صحيفة المثقف

رحلة في سبر الألم في رواية عندما تعطش الأسماك لحليم يوسف

ريبر هبونإن توظيف الرموز في الرواية التي تأخذ منحى سياسي اجتماعي هادف، دلالته محاولة لاستنطاق الغامض، ومعرفته وفتح المجال لسيل الاحتمالات المتمخضة عن العملية النقدية المختصة بالتأويل والإتكاء على المنهج التحليلي كوسيلة لعقد رؤى ومقاربات توغل ملياً لما وراء سياق المعاني والدلالات، وتقتحم الحدث استناداً على أسس فهمه عن كثب، حيث إصابة البشر بداء البكم وبدء الرواية به كوسيلة لجذب المتلقي لفهم الحدث بتجسيده الرمزي وهالته الدرامية هو باعث أولي ومفصل حساس لعملية صياغة الحدث وقراءته من منظور تحليلي، والتعامل مع الرمز كونه دالاً على كنه المكنونات، وهنا تكمن أهمية الرحلة النقدية في التعاطي مع رواية تدفعنا للمزيد من البحث وتوظف الخيال على نحو إدراكي، يخرج المرء من مساحة التأمل الخارجي، إلى فسحة أكبر وأوسع، حيث الرمزية تعد بمثابة المعنى المتضمن في جوهره عدة معانٍ، وغاية التحليل هو توليد الإبداع من خلال فهم دلالات الرمز،حيث نلحظ وجود شخص يعيش مع كلبه ويكثر لغط الناس حوله، هذا الشخص يدعى ماسي ومعنى اسمه سمكة، واسم كلبه بوزو، حينما تأمر البلدية باجتثاث الكلاب وقتلها، لأنها عاثت في أرزاق الناس الخراب، لم يتجرأ ذلك المدعى معصوموا الاقتراب من كلب ماسي، بعد أن أطلق الأخير تهديده بقتله إن تجرأ وهمَّ بقتله، إن وصف مظاهر الحياة التقليدية في هذا المجتمع الريفي المنسي والذي يعاني أشكال التهميش والإقصاء هو مثار تأمل ومواكبة لمسيرة الجماعات البشرية التي تعيش ظروف العوز والفاقة، والتحقيق في مصائرها وفق هذا المنظور، يمكّننا من إيجاد دلالات أكثر نضوجاً تحكم أقدار هذه الجماهير التي تعيش في ظروف نفسية لا تستطيع الإنفكاك من خلاله عن مظاهر الطاعة والتصوف والإذعان لرجل الدين الغارق في نشره لخرافاته وعوائده المكبلة لدى الأفراد روح التأمل للبعيد، فهمُّ الرواية الاجتماعية أن تعاين هذه العلل والآفات السلوكية بمنظارها التجسيدي، وتسلط النظر على واقع شعوب مغيبة بحكم الجغرفيا وجور التاريخ، إن هذا المجتمع المجبول على طاعة أولياء النعم يعيش في بقعة منسية، متجرداً من هويته وانتماءه، وتحرص تلك النظم المستبدة على إبقاءها في عزلة،يبدأ مسار الرواية في الحديث عن جمال جميلة الساحر واضمحلال هذه الفتنة بعد أن يتم تزويجها من كهل من ثم حين تنجب تزعم بجنون أن طفلها من ذلك الحبيب، مشيرة إليه في صورتها، تذهب حيناً وبخفاء للقاء حبيبها فيكتشف الناس المقربين إليها ذلك، فيبدأون بالهجوم عليها، متوعدين لها بالقتل إن حاولت مجدداً، نجد ماسي وكلبه في فلك عزلة ينظر إليها من حوله بغرابة،  فالحديث عن جفاء العلاقات الإنسانية والعزلة النفسية مردها إلى طبيعة الأعراف المسيطرة على عقول الأفراد، مما يجعلهم يعيشون في دوامة، نلحظ أن تجسيد المأساة وإظهارها في المجتمعات الأبوية هو استدلال غير مباشر  لتتبع معضلات انتقال الأبوية للمنظومة الحاكمة والتي بدورها تقف بالضد من حرية الفرد وتطلعه لعالم أقل إحباط وبعيد عن القيود، فنجد الكاتب حليم يوسف في عرضه لحديث الكلب بوزو مع نفسه أنسنة تنحو لنقد العيوب والعلل وجشع البشري في استماتته لإرضاء أنانيته وكراهيته للآخر،  لنتأمل هنا ص21: „أنا هو عينه ذلك الكلب الأسود، والذي حيكت حوله ألوف الحكايا والقصص، من الممكن أن يكون بعضها صحيحاً، إلا أن سكان هذه المنطقة يحبون المبالغة  في الأشياء، عندما يرونني أصبحت أبيضاً،  على الفور يقولون، بوزو غيّر جلده، أنا أذهل لعقولهم، لكثرة رضاهم عليها، يتحدثون عن انتصاراتهم، نباهتهم ومعرفتهم، غير أنهم غافلون عن غباءهم،أحدهم حين يولد بالكاد يتذكر قليلاً أنه كبر،ينسى أن نهايته هي الموت، غير راضِ عن عمره أو حياته، ولا يعجب حتى بالموت، يقولون أن الحياة قصيرة وفي الآن ذاته يهرعون لصناعة الأسلحة ليل نهار، لينظروا من يقتل أكبر قدر من البشر،   يبتكرون الأفكار التي تمهد لهم الطرق للقتل، إلا أننا نحن الكلاب التعساء نأتي للحياة عمياناً وصماً، ولا نستطيع أن نعيش نصف ما يعيشه إنسان، فبمجرد مرور عشرة أيام إلى خمسة عشر يوماً وما نكاد نفتح أعيننا ونبصر الدنيا حتى يلقينا الله بين أيدي البشر،، كل كلب وحسب حظه،

„. إلا أن طالعي جيد كوني صادفت شخصاً كماسي

إن أنانية الإنسان وجشعه هما مصدر صناعة المأساة في كل زمن، إذ أنه يعيش أضعاف عمر الحيوان، ولا يسلك منطق الوداعة والبراءة في حياته، إذ يقحم الأفكار والقيم والشعارات في أفعاله وتصرفاته التي تصب في خانة التحكم والسيطرة على مقدرات الآخرين، إن أنسنة الكلب وإسباغ الفكرة المناقضة للسلوك العنفي تحوير للحوار وتوظيف له في سياق المناجاة الداخلية، والتي هدفها التأثير على الإدراك والخيال معاً، وتحريضهما وهذا من عمل الرواية على وجه الخصوص، يمكن عبره فهم داخل الإنسان الحالم، وقدرته على توظيف اللغة للتأثير على المتلقي من منظور العاطفة والإدراك معاً، ولا ضير من توجيه الخيال واستخدامه في أطر وزوايا تسهم في تعريف آليات الفن الروائي، لما له من قدرة على محاكاة الداخل ونزع فتيل الغموض عنها، في سياق وحدة الإبداع والتلقي مقابله،  والإفصاح عن قيم الإنسان الطبيعي بمواجهة القوى الساعية للخراب ونبذ التعايش، حيث وصف الحياة البسيطة تعبير عن دماثة الفئات التي لا تملك ما يؤهلها لتجنح للغرور وشهوة التملك، وإنما تجد في سهولة الحياة والتنعم بالمثل ضرورة لتنفس الحياة دون تصنع وتلوث بمفاهيم التزلف والتملق، نجد حقيقة الصراع بين الطبيعية والقمع كامناً، وكذلك نجد الشخوص على قدر بساطتهم فإن لهم قدرة على النظر بدقة،

حيث لذلك دوراً في إيقاظ الأفكار في روح المتلقي الذي يتخذ من مواكبة النص الدرامي مساراً تخييلاً لرؤية الأفكار عن طريق الإيحاء بها، ولهذا يكمن السبر في روح المتلقي المدرك، ليجد أن أكثر الأفكار يسراً وتجلياً تمر من بوابة التخييل التي تمنحها الرواية الاجتماعية في أحايين كثيرة، لاسيما حينما تتداخل مع الفلسفي بميلانه المتعمق للواقع السياسي وأزمات السلطة، فخوض سجال المشاهد الوجدانية التي تختزلها الملامح أقدر على مواكبة تجربة الإنسان في خضم غوامضه وتجلياته، وحديث ماسي عن الموت  ومن أنه فقط يبصر الموت في التغوط وما الرائحة الصادرة عن ذلك إلا تجسيداً لحقيقة الإنسان المتلاشية والتي تخبرنا بها النتانة والدمامة والتي تعكس صور الفناء بشخوصه المتهالكة، إن سبر تعاسة الذات ورؤية الفناء في الحدث هو ما يمكن تفسيره في منحى معرفة النفس الإنسانية في إيغالها في تأمل حقيقة العالم المفضية للتلاشي والزوال، وأن الثابت الوحيد في ذلك هو الموت المحيط بالذات المتحركة وما  التعاسة في ذاتها إلا صفة بعيدة الكنه، عميقة الجذور في النفس، لما لها من تداعيات على الذات في مرورها لأطوار الإرتقاء إلى الكبر، إن نقل حصيلة المعتقدات التي يؤمن بها مجتمع معزول من ولاء للشيوخ وبعض الرقية الدينية هو بمثابة عقد مقاربات تأويلية عليها، بغية استنطاق مكنونها وتعريفها على شكل وثيقة تبين مدى درجة الغبن المفروض على تلك الفئات وتغييبها عن التنوير، وهذا يستدلنا لحقيقة التخلف الذي منيت به هذه المجتمعات الريفية التي تفتقر لنظام يهندس حياتها عدا عن سيطرة الخرافات المرتبطة بالدين على عقولها وأذهانها، وهو حال الأمم المهددة بالتلاشي ضمن بوتقة الانصهار الممارس عليها، نجد ذلك يتجسد أكثر في شمال كردستان- تركيا- وحقن هذه المجتمعات بنمط تقليدي يتجلى في الولاء للشيوخ المرتهنين للسلطة التركية الفاشية، الذين يعملون لإماتت الشعور القومي لدى الكوردستانيين، من طمس لغتهم الأم، وجعلهم يرون في اللغة التركية والإسلام التقليدي، نظرة ذات إجلال، وهذا أدى بالتدريج إلى خنق الروح القومية والتنوير المعرفي لدى المجتمعات المقيمة في الأماكن النائية، إن تجسيد حليم يوسف لهذه البيئة لربما لم يكن أسير رقعة محددة، وإنما يتحدث عن تلك الرقعة المنسية الممحية عن خريطة العالم، وهي كردستان المقسمة بين أربع دول،  إن سريان قانون البقاء للأقوى مهد السبيل لعبودية من هم في الأدنى، عبر إبقاء التقاليد والعادات التجهيلية فيها، الأمر الذي يغيِّب عليها المطالبة بحياة أفضل، تتسم بالرفاهية والمعرفة، فكان خنق الإنسان بالعوز والخوف سبيلاً لجعله عبداً لغيبياته ومعتقداته الساذجة، فحديث الكلب عن فضائل ماسي، يجعلنا ندرك مدى قسوة البشر تجاه بعضهم البعض، بخاصة إزاء الفئات التي تعاني التهميش والإقصاء على رقعتها الجغرافية، فالعلائق الطبيعية معزولة بالأسلاك والألغام والحراس المناوبين والفاصلة بين شمال كردستان وغربها  والحديث عن ما يحصل في الوجدان الجماهيري إثر هذا الفصل عميق، ونجد الرواية الاجتماعية الواقعية قادرة على الإحاطة بهذا الوجدان الباعث على الحزن والتأمل الذي يدفع بالذهن للتفكير واستنباط الدلالات والرؤى، ففي ظل هذا التقسيم الجائر للشعب الكوردستاني، نجد الأحداث المأساوية تتحدث عن غياب الأمن الداخلي لدى الأفراد وعزلتهم وقلقهم من المستقبل في ظل قيام الأنظمة القمعية في الاستعباد بطرق شتى، تترك المجتمعات تتخبط في ظل هذا الصراع العنيف على إبراز لغة لصالح طمس لغة أخرى، وتفجير كوامن هذا التباين الطبقي الحاصل بين الفئات الاجتماعية، وزرع الخوف في نفوسها على الدوام، ولاشك أن الحب هو نظام ثورة يسعى إليها المدرك لحجم الكارثة لبيان حقيقة الصمود بوجه الجور والتخبط في الحياة في زمن الخوف والعوز الكبير، والذي يمكن أن يكون لصيقاً بالمجتمعات المحاصرة بأغلال الفقر والإهمال، حيث بدأ ماسي بقراءة الكتب، جعله يبصر برفين وكلماتها المدوية في قلبه، وأمام لعنة الحدود، يجد للحب نكهة الألم وفهم مآسي مجتمعه المقسم بين من هم تحت الخط الحديدي ومن هم فوقه، إلا أن الحب لا يعترف بالألغام والأسلاك، ولا يقيم وزناً لكل الصعوبات القائمة، ونجد التأمل هنا طافحاً في ذروته يسبر الأغوار في النفس ويحاكي أعماقها، ويستنبط منها الدلالات والرؤى، ومنها نجد العلاقة بين السلوك والبيئة، في دوام عزلتها وأثر ذلك على سلوك الأفراد، فالتبصر في حياة الناس المقيمين في تلك الرقعة وحالة الإصرار على دوام الاتصال رغم تلك الأسلاك، هو ما راح يرسم المفاهيم المتصلة بالانتماء للأرض ولقاء ذلك نجد الألم قد أخذ مناح وسياقات عديدة تبعث على التفكير في مآسي الذين يعيشون في  الرقعة التي تم تجزأتها وجعل حياتها أشبه بمأساة ماثلة لا تتغير وتتشابك عقدها باستمرار،  هنا تدور على الحدود الفاصلة ما بين كردستان الشمالية التابعة لتركيا والغربية التابعة لسوريا، قصة حب مؤلمة لم تكتمل بين ماسي وبرفين، التي زًّفت لعريس غريب، وهنا تنمو تلك المأساة وتأخذ أشكالها المتعددة والتي تدور في فلك أبناء اللغة الواحدة، حيث الأسلاك لم تمنع من سريان الحب الذي يدفع بماسي في الاستغراق ملياً في تأمل هذا الوجع التاريخي،  إن الحديث عن هذه المأساة تدعونا إلى السفر في حقل الوجدان المدرك، لنتعرف على تأثيره العام في صناعة المخيلة التي تعي أن جوهر الحياة يكمن في الإيغال ملياً في الألم ومعرفة حكمته البعيدة، حيث الحب المنتهك في جغرافيا وادعة ومنسية، لهذا نجد هنا  الجغرافيا المنسية تتحدث عن وجع المحبين للتوحد، هو ذاته أمنية الكوردستاني في إزالة تلك الحدود التي تحارب إرادة عشاقها، ولكنها لا تستسلم لهذا الأنين الصادر عن قلوب أنقياءها ومعذبيها، لهذا نجد بياناً لهذا الصراع القديم الأزلي بين أنصار الحب وأنصار الإقصاء والقمع، وقد استند هذا الصراع على حقيقة أن القيود الموزعة في كل مكان، يقف المدرك بينها عاشقاً لأهمية الصفاء والبحث عنه، ومعرفياً يبحث عن سبل الخلاص من التبعية والانطواء في فلك العزلة والاغتراب، تمضي الرواية في مسارها التأملي للبحث عن أسباب ودواعي  هذا الاستنزاف النفسي الذي يعانيه الشخوص قي ظل قلقهم من المستقبل الآتي،وفي ظل بروز هذا التجهيل السائد لحياة هذا المجتمع الريفي المحاط بعوائد دينية يميل

أفرادها للخرافات والأقاويل، دون فهم الحياة من منظور مختلف،فما المختلف على ضوء المعالجة النقدية للظواهر الاجتماعية كونها عاكس لمراحل تعسف السلطات القامعة، ونيلها من تآلف المجتمعات في محاولتها لمناهضة الجور، إن بيان حقيقة المواجهة لهذه الأغلال التي جاءت نتيجة تلاقح بغيض بين السلطة ورجال الدين، في إنشاء المنظومة الذكورية، وإفشال الحب الذي سعى ماسي وبرفين إليها كتأكيد عن حقيقة الترابط الاجتماعي وزيف الحدود ووهم الأسلاك، جاء الحب هنا ليعبر عن حالة الاتحاد الطبيعي بين الرجل والمرأة عبر الحقب الطويلة من الصراعات القهرية، إن الصراع الفكري مشتق من قوة الإيمان بالعاطفة ومدى تحديها لقسوة الاغتراب والتوحش السائد والذي يعكس بطبيعة الحال تجلياته على الأفراد ونزوعهم إلى التحرر والاستقلالية، إن اعتكاف ماسي على القراءة واستبدال مكتبته من كونها كانت تعج بالكتب الدينية إلى كتب فلسفية تعكس في ذاته أسئلة البحث عن التغيير في ظل واقع قائم على النكوص والسبات، فهنا المرء المعرفي بعد اكتشاف نزيفه ومعرفة أن العالم يعج بالنقص، ذهب ليتقصى الحياة من خلال القراءة في الكتب التي تعكس مساعي عديدة لفهم إرادة الإنسان في مواجهة العوائق والصعوبات الواقفة في طريقه، تلك الإرادة المفعمة بالطاقة والتي تنافس سعي أولئك المهيمنين على العقول بواسطة الخرافة، إن إرتقاء الأحاسيس ناتج عن الصدمة وبمواكبته فإن العقل ينشط ويبدأ التهافت على فهم حقيقة الوجع، ومغازيه ووضع الإمكانات لدفعه، فمحاولة الإنسان دفع صخرة الهزيمة والفشل، هو وسيلة لفهم معاني الإرادة الكامنة، والتي تدفع بالأفراد لدفع الخطر عنهم، وكذلك فإن ما يعتمل الذات من انكسار وخيبة، هو في أحيان كثيرة مثار تصميم على تجاوز المحن وذلك بدفع ذلك الخطر بوسائل شتى تعمل العاطفة والإرادة المدركة على بلوغها، فالمأساة ناتجة عن رادءة التفكير وتقليديته، وطرق عيش الحياة على نمط مبتذل ولا يلبي تلك الرغبة القصوى لنيل حياة أفضل تتحقق في ظلها العدالة والرفاهية، إن سعي الفرد المدرك في ظل المجتمع المنقسم بين فئة قليلة تتحكم في عقول فئة تعيش لتقتات الفتات في كل يوم، وتعيش على رقعة حدودية مفعمة بحكايا الانتماء المؤلم لوطن مقسم، وقضية مبعثرة في أجزائها الأربع، هو تجلي حقيقي لمسيرة الحياة باتجاه الحرية والخلاص، وتسلك الرواية قضية المواجهة تلك لما تتخللها من صعوبات وعثرات، وعلل تدك مفاصل الحياة الاجتماعية والمعيشية، وتحاول النيل من حقيقة هذه المواجهة، إلا أنها تفتح حتماً المجال لتساؤلات المتلقي وشجونه في آن وتعرفه على عالم الروح الجمعية لهذا المجتمع المهمّش والمنعزل، وخليط الأفكار والعادات والمعتقدات التي لها أثر في ترسيخ التخلف الاجتماعي والسياسي، حيث التباعد بين الرجل والمرأة، وخنق الحريات، وقتل الحب، وذلك الاغتراب الهائل بين الإنسان الفرد والمجموع، إن النظر في هذه الحدود الفاصلة بين مجتمع واحد يتمايز بلغته وتقاليده الموحدة، هو بمثابة سبر لأطوار الوجع الذي رافق مسيرته في خضم البحث عن الحرية، فالكلب بوزو يشرع في مواكبة أحزان ماسي، وتأمله لتلك الحدود الفاصلة بين غربي كوردستان وشمالها في رقعة فاصلة ما بين سوريا وتركيا، الأمر الذي يجعل الأذهان تشرع في البحث عن دلالات هذه الأحزان المتمخضة عن قصة عشق لم تكتمل بين ماسي وبرفين، فإذ به يشرع في قراءة رسالتها، وإذ ببوزو يتأمل ويمعن بملامح ماسي، يقتفي ذلك الألم الذي يعتصره، لنتأمل هنا ص41: “ أنا كلب الله الأصم والأبكم، بين  هؤلاء البشر الناقمين علي، وجب من الآن وصاعداً  مهما بدا ذلك  سهلاً علي أم صعباً،أن أقبض خبز يومي،  كي لا أموت في الشتاء  برداً في تلك الشوارع التي أقاموها، علي أن أعثر على زاوية، كي أقي نفسي من رصاص وحجر وغدر هؤلاء البشر، ليتني استطعت فعل شيء ما لماسي، حتى لا يدعني ويدع نفسه وحيداً، إلا أن هذا قد تأخر،ولا جدوى من المحاولة،لكنت قد ارتويت من النظر لماسي وقفلت عائداً أدراجي في الصباح، سأزوره  كل مرة عندها، وأسعى في الحياة، كون أعمار الكلاب قصيرة جداً، ولو يهبني الله عمراً،لعدت مجدداً لماسي، وفيما لو أن ذلك لم يحدث  وتقطعت بي السبل، فإن الحدود قريبة من هنا، وكأي كلب مستاء، لاستطعت أن أمشي على ألغام الحدود لأنهي حياة هذه الكلبنة” ففي هذا التعبير الصارخ يمكن استشعار المأساة على نحو أكثر درامية، فهنا يعبّر الكلب عن حياة الشرائح المعدمة التي تعيش حياة أشبه بحياتها، ولو أن التعبير جاء هنا على لسان حيوان يبصر وجع الذين يعايشون رهبة التأمل من على الحدود والأسلاك، إلا أن ذلك يواكب نفسياتهم، كونهم يعيشون حياة أشبه بتلك الكلاب الخائفة من رصاص حماة الحدود، فأنسنة الكلب وسرده لأحزان ماسي مقصودة والغرض منها إحداث نوع من المقاربة على نحو ما، حيث الحاجة إلى التعاطف والحماية تجسد تلك المصالح الضرورية بين الإنسان والآخر، كما بين أفراد المجتمع ككل، وتلك القيم والمعايير الأخلاقية هي من الأشياء التي يمكن أن تقيم تعاقدات طبيعية أكثر ترسخاً مع الزمن، وهي ما تخلق مبدأ الالتزام المتبادل، لمواجهة الأخطار الناتجة عن ضياع الروابط القيمية، إثر تفشي الترهيب والعنف على نحو متصاعد، فالحياة الاجتماعية هنا تنحو منحى الانقسام والتصدع، نتيجة تفشي الجهل والفقر على حد سواء، إلا أن هذا الانقسام لم يقف حائلاً أمام نظرة الشعب الكوردستاني في الحدود والأسلاك أنها من فعل الأعداء المغتصبين لكوردستان، والذي جعل المجتمع رغم انقسامه اقليمياً بين أربع دول مصطنعة، متوحداً ومتآلفاً روحياً ومؤمناً بقوة في عدالة القضية والهدف، فما الحدود إلا وهم أمام عظمة الحب وقدسيته، حيث خلق هذا الانقسام كل معوقات العيش من فقر وبطالة وموت، إلا أنه بالمقابل جعل التلاحم عظيماً رغم توالي التحديات والظروف الصعبة، إن نكبات المجتمع وآلامه تتراءى جلية في حالات الصراع والتصادم الفعلي مع الجهل ومخلفاته من عادات وتقاليد مستمدة من الدين السياسي، والذي ساعد على تجذر الفقر والتخلف بصورة منتظمة وممنهجة، الأمر الذي جعل الحدود تبدو كما نتأمل على رقعة الشرق الأوسط  التي نجد خاطتها تتربع على مساحات من الأرض التي تكتظ بصراعات مجتمعاتها الطائفية والعرقية، ونجد الحب هنا منكوباً، وسط مجتمعات تزرع الأغلال

والحواجز بين عشاقها، وتحارب فيهم روح الاختيار، حيث نجد عبودية الأمم من انتكاس وخيبات عاشقيها في نيل مرادهم ومبتغاهم من الوصال والهناء، ونجد الحدود مقيمة في الأذهان أيضاً، وليست فقط مجرد أسلاك وألغام موضوعة على طول الحدود التركية السورية، أي التي تفصل بين غربي كوردستان وشمالها، إذ يسعى المهمشون في سباق مع الوقت لكسب غمار المواجهة مجدداً ولغلبة الحب على الحدود الهزيلة، ولهذا كان تمترس ماسي بالكتب وقراءاته للفلسفة، بحثاً عن نهضة بدأ يتحسس ضرورتها شيئاً فشيئاً، فالحب بات منتهكاً على مسرح الحدود الصماء، والوطن يعج بالفقر والخرافة والجهل، وأمام ذلك لا بد من إشعال فتيل النهضة المعرفية، والتي وظيفتها تحريك المجتمع لينهض من سباته، وليرفع عن كاهله الغبار والتعب الكبير، لهذا سلك حليم يوسف في هذه الرواية مذهباً آخر، راح يعبر عن حقيقة تحسس المعرفي لآلام وتطلعات جماهيره، ليسير باتجاه معرفة المفتاح أو الحل لإزالة كل هذا الجور والغبن،فكلب ماسي يحاول أن يقول أن حياة الظلم التي يعيشها الإنسان المهمّش، لا تختلف عن حياة الكلاب وأعمارها القصيرة، وأن الاستعباد يجعل المرء يحس بدونيته عن البشر، لهذا نجد لسان حاله مجسداً مشاعر البشر من خلال مشاعره ومواكبته لماسي وأحزانه وتأملاته، إننا نجد هنا رومانسية واقعية تتجاذب عرض الأفكار  وتسهم في تعريف مصادر المأساة لدى الإنسان الشرق أوسطي في رقعة الواقع الكوردستاني بصورة خاصة، هذا الواقع الذي تعرضه الرواية انطلاقاً من تأويلها لرمزية الحدود والأسلاك والألغام الفاصلة بين أبناء لغة واحدة وواقع مجزأ، وسبرها للواقع الاجتماعي المعبر عن التقاليد الجمعية التي تناقلتها الأجيال على نحو فطري، عبر تمسكها بجملة معتقدات ومسلمات، جعلتها تعاني العزلة  ولا تستطيع مواجهة الظلم الذي تعانيه، نظراً لتلقيها ذلك على ضوء اعتقادها أن ذلك بمثابة عقاب من السماء، وهنا يتجلى هذا الاستشراف البعيد للأحداث في الرواية، إذ جعل حليم يوسف من شخصية ماسي بمثابة المنقب عن ثورة ما تعيد الحياة إلى مجتمع يحتضر، فماسي يقرأ ليبحث عن أسباب الويلات والضعف ومن ثم ليبدأ بالانتفاضة عبر الحدود، التي ستنجلي عن طور الصراع الضاري بين إعادة المجتمع لنهضته وبين من يحولون ذلك وعبر زرع الألغام والأسلاك، وإقامة الحدود، فبوزو  يقرأ تداعيات ما يتجسد في ملامح ماسي ونواياه في تغيير قدر التاريخ، وصناعة تاريخ جديد، وحاضر أفضل، فتلقي الوجع بشدة يليه فعل لمواجهته والاستعداد لخوض المشقة في سبيل دفعه، وهنا يحاول ماسي إبراز قوة الفرد في إبراز مكنون المجتمع وروح التغيير الكامن فيه، وتحويله إلى واقع قائم، رغم أن هذا التغيير محفوف بالمخاطر، ويتجلى في حالات الصراع التي يخوضها الأفراد إلى جانب محاربتهم لتركة التقاليد والعادات البائدة المقتبسة من تأثيرات الدين السياسي، والتي أصلت الذكورية في أعلى مستوياتها، مما سيعاني الكثير في خضم هذه المواجهة، بمعنى آخر، فإن  الحرب الدائرة بين المجتمع وصناع الحدود والمآسي لن تكون مباشرة، وإنما سيخوضون أولاً تلك الأغلال التي تكبل حركتهم والمتجسدة بتقاليد الذكورة المتفشية في مجتمع يقمع شبابه وشاباته  عبر زجهم في عقود حياة تالفة وقمعهم للحب، وهكذا لا يغدو المجتمع، مجتمع مواجهة، لكونه مقيد بأغلال متشابكة، إنها ترعى تركة السلطة وعقيدتها البائسة، يحاول ماسي هنا خوض غمار تجربة الانضمام للذين حملوا السلاح للدفاع عن قضية تأبى التهميش وشعب يأبى الانصهار، وكذلك فإن جوهر بحث ماسي عن الحقيقة يكمن في رغبته في اكتشاف الحياة الأخرى، الحاملة في طياتها معاني تعزيز الإرادة وإزالة الحدود وكذلك إيجاد الحب الطبيعي بين الجبال وحياة الحرب والسعي لأحلام تأبى التلاشي، إنها أحلام الوصال والرغبة في إيجاد حياة ذات معنى بعيد عن مجتمع مكبل بأغلال الذكورة وواقع صنعه الكبار، راسمي الخرائط والحدود، ممن أوجدوا أطراً للكراهية تتجسد في تقسيم كوردستان،  وبث الكراهية لأمد أطول بين شعوب الشرق الأوسط عبر حكوماتها المصطنعة، ممن أوجدت التباين وعززت من ترسيخ التخلف السياسي على نحو أكثر شناعة، فبانضمام ماسي لصفوف المقاتلين واعتزامه على خوض حياة يراها المثال لتحقيق أهدافه وأحلامه المنتهكة، تكمن تلك الجذوة في ترسيخ التحرر عبر الانقياد لنداء الفكر والوجدان معاً،حيث باتت الحدود محفزة على النفور من واقع يقض المضاجع، وكذلك بدأ البحث عن الحرية جلياً في فكر من تعرضت روحه للانتهاك تحت ضد المفاهيم الذكورية والتسلط السلطوي الذي دأبت السلطات الشمولية في سلوكه لقهر كل تطلع لدى الفرد،فالمجتمع يبدي عجزاً كبيراً حينما يتم خنقه عبر إزاحة الحريات في حياته، وجعله هامشياً يعيش على فتات ما يقتاته كل يوم، وهذه العزلة الخانقة هي التي سببت مع الوقت احتقاناً عميقاً وكراهية لحياة البؤس ومسببيها على الدوام، لهذا فإن الحروب تتضخم شيئاً فشيئاً لتغدو لزاماً على الأفراد لاستعادة دفة الحياة المنتهكة عبر  ردح من الزمن، هكذا تغدو الحالة رهينة هذا الضغط المتصاعد شيئاً فشيئاً، حيث إرث المنظومة الأبوية يتقوض مع الوقت، ليحيل الجماهير إلى جمرات ملتهبة تحت الرماد، لقد تم نعت الإنسان البائس بالكلب وفق هذه الانزياح والإسلوب المؤنسن الذي ارتأى الكاتب من وراءه التعبير عن قمة اليأس والألم التي وصل إليها الإنسان الكوردستاني في ظل واقع أفرز عللاً جماً في مختلف الميادين والصعد، بات الإنسان يعيش في الماضي، متقنعاً بالمفاهيم الدينية التصوفية المعتقلة للعقل، والتي يلزمها بطبيعة الحال، تفكير مضاد بالانقلاب عن هذا الواقع وسلوك مسار جديد ومختلف، يعمد إلى تحقيق مقومات التغيير، استناداً من العمل لأجله، فما ترك ماسي لحياة الألم والانقياد لتداعياته وخروجه إلى الجبال، إلا تعبيراً عن ذلك الصراع الخانق، والكبير بين مستعمر توغل إلى حد كبير في مفاصل حياة المجتمع، زاراعاً فيه نبتة الجهل والتخلف والإسلام التقليدي، وتكبيل العقل، وبين أفراد عاشوا في ظل هذا الواقع الجائر، وعمدوا إلى الانتفاضة بكل إمكانياتهم الغضة، حيث من هنا

نجد أنه بات لزاماً عليهم خوض هذه الحرب بين طرف قوي يسعى لإبادة وصهر شعب في بوتقته، وبين مجتمع ينتفض

ويحاول بشتى السبل إزالة أشكال القيود الفكرية والسلطوية والأبوية عن حياته، ولاشك أن هذا الاختبار شاق وكبير، وتاريخي في محاولات انعتاقه من الأسر المقدس

***

ريبر هبون

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم