صحيفة المثقف

المحترم

قصي الشيخ عسكربعد مرور أشهر على الاحتلال، والوضع القلق الذي انتابنا حول أخي وجدنا بارقةَ أملٍ جديد يوم عرفنا أن ابن عم أبي "صالح النبهان" المهاجر القديم أصبح ذا شأن في المحافظة .. كان قريبنا لاجئا في الخارج .. محسوبا على أحد الاحزاب المتنفذة في السلطة الجديدة وأظنُّ أن الأمن زمن العهد الماضي بعد الانتفاضة زارنا يستفسر عنه ودرجة قرابته منا فأنكره أبي ولعنه وتبرأ منه .. وافتخر أن العائلة قدمت شهيدا في الحرب الثانية أم المعارك، ولم ينس أن يذكر محاسن أخي الأكبر البعثيّ المتنفذ الذي كان يملك خبز البصرة قبل الاحتلال ودفاعه عن البلد بحماس نادر في معركة القادسية.

 ومن حسن حظنا أن أبي عاد بغنيمة كبيرة من زيارته تلك، العشيرة، وقرابة الدم حبل نجاة، الظُفْر لا يخرج عن اللحم، الأهل والاقارب سلاح يحمينا ومن، لاعشيرة له تأكله الوحوش .. ظلّ يتحدث عن بيت قريبنا الذي لا يبعدكثيرا عن القصر الرئاسي في الخورة.آل النبهان تحملوا الكثير من المصائب زمن العهد البائد .. محمد النبهان أُعْدِمَ ابنه المعلم بتهمةالشيوعية .. سليم النعمان فقد ثلاثة أولاد في حرب العراق وإيران .. " محسن" اتهم ابنه من تنظيم حزب ديني محظور وفقد بستانه في الحرب .. ومن قتل بقصف عشوائي .. وأخي "سليم" ذاب بدبابته على حدود الكويت.أخبارنا كانت تصل ساعة بساعة لقريبنا خارج الحدود في الوقت نفسه عانى آل النبهان أو بعضهم من وجود قريبٍ لهم مع معارضة الخارج .. تبرأنا منه .. أنكرناه .. قال أبي عنه أمام مفوض الأمن الذي اعتاد أن يزورنا كلما راودته الرغبة في ابتزازنا إنَّه هو وآل النبهان صغيرهم وكبيرهم يتبرؤون إلى الله منه إلى يوم القيامة .. صالح مثلُ عضوٍ فاسدٍ فيِ جسدٍ سليمٍ لا علاج ينفع معه إلا البتر .. معارضة الخارج قطع شطرنج يحركهم لاعبون لايرغبون في الخير للبلد .. والآن انتهى عصر الحرب، تبدّلت الحال، وانقلبت الصورة رأسا على عقب .. لا يبشرنا قريبنا العائد بالأمان بل بتعويض مافقدناه، ولن يكون التعويض دولارا، ولابطانية .. أو مدفأة تقهر الزمهرير حيث لم يعد قرّ ولا صقيع .. ولن يكون لطباخٍ غازيٍّ أو ثلاجةٍ أيّةُ قيمة في بيت عائلة قدمت شهيدا أيام العهد البائد بل خير كثير يعمّ، فيخفف عما لحق بنا من مصائب زمن الحروب السالفة .. أما من اضطر للتعاون مع البعث فلا بأس عليه .. مظلة جديدة يبسطها فوق رؤوسنا قريبنا المهم .. ابتسامة واسعة على شفتي تنبيء أنّ مشكلة أخي الأكبر حُلَّتْ تماما، انضوى الآن بفضل ابن عمّنا تحت مظلَّةٍ تَحْسَبُ لها سلطة المحافظة أيّ حساب.نفوذ آخر يضفي على المطارَد حمايةً وهيبةً ِمن دون أن يلتفت أحد إلى ماضيه، فيالَفَرْحَةِ أبي بابن أخيه .. الذي يرش " عقيلا "بالماء نرشّه بالدم .. على أخي أن يرجع إلى وظيفته بشكل يختلف عما كان عليه وأفضل الأمور بل أيسرها هوأن نستفيد من خبرته بصفته الرجل الثاني في الدائرة نفسها .. الرجل الثاني في أية مؤسسة هو الشخص الأهم كما هو الحال في أوروبا رئيس الوزراء يتحكم بالأمور لا رئيس الجمهورية .. الآن مؤسساتنا تعمل على غرار مايفعلون .. الأفضل لعقيل النبهان أن يكون معاونا لمدير السايلو الكبير، في المستقبل تبرأ ذمته أمام أي عمل نشاز، والأهم من كلّ ذلك أن يعود إلى بيته كي تعرف الأحزاب والمليشيات أنه كان ينسق مع المعارضة في الخارج منذ العهد المقبور .. غامر بوظيفته وحياته وسمعته .. فلن يجرؤ أحد أن يخط على جدار منزله باللون الأحمر "الساكن هنا مطلوب دم"، عندئذ تنفست الصعداء، أخي الذي أحبه أخي الوحيد سيغادر البيت ولن تجرؤ ميليشات أو أفراد عصابات على قتله، وسيظل البستان لي وحدي .. سأربحهما معا، فقدأدرك عقيل، قبل أن يمتدّ إليه حبل الخلاص، مايجوس في خاطري حول البستان والتنازل عن حصته فيه.

نعم .. لا أريد أن أدخل في فراغ فتعود لي نصف الاشياء!!

 بعد بضعة أيام غادرت إلى المحافظة حيث استقر الأمر لأخي في المطاحن .. يبدولي أن الأمور بدت تسير وفق زيارة الحاج لقريبنا وحديثه عنا جميعا .. كان شغل الحاج الشاغل له بعد الاطمئنان على ابنه الاكبر أن يستغل نفوذ ابن عمي ليوفر لي وظيفة ما ..

 ولم أعترض .. فرصة خلقتها فوضى أَغْتَنِمُهَا فأباشر وظيفةً سواء في التدريس أم أية دائرة، وقد توفرت لي مظلة تحميني .. لا أتذكر ملامح قريبي فقد كنتُ صغيراً خلال الحرب يومَ غادَرَ ِإلى الخارج، يُقَالُ إنَّه أقرب آل النبهان الى عائلتنا، ولعل هذا السبب دفع مفوض الأمن، من قبلُ، إلى زيارتنا كلّ شهر .. أشار حارس وبعض الموظفين إلى مكتب يوازي مكتب المحافظ، فوقعت عيناي على رجل في الأربعين أَكَلَ بعض الشيب رأسه نحيف لا تَدلُّ نحافته على هيبته وغابت عن جبهته رقعة سوداء اعتدنا على أن نقرأها في وجوه القادمين من الخارج .. حقّا هو أقرب الشبه بنا وربما أنا الأقرب إليه .. عانقني الرجل بكل طيبة وقال وهويبسط يده :

- مرحبا بك كيف حال العم؟

عيناه تومضان ببريق ينم عن الذكاء وقليل من الشكِّ:

- بخير أنا أشكرك على المعروف الذي أسديته لأخي ..

- هذا واجب نحن أهل وهناك فرصة حقيقية لآل النبهان .. كفى ما قاسته عوائل النبهان .. سأعوض خسائرهم وماعانيتموه فلاخيرَ في شخصٍ لا ينفع أهله ..

- أشكر لك فضلك!

- ياسيدي إحسب نفسك موظفا من اليوم بدرجة رئيس ملاحظين!

 وظيفة لا أعرف ماهي لكن ماذا علي أن أعمل؟دبلوم آثار من جامعة البصرة .. أحفر الأرض وأبحث عن حجر أو صنم، ومن دون أن أدري حفرت الماء ففاجأني بحجر، الوظيفة جاءت إليَّ تسعى، فأروح أتساءل:

- أيّ عمل تجده مناسبا لي فأنا كما تعلم تخرجت في قسم التاريخ، وكنت على وشك أن التحق بالجيش لولا أنّ الحرب .. .؟

- لاعليك انس كل ذلك .. إسمع جيدا نحن وضعنا في بالنا ضفتي شط العرب من كردلان إلى البوارين أما عن العشار فنحن نهتم بالضفة من البراضعية إلى أبي الخصيب " ونهض إلى خارطة خلفه يتطلع فيها"أنظر الفاو .. هذه أبو فلوس .. .من الكباسي إلى المطار ليست لنا لينصرف جهدك على شط العرب إلى الدعيجي وسيشرح لك الوكيل مهمتك!

5 الطيور

 ابتدأ عملي بين المحافظة وبلدية شط العرب.ربما شعرت أن هناك من يحسدني على وظيفة يرى عديد من الموظفين أو أحدهم على الأقل أنه أحق بالترقية إليها مع ذلك زادني اطمئنانا أنِّي أنهيت أربع سنوات في الجامعة ثم سنة أخرى في الدبلوم العالي ..

الشهادة مثل حرز يواسيني!

 أَصبحت .. محنطة تماما حسب ظنّي ثمّ ظهر خلاف ماتوقعته فقد كانت قرية البوارين أولى المحطات التي واجهتني ، كان يرافقني أبو نبيل سائق السيارة التي جعلتها المحافظة لخدمتي. لقد تحاشيت أن أجلس في المقعد الخلفي ولاسبب يمنعني سوى أنّ" أبا نبيل"السائق أكبر مني سنا وهو من آل النبهان، فلا يليق بي أن أعامله معاملة مستخدم غريب .. هناك سيارة أخرى تنقل موظف المساحة وبعض العمال .. رحنا نجوب الارض من النهاية .. نقرؤها من الحدود إلى التنومة .. وربما هي المرة الأولى التي تطأ فيها قدماي المكان.قبل الحرب الأخيرة منعتنا الألغام مع ذلك تمددت التنومة ثم سمعنا أن هناك رقعا واسعة يمكن للبشر أن يعبروا عليها .. ذلك اليوم سلكنا طريق البرِّ المحاذي للقناة، وهبطنا بين الدعيجي والبوارين .. راح المهندس المسَّاح يكشف عن خرائط ومنظار.ولعل امتداد الأرض أمامي عيني، وبقايا جذوع النخيل المحترقة، وأجماتٍ من نبات بريٍّ غريب ملأت المكان، ورُقَعاً لعاقولٍ تناثر بين حشائشَ انتشرت خلف الرطوبة بشكل خجول كلّ ذلك شغلني عن لسعةِ حرٍّ تهدجت لها أنفاسي فمسحت قطرةَ عرقٍ هبطت على عيني .. في مثل هذه الاجواء التفت إلى الألسن المندلقة من الشط باتجاه البرِّ. كان النهر يهم بالتهام الارض فيزحف في البرّ بأثرٍ من فكٍّ ولسانٍ ووقع بصري على عشرات الدواب تغطُّ في الماء فلا يبين منها إلا رؤوسها وإن صعدت دابة أو دابتان إلى جرف أحد الألسن وراحت تحملق فينا، كأنني أرى الهور يزحف بدوابه ومعدانه نحو الحدود .. لم يكن هناك من داعٍ لآتي سنين الحصار إلى هذا المكان، وسألت أبا نبيل:

- أليست هنا ألغام من مخلفات الحرب؟

- في هذه الناحيةلا .. يمكن المشي إلى نهاية مجرى الماء!

 - إذاً سأذهب إلى ذلك الجرف.

وقال أحد عمال المساحة:

- لا تحد عن الطريق العريض!

إحساس ٌبزهوٍ ما يراودني .. المسَّاح معاون ملاحظ .. والآخرون مساعدون وعمال .. سأنصرف وحدي ليشعر الآخرون أني أراقب عن بعد .. وقال ابو نبيل:

- يمكنك أن تصل إلى آخر سنٍّ فما بعد التَّلَّة التِي تَليه تَنتشر الألغام.

عبرت نهاية اللسان المائي التي بدت أشبه بمستنقع ينطُّ من الشط، وسرت دون أن أعبأ بجاموسة حملقت فيّ غيرَ بَرِمَةٍ بوجودي ثمَّ التفتْ عني وهي تلوك شيئا ما، وحالما ابتعدت مسافةٍ أزاحَ توهُّج البرِّ القناعَ عن عيني اللتين بهرهما سطوع الماء الساكن في النهار، فوقعتا على أرض متباينة الالوان تعكس أشعة الشمس مثل مياه شفافة زرقاء. بحر ملون يعج بالمرجان، والأسماك الملونة الوادعةالتي تحجرت فلم تتحرك بفعل تعويذة ساحرة شريرة ومازالت تنتظر أن يأتي إليها ذلك الأمير الذي يفك السحر .. عنها .. حجر سمكة .. حجر .. صنم آخر .. قطةٌ تلتفُّ على نفسها.شيطان .. لقلق .. أحجار.زرقاء .. حمراء .. صفراء .. أحجار ملونة .. لم أر مثلها من قبل حتى كِدتُ أحلم.أنني سندبادٌ هبط في أرضٍ عجيبة تعج بالألماس والحجارة الكريمة، التفتّ بعدئذٍ، ولو متأخراً، إلى أن المخلوقات جميعها لاتقدر أن تتشكل في كلّ الاشياء مثلما يقدِر عليه الحجر عندئذٍ سال لعابي وراودتني شهوة محمومة .. وددت لوكان معي شِوالٌ كبيرٌ فأكدِّس فيه ما أشاء من لحجارة.انحنيت مَرَّةً وأخرى حتى امتلأت جيوبي ثم سخرت من نفسي.أيّ وقت أَشأْ آتِ لالتقط ما أرغب ثمَّ ساورني هاجس غريب يعبق بالريبة فعدت ثانية للساؤل: ماذا لو اختفى المكان؟في هذا الزمن الغامض تقع الحرب أو لا تقع، الأعداء يصبحون أخوة، والأخوة أعداء، لِمَ لاتظهر الأشياء وتغيب مثلنا نحن البشر، ومع آخرحجر التقطته كأنّي تيقنت من ابتلاع الأرض لكلّ ما أراه استفزتني زعقة في السماء .. لكني نهضت وعيناي هذه المرة ترتفعان مع سرب طيور .. حفيف آخر .. طيور غريبة زاهية الألوان غريبة الأشكال والريش لم أرها من قبل.بالأمس القريب غطست فغشي يدي شيء غريب لم أعثر عليه لكنْ على حربٍ ابتعدت عنّي، وها أنا على البرّ أرى غرائب، والسماء لاتبخل أيضا.كان سرب الطيور العجيب ينحدر باتجاهِ آخرِ نتوءٍ مائيٍّ ظَلَّلَتْه أَشجارُ الأثل حيث هبط يلتقط الرطوبة ويستظل من حرارة الشمس .. حمام .. قطا .. بلابل .. حجل .. طواويس .. زرازير خُطَّاف أو حسون .. ليست بعيجيا مهاجرا يعبر السماء إلى حيث لا أدري بأسرابٍ تسدّ عين الشمس .. تسلية جميلة .. يحوي جيبي هذه الساعة ما في البرِّ من أحجار جعلتني أتناسى تلك اللحظة أين وضعت حجر النهر، فهل أقبض على ما في السماء؟ عدت أحث السير إلى فريق العمل.

- أريتم أسراب الطير مثلي هذه ليست طيور البعيجي كل ذلك يجري في البرّ؟

قلت ذلك موجها كلامي إلى المسَّاح محاولا أنْ أكسِبَ وده فعدَّل قبعته وقال:

- الله أعلم تغير المناخ في العالم جعل بعض الطيور تهاجر من إيران ووسط آسيا !

وأضفت كأنِّي أخشى على ما في جيبي من أن يضيع:

- شيء عجيب حتى الأرض هناك تعج بالأحجارالغريبة.

فقال أبونبيل وقد تغيّرت ملامحه:

- والعياذ بالله أستاذ لا تلتفت إلى ذلك.

سكتُّ والتفتّ إلى أني يمكن أن لا أفصح عما أخفيته لأتبين حقيقة الأمر فيما بعد .. لكني تأكدت أن الصحراء ألقت إليّ بثقلها بعد حجر نهر نسيته ثم جاءت السماء .. ثلاثة أمور لا أفهمها .. قبل شهور انطلق الرعب من السماء .. صواريح هبت علينا من مكان ما .. طائرات بريطانية .. أباشي أمريكية .. شبح .. ما نراه ومالا نراه، ونحن في خوف من أن نخطو خارج بيوتنا عندها وجدنا الهور انتقل إلينا .. وعلى حدود الألغام راح شباب يطلقون طيوراً تتبارى أو يتعابثون بالطائرات الورقية في حين حلقت طيورٌ جميلة غريبة الأشكال والألوان لا نضيرَ لها ..

أين كنتُ وقد جرى كل ذلك من حولي؟

 كان المسَّاح والعمال ينطلقون بأدواتهم باتجاه نهر شط العرب بين أشجار الأثل وسط البساتين القديمة التي ضاعت ملامحها وتلاشت سواقيها الكثيرة .. بدوا في أحذيتهم الطويلة المطاطيّة التي تحميهم من وخزات الشوك والعاقول مثلَ بعثةٍ فيِ أرضٍ ضحلةٍ تبحث عن نفط، مازال ذهني مشغولا بالطيور والوقت يوشك على النهاية، هل تتوقع أن تعود البساتين إلى ماكانت عليه قبل الحرب؟

فأجاب مستغربا:

- وأين هو الماء العذب؟

 عند الرجوع اتخذنا الطريق الجديد وحين وصلنا إلى حدود حسجان مع الدعيجي قال أبونبيل:

- المرة القادمة سيمسح الاستاذ خالد منطقة نهر جاسم إلى كوت سوادي.

فوجدتها فرصة مناسبة للحديث عن الحجر:

- هل نجد في الأرض أحجارا غريبة كالتي لفتت نظري في الدعيجي!

- تلك الارض جرفتها الحكومة أيام الحصار كي تفتح طريقاً بيننا وإيران فظهر المخفي تحتها والعياذ بالله!

ابتسمت ابتسامة واسعة وقلت:

- يا عمي هل تصدق؟

- نعمْ لِمَ لا اصدق. الذئاب تطارد الجنَّ دائما فإذا مارآى جنِّي ذئبا دخل أقرب حجر إليه، يختفي فيه فيتلوَّن الحجر بلون الجني أخضر أم أزرق وبشكله سمكةً أم طيراً لكن الذئب مثل الكلب يشم بأنفه يلتقط الرائحة من مسافة بعيدة فيظل يتربص بالحجر!

- عجيب ما اسمع !

- عجيب ؟أنتم جيل جديد جعلكم الموبايل والكومبيوتر، والله أعلم ماذا يأتي بعد، تنكرون .. .!

- أين هي الذئاب الآن لو كان الأمر كذلك لكانت أكثر من البشر!

- أنا لا اكذب عليك أقول لك حكاية عاصرتها بنفسي عمري الأن خمسون عاما وقد حدثت بداية العهد الجمهوري.

قال عبارته وكاد يسترسل لولا أن السيارة توقفت عند مدخل البستان، فترجلت وفي لهفة لاتقاوم لأسمع المزيد عن حكاية الحجر وإن كنت لا أصدق كل ما قال.

6 القفص

 لكن لاأظنّ أن الحجر الذي استعاذ منه " أبو نبيل"وربما معظم العاملين معي في مجموعة مسح الاراضي أصبح يخيفني وإن عانيت في البدء من صداع خفيف ازدادت حدته بمرور الايام حتى ليكاد يفلق رأسي.رحت أصغي إليه في طريق العودة وهو يحدثني عن أيام مضت عايشها في البحر مع أحداث غريبة لاينساها قط.كنت ما تزال صغيرا، قال ذلك وأسهب في وصف الحرب:ذكر أنه زحف طويلا في خنادق نهر جاسم بعد أن حوصر هو ورفيق له .. ظلَّ يزحف وهو يثرثر .. اصبِر ياصديقي بعد ثلاثةكيلومترات نصل، لم يرفع رأسه أو يلتفت، وعندما وصل زاحفا إلى معسكر عراقي التفت فعرف انه كان يحدث الفراغ رفيقه أختفى .. هل اختطفه حيوان سائب أم مات من التعب؟الله أعلم.قد تبدو حكاية الحرب هذه بعيدة عن الحاضر الموغل في الفوضى غير أن أبا نبيلٍ اعتاد على الرغم من طيبته المتناهية أن يجد روابط خفية بين الاشياء.قال إنَّه رآى ذات ليلة كلبا يطارد ذئبا اختطف نعجة، أدركه وحدثت بينهما معركة اضطر فيها الذئب أن يحفظ للكلب شيئا من كبريائه فترك له بعضا من كتف النعجة فازدهى الكلب المثقل بالجراح من أنياب الذئب أمام صاحبه بنصرٍ مات بعده بثلاثة أيام، ولعل صاحبه الذي زحف خلفه مات من التعب أو تسلل حيوان ما وأبو نبيل يفترض أنه ذئب فخنقه، وفرَّ بجثته .. والآن حيث كشفت جرَّافات الألغام، وهي تشق الطرق، عن بعض أسرى الذئاب من الجن في الحجر، أَلا يأتيَ يوم تجذب فيه رائحة الجثث تحت جذوع النخل حاسة الشم في الذئاب.الآلاف يرقدون تحت الأعجاز اليابسة الخاوية والمتاريس المردومة والحفر، ما ذا لونبشت الذئاب خلال تجوالها الليلي فالتهمتها؟ألا تزداد سعارا يدفعها للفتك بالأحياء ..

 هكذا تحدث الرجل الطيب عما يجول بنفسه وما يظنُّه الآخرون.

غير أنّي لم أقتنع بعد .. .

كنت أتسلل إلى الأرض أيام عطلِ نهايةِ الأسبوع حيث لا يعرف أحد، ألمّ الأحجار وأتابع الطيور .. في حين أرى بعض الهواة يغوصون إلى ركبهم في البرك القريبة من جروف المستنقعات ويمارسون صيد السمك .. لا أَحَدَ يلتفت إليّ ولا مَنْ تجذبه نهاياتُ الألسُنِ والأحجار الزاهية المترامية بينها وبداية حقول الألغام .. كلٌّ منهمك بشصه وحمامه .. هذه المرة كنتُ أَتأَمَّلُ الطيور ولا تهمني تلك الأسراب الكثيرة التي عرفتها مِنْ قبلُ، بل الملونة التي لامثيل لها .. خطوت إلى تلك البقعة التي هبط فوقها السرب الملون أوّل يوم باشرنا فيه المساحة.كنت أتربّص خلف شجرة نَبَتَتْ عند نهاية لسان الماء الأخير مستترا بين الحشائش الطويلة، ونبات برديٍّ كثٍّ وقصبٍ تشبَّثَ بالجرف.جلست مثل الصخرة .. في حضني الهاتف النقال.ساعة أو أكثر .. اشتدت الحرارة ورجعت بعض الجواميس إلى منتصف الماء .. غير بعيد تجمد بضع لحظات في الهواء الساكن طير الرخيوي ثم انقض على الماء، وغط غويصي عن يميني لأَجِدَه يخرج باتجاه بعيد عن الجرف .. ساعة أو اكثر، وأنا مشغول مع طيور تصفِنُ في الهواء فتثقب الماء وأخرى تغط فتخرج من مكان آخر .. الرخيوي والغوَّاص .. لعبة دفعت عني الضجر بعض الوقت، فرفعت عيني إلى السماء .. سمعت عن بعدٍ حركة هسيس أشبه بوخزة حرٍّ في ورقة خضراء ثم اتضح الصوت .. السرب نفسه طلع من جهة الغرب .. الجمال الذي يكاد لا يوصف .. الريش الغريب .. حطت الطيور عند سن الماء على مسافة غير بعيدة عني.تناثرت تستظل بالحشائش .. تلتفت .. خلت أني سمعت أنفاسها .. نقرت الماء، اغتسلت وتراشثت بالماء من اجنحتها ثم غنت غناء أنصت له كل ما في المستنقع من دواب وشجر .. وطيور وسكن الرخيوي في مكانه إلى أن انتهت من الغناء .. التقطتُ بعض الصور ولم يعكر الاجواء إلا خوار جاموسة اندفعت من وسط البركة إلى مدخل ماء ضيق .. فتشتت كل شيء في لحظات .. هوى الرخيوي إلى الماء .. غط الغواص، وفزت الطيور الغريبة قبل ان تلتم في سرب لا ملامح له، فتابعتها وهي تعود من حيث أتت ..

دقائق ثمّ اختفت عن عيني.

كان ذهني مشغولا بتصور آخر .. .

 لا أحد من بيتنا قبلي فكر في حبس طير بقفص .. فقط أخي الأوسط راودته رغبة ذات يوم في أن يقتني حماما يجد له مأوى على السطح .. حلم أن يأخذه إلى محافظة بعيدة فيطلقه من هناك إلى بيتنا .. الفكرة نفسها قوبلت باستهجان أبي وزجر من أمي.حذره من أن يدع جانبا أي شيء يشغله عن دروسه .. أما أخي الأكبر فقد اكتشف في أحد الصباحات على أحد أغصان شجرة التوت عشّاً لبلابل فقست حديثا .. قرب فمه من أذني وهمس بصوت خافت : سأنقل أفراخ العش إلى قفص حالما يكسوها الريش .. وخاب حلمه فبعد بضعة ايّام اختفى العشّ، واكتفيت أنا بقن الدجاجات التي تسرح في باحة البيت .. .

الآن تخطر في بالي فكرة أخرى!

وسوسة جميلة توحي إليّ بشيءٍ ما.

ففي اليوم التالي، تناولت حبتي أسبرين أطرد بهما الصداع، وغادرت إلى سوق الطيور في البصرة القديمة، لعلني أعثر على بعضٍ مِن أفرادِ سِرْبٍ رأيته يوم أمس.استعرضت السوق.حوانيته وتشكيلاته من أقفاصٍ وطيورٍ وطعام.كلّ الطيور أعرفها .. الفنجس ذو اللون البديع، طيور الُحبِّ الهادئة، الحمام، والبلابل ليس هناك من طير غريب، مع ذلك لم تقع عيناي على ما أبصرتاه يوم أمس.جذبني حمام غريب الذيل إلى محل قريب من الزاوية، فقابلني شاب في مثل سِنِّي.ظل يتمعن في الهاتف النقال بعد تأمل طالبضع ثوانٍ، قال:

- أظنها من طيور أمريكا اللاتينية" وأكد لي قبل أن أغادر" لا تتعب نفسك فلا أحد يستورد مثل هذه الطيور التي قد تكلف كثيرا وربما تأكل أصنافا خاصة من الحبوب، أو تلتقط مما يذوب في الطين والماء.

شِبْهَ مُقْتَنِع أردّ:

- لنفترض أنّها من أمريكا اللاتينية كيف قطعت تلك المسافة الطويلة؟

- ياحبيبي العالم أصبح قرية صغيرة، لا تنس أنّ التكنولوجيا الحديثة تخدم الحيوان أيضأ.

خرجت إلى محل آخر في المنتصف، فأطال صاحبه النظر في الصورة وقال:

- أظنها من توليفات الكومبيوتر وليست حقيقية.

 للمرة الأولى لا أفصح .. لا أشرح تفصيلات ذهابي إلى المستنقعات عند حدود الدعيجي والبوارين. صاحب المحل يصرّ على أنها توليفة كومبيوتر عملية متقنة من هواة يتلاعبون بالصور، ويؤكد أن هناك غيري من جاء إليه بصور من الفيس بوك يظنها لطيور تنبض بالحياة وسألت:

أيمكنك أن تحصل لي على شبيهة بها.

قال يتجاهل سؤالي ويشير إلى واجهة المحل التي زينتها ثلاثة أقفاص لهدهد وطيور الحب.

لم لا تقتني هدهدا!

 رجعت الى البيت متعبا وانتبهت إلى أن الصداع الذي فارقني قبل بضع ساعات عاد إليّ، وإني اشعر ببعض الأرهاق، لكني منذ تركت سوق الطير الذي لم أعثر فيه على ماأريد، راودني حافز في أن أمارس عملية الصيد وحدي.

وهذا ما فعلته خلال ايام العطل من دون أن يعرف أحد من العاملين معي في الشغل أو من أهلي.

اقتنيت من سوق الطيور شبكة خفيه للصيد، ودسست في جيبي كيسا عملت فيه ثقوبا .. اخترت المكان ذاته فسرب الطير الغريب منذ أن رأيته أول يوم وتربصت به لا يختار إلا نهاية سن المياه البعيدة التي أضحت مثل مستنقع راكد.امتد بصري إلى الفضاء أتطلع حولي.ماتزال رؤوس الجواميس تعوم مثل الطوافات على سطح الماء، وعن بعد تناثر ثلاثة صيادين رموا صناراتهم في الشط.كان المشهد ساكنا صامتا على الرغم من وقوف طير (الرخيوي) في الهواء وتحديقه إلى الماء وغطسات الطائر (الغواص) في الماء ثم طلوعه من مكان آخر .. في حين رحت أختلس السكون فأدس الشبكة بين الحشائش والبردي عند الجرف ثمّ أعود إلى الأجمة، أختفي داخلها متربصا خلف شجرة الاثل.

كنت أنتظر السرب كأنني أبحث عن جوهرة ثمينة.

شيء ما يجب أن يكون عندي، لهفة على شيء ضاع منّي في الأرض فوجدته فجأة من دون أية مقدمات في الهواء!

انتظرت، بصبرٍ غير معهود عنّي، متجاهلاً ذبابا يستظل معي يزعجني وحشرات تقاسمني البرودة أو عقربا يدب إليّ.خلت أنَّ كلّ شيء ساكن جامد ماعدا الفضاء أمامي.

 أخيرا بعد ساعتين من انتظارٍ قلقٍ جاءت الطيور إليّ تسعى .. السرب الذي انتظرته طويلا يلوح من بعيد .. أعرفه من تشكيلته وهيئة طيرانه .. الصيد الثمين سوف يقع بعض منه في الفخ .. طائر طائران أكثر .. أشكال جميلة وألوان زاهية يغفل عنها مربو الطيور .. ستغني فأطرب لها .. وأنشغل بها عن حوادث الرعب من حولي.

وكم ذهلت لماّ وجدت .. جهودي اخفقت .. الطيور الجميلة التي أُعجبت بشكلها حلقت .. استدارت .. تبحث عن مأوى .. لتحوم حول مستنقع الماء ثم هبطت في مكان آخر في موازاة مكمني منها عند الضفة الأخرى .. بينها والفخ رقعة الماء الضيقة وشجرة الأثل .. كانت تغني وترقص وتستحم بالماء تغطس لحظات غير آبهةٍ بالرخيوي ولا الطائر الغواص .. وفي غمرة اليأس شاع في المكان فجأة صراخ نوارس تحوم بجانب الشط الكبير، فانتفضت الطيور الغريبة الجميلة .توقفت عن الغناء ولم تبرح مكانها لحظات ثم طارت إلى الجهة التي جاءت منها.

 تلك اللحظةكنت أسخر من نفسي .. مرّة تنفر من صوت جاموس، وتارة أخرى يحفزها لترك المكان نورس، الأرض والهواء .. أهي المصادفة التي وحدها التي تنجيها أم هناك شيء مريب؟لن أكف عن المحاولة حتى أغري بعضها إلى القفص وإلا أكون رأيت وهما .. عدت وقد نسيت أن ألملم فخّا أخفيته بين الحشائش وفيَّ رغبةٌ تتماهى لأن أرجع ثانية إلى سوق الطيور ثمّ أعود إلى المكان ذاته.أعرضت عن أن أدخل المحلين اللذين لفتا نظري خلال زيارتي الأولى، مررت على محل في وسط السوق بعد تردد، دلفت فاستقبلني صاحبه بابتسامة واسعة تقرؤ الحيرة في وجهي:

- عن أي طير تبحث؟

وعندما تمعن في هاتفي النقال .. قال لا أخفيك إنها طيور ذكية وماكرة كم يراوغ الثعلب الصيادين إنها أشد من ذلك.

قلت وقد فاجأني الرجل الوحيد الذي أقرَّ أني رأيت حقيقةً لا وهماً فارتحت:

- هل حزت بعضا منها.

- نعم يوم تدربت في معسكر أور جاءت إلى خزان الماء القريب من المعسكر وقت الظهيرة تشرب وتبترد فنصبت لها شركا وبالكاد صدت ثلاثة منها وخاب أملي في أن أقتنيها!

فقاطعت كأني أسارع لاقتناص بقية الحكاية على عجل:

- هل خدعتك وطارت؟

- لا بل راحت تطير في القفص من جدار لجدار مثل وحوش أصابها الجنون .. يصطدم أحدها بالآخر وطير منها لف عنقه على القفل فالتف امام باب القفص مثل التمساح القابض على فريسته فاندقت بالتفاتته عنقه وظلت الطيور الأخرى تنتحر بدق رؤوسها في الجدران!

 أنصت مثل طفل يتابع حكاية غريبة وقلت حين انتهى من كلامه:

- يعني الطيور حقيقة لا ريب فيها!

فأكد بهزات من رأسه:

- ربما غادرت صحراء الناصرية وآوت إلى بر آخر قريب منكم!

- مادمت نجحت في استدراجها للفخ ذلك مايؤكد لي أني أنجح !

عبَّر بتقاسيمٍ ساخرةٍ:

- لنا في المعسكر خزان واحد والطيور تأتي إلى المعسكر من البر لتلقط الماء والرطوبة وتستظل تحته.الفرصة أمامك معدومة، ومحال أن يقع طير ذكي في فخ أمام ماء واسع مفتوح كما هو الحال في الأرض الضحلة عندكم!

لزمت الصمت وأكد:

- قضيت في المعسكر أكثر من شهر إلى أن جعلتها في الفخ ستتعب كثيرا ثم بعد ساعة تجد أنها تنتحر!

حديثه جعلني أزداد رغبة في أسر ذلك الطير الذكي الغريب، دُمىً غريبة تنبض بالحياة .. تغنِّي وتطير .. تستعصي على الصياد وهي على الأرض .. لا أحب أن أكون قاتلا وإن عاصرت القتل عن بعد .. تقتل ولا تمارس القتل .. شعور غريب بلذّةٍ ما .. تضع طيورا في قفص كي تسمع غناءها وتبحر عيناك في صورتها .. جمال أكثر رحابةً من أن يخدشه خوف .. في أقل من لحظات تجد أنك تشرف على مجزرة بينك وبينها جدار ذو دوائر، فاتني أن أرى كيف تغضب تلك المخلوقات الناعمة إلى حدٍ تنتحر فيه، تغضب من هزيمتها ومن غفلتها فلا تجذّ ما يعوض عن الندم إلا الموت .. عشت انفجارا حدث في سوق التنومة قيل أيام وغامرت بالذهاب إلى سوق الطيور وكانت أمي تحذرني من أن أقصد العشار إلا للضرورة .. وأبي يقول بقايا البعث والسلفيين لن يتركونا بسلام نحن أفضل من بغداد التي تحترق كلّ لحظة .. وأقول إذ يسألني حين يحس أني أهم بعبور جسر التنومة هذه حوادث عابرة.البصرة تعوم على بحرمن نفط، البلد كلّه يعيش من خيراتها .. لن يدع الأمريكان السلفيين يعبثون بها .. عرفت تماما أن الطيور تنتحر إذا ماوقعت في فخ فاقتنيت فخا .. هل هي مجرّد رغبة في رؤية كائن ما أي ّ كائن يقتل نفسه أمام ناظريّ.ربما لأني لم ألتحق مثل أخي الشهيد أو أخي الأكبر بالجيش عبرتني حَرْبان ومرتْ بي ثالثة بسلام كانت قاب قوسين أو أدنى مني، وكادت تلتهمني، لولا أنّ الزمن الذي ماطلت به ستة عشرعاما هبَّ فجأة فتخطاني من الموت فسمعت دوي انفجارات وسقوط قتلى .. رأيت حرائق تتناقلها أخبار الفضائيات، ويبدو أني بدأتُ، متأخرا، أقتنع بفكرة القتل نفسها، إذا ماحدثت بشكل ناعم غير مقصود، وفي مكان صغير ضيّقٍ جميل ومازلت أرغب في أن أقتنص طيراً جميلا ذا غناء شجيٍّ بل تكاد تلك الرغبة تتوازى مع الصداع الذي يتفاقم داخل رأسي، ومع رغبتي في لَمِّ أحجار غريبة الأشكال تتكدس أمامي وتبرق فأخالها تلمض إلي ..

تبتسم ..

ليس دافعي القتل بل أبصر ماسمعته .. أجد الخرافة تتمثل واقعا أمامي في طير يضرب رأسه بجدران القفص حتى يموت، لم أيأس مادام هناك أحد نجح مع الطير في مكان أيِّ مكان، وراودتني فكرة طارئة:لم لا يكون محدثي بائع الطيور مدعيا .. كلامه وضعني بين أمرين متناقضين لا ثالث معهما:شك ويقين لأنني لا أريد أن أطارد وهما .. لا وقت لدي سوى عُطَلِ نهاية الأسبوع وها نحن جماعة مسح الأراضي نبتعد كثيرا عن مكان الحجر الجميل والطيور الغريبة، ابتعت فخا آخر، وصلت المكان وأنا على يقين من أن تلك الطيور تتبادل المكانين ذاتهما يوما هنا ويوما هناك.قد لا تغامر وهي الذكية، كما يقول البائع، في الهبوط على منزلق مائي آخر .. نصبت الفخين في المكانين الذي رأيتهما فيه وجلست أنتظر في مكمني ..

انصرمت ساعة وأنا جاثٍ بين البعوض والدبيب .. عيناي تنتقلان بين الضفتين .. الفخ الجديد أكبر سعة وأكثر اتقانا .. ومرت ساعة أخرى .. قلت أروّض نفسي: السرب تأخر .. كاد الحرّ يقضي على أنفاسي وامتنعت عن الحركة لئلا أثير ريبة، تسمرت عيناي على الضفتين ثم التفتُّ إلى البرِّ المترامي الأطراف حيث أكداس التراب من بقايا الجيش تتناثر وتتوهج تحت الشمس، فتظل تتصاعد رائحتها راقصة نحو السماء كلهيب نارٍ خفيٍّ يخلع عنه دخانه، لا قطعة غيم أو نسمة هواء.لاحركة سوى الرخيوي والطائر الغطاس يغيب تحت الماء ويظهر من مسافة لأخرى أما الجاموس فقد دفعه الحرُّ واللهب الخفي الصاعد من البر نحو السماء إلى أن ينتشر في الماء فلا يبين منه رؤوسه التي تلوح لمن ينظر إليها من بعيد مثل طوافات تلتقط عندها الزوارق أنفاسها من سفر طويل .. إذن لِمَ معَ كل هذا الحرِّ، ولم يأت السرب الموعود .. وشاء الحظ قبل أن تنكسر الحرارة وقبل أن يساورني شكي شاء الحظ أن تأتي. .. لمحتها من بعيد تتشكل بدائرةٍ، ومستطيل، وقوس ..

لا أصدق .. .

في البدء شككت .. .

هي ذاتها الطيور التي أطاردها .. .

 وعندما وصلت المكان حامت على الماء، فغط الغواص، وظل الرخيوي فاردا جناحيه يحدق في الماء، استدارت دورة وأخرى حلَّقتْ فوق مكان الفخ الاول .. حامتْ عنده وعبرتْ إلى مكان الفخ الجديد .. ثم غادرت المكانين إلى مكان آخر كأنَّها جاءت ولم تأتِ ..

تساءلت بحنقٍ وبله:هل قُدِّر لها أن تكشف ماتحت التراب؟

هاهي تحط في مكان آخر يبعد مسافة ليست بالهينة عن مكاني الفخين .. هذه المرة اختار السرب ضفةً بمحاذاة اللسان الأول يحتشد على جانبيها نبات الأثل والعاقول.

خيبة أمل جديدة .. .!

هل أزرع الأرض كل الأرض بالفخاخ؟

 كانت، في تلك اللحظة، تعبّ الماء، تتراقص برهةً .. تنظر إلى الأرض والسماء وتستل الدود من الحواف اللينة .. الذي أثار دهشتي حقا أنِّي سمعتُ أوْ خُيِّلَ لي أني أسمع حشرجة من المكان القريب منِّي تراءت لي صفقات أجنحة وهمهمة .. حداء من بعيدٍ .. أنين يأتي من موضع الفخ القديم .. خطوت وعيناي مثبتتان على الطيور الغريبة التي نظرت إليَّ عن بعد .. بقيتْ في أماكنها .. كانت بلا شكٍّ تسخر مني ومن سذاجتي، وما كدت أقترب من المكان حتى تبينت الأمر بوضوح ..

قد أصدّق أو لا .. .

جئت أصطاد طيوراً عشعشت في ذهني فرأيت طيراً لم يخطر في بالي .. .

 وقع في الفخ هدهد جميل زاهي الألوان ظل يصارع كي يخلص نفسه دون جدوى .. قبل يوم كنت مع أكثر من طير في البصرة القديمة .. لا شك أني التفت إليه.ليس هو وحده لفت نظري .. خلال حديثي العابر مع بائع الطير الأخير لمحتني لحظةً فناجسُ في قفصٍ كبيرٍ ثمّ انصرفت تتراقص على العارضات داخل القفص .. فنجس وحمام .. راعبي ذو ذيول تسحر بفتنتها .. عصافير .. هداهد كبيرة وصغيرة .. ثمَّة رأيت أيضا عصافير، وطيور حب حمراء وصفراء وبيضاء واستوقفني لونٌ تركوازي .. أعجبت بشواهين تنظر بشموخ .. سنونو وببغاوات قيل إنها يمكن أن تتحدث .. وفي غياب طيور جميلة أبحث عنها لتنتحر داخل القفص سمعت زقزقة وهديلا وغناء .. بعدها لا طير التحق بفخ نصبته إلا الهدهد .. نظر إلي بحدقة حمراء وخانته رجلاه المقيدتان بأسلاك الفخ .. فتطلع حوله وظلّ يطالعني بعينين زائغتين وصمت ..

لا أريد أن أعترف أني هُزِمْتُ

لابد أن أعود ومعي شيء وإن لم ينتحر في القفص ..

لاذ بالسكون، وارتسمت على شفتي ابتسامة أقرب لنشوة مبهمة .. دقائق ظلّ يرف بجنحيه وأنا منهمك بفك القيد عن رجليه.فزال عنه الاضطراب حين أصبح في القفص .. سكن فأوحى لي سكونه بوهمٍ جديد ربما يصبح حقيقة ذات يوم ..

فكرة طارئةٌ سرعةَ المفاجأة التي جاء بها الهدهد الاسير!

أستطيع أن أتصرف بمدخل بستاننا الواسع الخالي من النخيل، أبني قفصا كبيرا للطيور الأليفة المتجانسة، المدخل كبير يسع أكثر من قفص .. أشيد آخر للطيور الأكبر حجما، فكرةٌ لحديقةِ حيوانٍ صغيرةٍ تتبلور في ذهني، أبدؤها بالطيور.لايضرّ أن تتسع الحديقة فأنشر الاقفاص بين النخيل لتأتي حيوانات أخرى .. وسيصبح بستاننا مليئا بالحياة التي غادرت روح النخل بعد الحرب الأولى .. الهدهد سيكون له القفص الأول ثم أستثني وأقرُّ أن مدخل البستان سيضم الطيور فقط وأستبعد أيّ حيوانٍ آخر .. مجرد خاطر سريع مر ببالي، أما قبل أن أبني أقفاصا كبيرة في مدخل البستان فقد اخترت للهدهد مكانا في الزاوية عند مدخل غرفتي.ولعلني بحت ذات يوم لقريبي " صالح النبهان" عن فكرة القفص الكبير ومدخل البستان، فابتسم بعد تأمّلٍ وضحكتُ من فكرتي إذ حسبتها تحمل روح فكاهة جديدة:

- مرة تاجر آثار ومرة تاجر طيور!

قال أبي ملاطفا، وانبرت أمي التي تكره أن ترى طيرا في قفص .

- ماذا تفعل به؟والله يا إبني حرام تحبس الطير!

قلت وأنا أهزّ كتفي:

- لو طبقنا مقولتك هذه لم نجد أَيّة حديقة حيوان في العالم!

وردَّ عليها أبي جادا

 - الهدهد بركة في البيت!

 

د. قصي الشيخ عسكر

 .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .

حلقة من رواية: النهر يلقي إليك بحجرا

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم