صحيفة المثقف

التماثل السردي والقصة القصيرة.. قصص: انصهار نموذجًا

خالد جودة احمداستقر في رؤى نقدية أن عماد السرد القصير يكمن في خاصية "التقطير السردي"، كما قال أحد أعلام القصة القصيرة المعاصرة "يوسف إدريس": (إن الهدف الذي أسعي إليه هو أن أكثف في خمس وأربعين كلمة، أي في جملة واحدة تقريبًا، الكمية القصوي من الإحساس، وبإستخدام أقل عدد ممكن من الكلمات)، أما الروائية التشيلية "إيزابيل الليندي" فوصفت صعوبة السرد القصير: (إنني لا أحب كتابة القصص القصيرة، إنني أكرهها، أحب أن أقرأها، لكنني لا أحب كتابتها، فانا أفضل كثيرًا أن أكتب آلاف الصفحات من رواية طويلة علي أن أكتب قصة قصيرة، لأنه كلما ازدادت القصة قصرًا زادت صعوبة كتابتها)، وهذه الخاصية غمرت وأحكمت نطاق نصوص (انصهار) القصصية للقاصة (سناء أبو العلا)، ومن هيمنة هذه الخاصية آثرت أن تكتب عبارات القصص الموجزة في سطور بأسلوب السطر الشعري، لكن ليس للتخصيب الشعري للقصص أو تحقيق دلالة هذا المنحي كما أرى ولكن للإحتفاء بأصالة هذا الإيجاز القصصي وإظهاره ووضعه في بؤرة الاهتمام، كما أدت وظيفة مهمة أخرى بجذب القارئ للمطالعة وهو يلاحق السطور القصصية ويبصر أجواء بنيتها الدالة في المبني والمغزي القصصي معًا.

وحقق الجذب القصصي أيضًا عنصر تنوع أسلوب السرد في القصص بين السرد الذاتي والسرد الموضوعي عبر تنويع ضمائر الحكي ساردة ومعتمرة بكنز القصة القصيرة، حيث تغترف القصص من ظاهرة "الإغتراب" وأوجاع التصحر الإنساني، ففي قصة (منهج حياة) نموذجًا نجد الأم العطوف التي توفي عنها زوجها بعد سنوات قليلة من زواجها، وظلت بعده مدة (17) سنة (لا تكترث إلا لسعادة فلذات كبدها)، وفي مستهل القصة تستيقظ الأم فجأة، وتستعمل القاصة بوفرة في هذه القصة وأغلب قصص المجموعة فكرة "التماثل السردي" من خلال تضفير حركة نفسية داخلية تواكبها حركة في الطبيعة خارجية، تجلية للمعني وزيادة إيضاحة وتنشيطًا لتعاطف القارئ مع شخصيات الحدث القصصي، حيث (صقيع ينقض على كتفها كجبل من حجر صوان)، وحين تمام مطالعة القصة نجد قشعريرة البرد التي كانت ترجو الأم زوالها، هي مثيلة لصقيع الإغتراب داخل نفسها المتعبة، والذي كانت ترجو أيضًا زواله بلقاء الأبناء، لذلك تكرمهم وتخدمهم حبًا وعطفًا: (تضع أطباقًا علي الطاولة .. / علي عجل من أمرها لتعود محملة بالمزيد .. تناوي اولادها)، وهنا نجد هذه التفصيلة الدقيقة فهي تخدمهم بود وهم مشغولون عنها لا يهتمون ولا يشاركون في إعداد طاولة الطعام، بينما تبسط الأم (يد قلبها) بتعبير القصة لتسقيهم الحنان، لكنهم يمارسون الإنكار والرفض لحقها في الحياة، فكان الموت هو خاتمة القصة المرة: (أفاقت من غفوتها قائلة: لم أغضب منكم .. ثم نطقت بالشهادة).

وقصة أخرى معنونة (عقوق) بعنوانها ومضمونها المباشر المشابه، وكأنها مذكرة تقدم الحثييات القصصية لقصة (منهج حياة) وانتهت بالموت أيضًا: (شخص البصر وباتت الدنيا ذات محالك ومهالك).

والتماثل السردي يظهر كما سبقت الإشارة بقوة في القصص، فلا تكاد تخلو قصة منه، حتى كان النص الموازي في الغلاف الأخير، نشير إليه بتصرف يسير: (عند الغروب .. / حيث ينعكس لون الشفق .. / الذي يغمر الأفق البعيد ... (..) تدمي قلبها من فرط نحيبها / تنظر لذاكرتها المتصدعة)، فالغروب في الطبيعة يماثل الذاكرة الشاحبة.

وحيث أن إنتقاء اللحظة هو متكأ القصة القصيرة، وعليها مدار نجاحها في رؤية أثيرة بالنقد الأدبي، فخاصية التماثل السردي تعمل لتعميق هذه اللحظة وتكثيفها وإلقاء مزيد من الضوء حولها، ففي قصة (غروب) نجد لحظة القصة تصدع أحد المنازل بالسقوط، ومحنة القهر والإغتراب في السكن، فكان الخارج: (ليلة ليلاء .. / قارسة البرودة (..) الرياح تصفر في الفضاء وتعول .. / الرعد يدوي)، والداخل نحيب نفسي تمثل في خاتمة القصة بموت (غروب) شمس المقصورة في البيت الآيل للتداعي: (عيناها تومض بضوء لا يخلو من نحيب).

ولتكثيف دراما القصص اختارت القاصة أن تكون خامة مضمونها القصصي بعامة من إضاءة زيت نقي، أو بتعبير القصص (أنقي مشاعر عرفها الإنسان)، حتي تحقق أقوي أثر، أو بمعني أدق وخز القارئ لإتخاذ موقف ضدي يثمر التغيير المنشود، حيث الأمومة والأبوة ومشاعر البنوة وتبديل هذه المشاعر وشحوبها في عصر الأزمات النفسية والعاطفية والقيمية رسالة تبها القاصة عبر جهاز الإرسال القصصي للنذير وتحقيق المقاومة المرجوة. وحيث دائمًا القهر والعصف المرير الذي يزلزل شخصيات القصص ومحنتها الوجودية والإنسانية بعامة، فكان استعمال تكنيك "الحلم المزعج" والصحو علي كابوس الواقع (غيوم الحياة) بتعبير القصص، ثم الموت ونظيره الغياب في خواتيم القصص طوق نجاة.

 

خالد جودة أحمد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم