبلةٍ

يلوِّنُ خطيئتَه بزرقةِ السّماء

ويمشّط غرَّته بجرحِه اللّذيذِ

يمضي... مَرميَّاً كشعاعٍ

فرَّ من مُقلةِ النّجمِ

يحنو على صهيل قلقه

بأناملِهِ المشقَّقةِ

ويقتلُ حضورَ الذّكرى

باحتسائِهِ قهوةً بلا سُكَّر

في فنجانٍ بلا لون، أو أصدقاء!!

***

قد يمرُّ من هنا ذاتَ خريفٍ يلملمُ

شظايا ذاكرتهِ بالقرب من قبري

سأرجوه وقتئذٍ أن ينفخَ الغبار

عن ماضينا

ويصلِّي لدخانٍ تطايرَ من شفتيه

في ليلةٍ خريفيةٍ صمّاءَ

وأناوله مفتاحَ الولوجِ إلى شاطئ

الرّؤى الغافية تحتَ وسادتي

قد يمرُّ من هنا ذاتَ هجوم

لذاكرة النّسيان

يعبّدُ الدّربَ نحو أمسِ الرّماد

والشّوقُ المتخثِّر على مرايا العتباتْ

ندفنُ معاً طقوسَ البهجة

ونحملُ أبديَّة الموت في حقائب غربتنا

نقيمُ مأتماً

على بعد مترينَ من جواز سفر

أعشقُ الشّوارعَ المكتظة بالخطوات

نحو الضَّوءِ المتشبِّثِ بالتُّرابِ

لم نعدْ نخاف الضَّوءَ

فضحتْنا شهقاتُنا خلفَ التوابيتِ

وظلال الياسمين

كُنّا محظوظين،

التقينا في حضن غيمةٍ شريدة

وافترقنا على مفرق عشبة ذابلة

تغطي مطارات الزّنبق المُرتجِف

نمرُّ تحتَ الأقواسِ العَاليةِ

زاهدَين في كلّ مُتعةٍ زائفةٍ

مُتعانقَين في صُورةٍ التقطَها المطرُ

عندَ الحَاجز الظَّامئ للحلم

الغارقِ في صَحوِهِ

الرَّابضِ كتمثال فرعونيّ قديم

يَتدلَّى النّهرُ خلفَنا

سَاخراً من غَفْلتِنا

المُزنَّرة بالغياب

نَفُكُّأزرارَ الدّهشةِ،

ونمشي تَائهَين

تحت إبطِ الحَيرة المُلتحِفِ بالجَسَد

بوصلةُ الشّوقِ لا تُخطئُ

لكنَّها تعبثُ بنا مثلَ طفلٍ

أتعبَهُ الصَّمتُ فراحَ يلهُو

باحتمالات الرّيح.

انتبهْنا إلى سُعال الفجرِ وقتَ النّعاس

المَوشومِ بالخَديعة

تعودُ رائحةُ القهوةِ من جديدٍ

تفوحُ من شُرفاتِ المُدنِ

التي مرَّتْ بي

ومررْتُ بجسدِها مُتسكِّعاً

بلا قَدَمَين

مُتنفِّساً عطرَ الحنينِ العَالقَ بين نَهدَيها

أرفعُ ناظريَّ صوبَ طوابقِها

المُعلَّقةِ بأطرافِ الغُيوم

أتسلَّقُها غُرفةً غُرفة ...

وأشْهقُ مُرتبكاً أمامَ غَبَشي اللّعين

أكادُ لا أصل نهايتَها

البُكاء على صدر مدينةٍ عاريةٍ

يُوقدُ الشَّهوةَ

في شراييني

ويحرِّضُ رغبتي

لمُعانقةِ الغُرباءِ فيها .

***

 

قصي عطية

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم