صحيفة المثقف

أوقفوا الحرب

قصي الشيخ عسكرترجلا من الحافلة الساعة العاشرة، وكانت هناك حشود لحافلات وصلت من مقاطعات أخرى ثمّ غادرت ، وثمة بعض من موظفي السفارة، استمعوا إلى هتافات يمكن أن يترنموا بها .. لايمكن لأحد أن يخرج عما هو مرسوم من قبل. لا نريد ارتجالا يسبب لنا إحراجا يقول رجل السلك الدبلوماسي. وهاهي لندن تستقبله ضمن حشد التمّ لينطلق إلى حيث لا يدري، فيظنّ أنّها تفتح ذراعيها له وحده بجوها الضبابي الخجول .. أم الدنيا .. لها طعم آخر. زارها بعد أسبوع من وصوله إلى نوتنغهام. لحظتها شعر أن المدينة ليست غريبة عنه. أليفة بحق. أهو الصخب الذي يجعلنا نحن القادمين من الفوضى نظنّ أنفسنا نعرف الأماكن المزدحمة؟من قبلُ سمع بمدن كثيرة .. طوكيو نيويورك . باريس .. لا يظن أن هناك مدينة تشبهها .. عجوز شابة .. جسد جميل وخزته السنين فتركت أثرها فيه ولم تشوهه .. رآى متحف الشمع .. وساعة بيغبن .. معالم يمكن أن تختلط في ذاكرته، ياترى هل يشعر بغربة لو أنه حصل على مقعد دراسي في جامعة لندن أو أية من جامعاتها الاخرى. المختبرات نفسها. واللشمانيا هي هي لا تتغير أبدا سوى أن الصخب في كثير من الأحيان يطرد عنا الكآبة. وفي أقل من لحظات كان يلتفت إلى الطابور الطويل واللوحات. الدبلوماسيون والطلاب أو رجال أعمال وآخرون تستهلكهم أحاديث عامة عن الحرب والهتافات المتفق عليها وهومشغول بلندن. عبد العال قريب منه وبعيد عنه. أحيانا يحطّ مثل نحلة هنا وهناك. نحلة صافية لا تلسع .. يرى أن العراق بدأ الحرب وفي ظنه أن تطوعه في الجبهة أكثر من مرة يشفع له .. استدرجونا إلى فخّ لو كنا نحس ونسمع ونرى لوجدنا أن الثورة الفرنسية تماسكت حين هوجمت من الخارج. هل يجرؤ على أن يقولها علنا في التظاهرة. يتحدث يبتسم. يهز رأسه ثم يكرر الكلمات الموعودة سلفا. أوقفوا الحرب .. العراق لن يرضخ .. عبارات تتكرر كل يوم وفي كل مكان على لسان الأطفال والشيوخ والشباب. إيران أوقفي الحرب .. يذكره ذلك بالمدرسة الابتدائية والثانوية يوم يجمعهم المعلمون والمدرسون في الرحلات المدرسية، وعند المناسبات الوطنية ينشدون للوطن والحرية والسلام بكلمات قد لايفهمون بعضها. الصورة نفسها تعود بإطار آخر في شوارع لندن. طلبة بدرجة بكلوريوس ودراسات عليا يصفّهم مسؤولون حزبيون. لوحات بالعربية والإنكليزية. كان التلاميذ يتنافسون أمام معلمهم ليحوز أيّ منهم شرف حمل اللوحة. إيران جاك جاك حزب البعث الإشتراكيّ. فلسطين جاك جاك .. فمه يهتف .. يردد مايسمع .. عيناه تتابعان الصور .. الإعلانات على الحافلات .. أفلام السينما .. لوحات المطاعم .. .. وجه مستر بن الساخر على حافلة .. تشرشل وكلب صغير ضخم الرأس نحيف الجسدopen days London theater فمه يردد عن غير وعي "أوقفوا الحرب" وعيناه تحومان كالنسر في شوارع يعبرها. تقعان على عبد العال فيجده مشغولا بالهتاف .. صحيح العراق بدأ لكنْ ماكان على إيران أن تستمر .. عبروا شوارع وقطعوا مسافات .. من الهايد بارك انطلقوا وإليه يعودون .. كل شيء وفق خطة يتحرك بها التلاميذ. فلسطين حرة حرة .. يا رفاق .. ستقف الحافلات في المكان نفسه الذي ترجلتهم عنده، في ذهنه أمر آخر .. راح يخطط ليعود وحده .. . الآن في رحلة العودة أصبح حرا .. غادر الهايد بارك معرضا عن الحافلة وادعى أمام عبد العال أنه سيزور عائلة يعرفها .. هبط محطة الأنفاق .. لندن الصاخبة ستكلفه مبلغا إضافيا لا يخصّ صفقة اللشمانيا .. ليس بنادم .. كانت الرغبة تدفعه لئن يكتشف تلك العوالم التي يعرفها ويجهلها. قد تكون الاشياء والأفكار قريبة منا جدا فنجهلها مع قربها الشديد لنا. بين يديه اللشمانيا .. يراها كل يوم يتابع حركتها، يكتب عنها ولا يفهم جوانب كثيرة فيها. جوستينا أقرب الناس إليه. تتأوَّه .. تمنحه جسدها. تحتضنه بعنف .. توقف الترام في محطة البيكادلي صعد مهرولا درجات طويلة وخلف مدخل المحطة وراءه.

كان يحث السير نحو حارة سوهو ..

البيكادللي الذي يشخص أمام ناظره.

يتلتفت كأنه يتاكد أن لا أحد يراه.

عرب وأجانب وسواح .. قابل عربا وأجانب. آسيويون وأفارقة .. تجارة وبغاء .. صيف لندن وشتاؤها واحد .. بردها وضبابها، توغل في بداية سوهو، محلات، وشقق تطل .. بنايات قديمة، وعلى الرصيف عند تقاطع الشارع العريف بآخر فرعي وجدها تقف بشكل مريب. متوسطة الطول ممتلئة خضرة على جفنيها العلويين. جسد مثير وابتسامة مصطنعة. عالم آخر جديد قديم:

Sorry how much

بمزاح وغمزة:

Ten pound

اقتادته إلى قبو يبعد خطوات يسيرة ، يا ابن الكلبة كم من الجنيهات .. دعها لأمك .. لو عاملتها ستربح باوند أو اثنين .. ولعلها تسبّكَ وتشيح بوجهها عنك .. هبط خلفها درجات معتمة فطالعه مصباح خافت يتدلّى من السقف، وخيل إليه أنه رآى خيوطا فخالها صبغا قديما متآكلا أو خيطا من "مخاط الشيطان". غرفتان أحداهما مغلقة الباب والأخرى عن يساره جاهزة. أشلعلت المصباح وردت الباب وراءها. بدأت تتعرى .. خلعت قميصها انسلت من تنورتها ثم حمالة النهدين .. تجردت عن ملابسها الداخلية ثم ارتمت فوق السرير .. راح يخلع ملابسه، بحث عن رغبته المحمومة فوجدها مازالت تراوده، وحين انتهى من خلع ملابسه بسطت يدها تستقبله. تعال .. com hurry up أطلقت ضحكة خافتة، واستقبل الفراش بركبتيه، تمايل رأسها نحو كتفيها ثم رفعت يدها إلى فمها وبللت أطراف أصابعها بريقها .. تدفق منها لعاب كثيف دعكت به ذلك المكان من جسدها .. . come

فجأة .. .

تراخى جسده ..

مات كل شيء فيه. تلاشت الرغبة.

بقايا خشبة يابسة. عود كبريت مهمل. اشتعل وانطفأ، فذوى في حاوية على الرصيف.

غثيان .. .

قرف لا نهاية له .. .

كانت دلال تطل عليه من تحت قبعة المصباح .. هو الأستاذ المتعجرف. تذمر الطلبة والطالبات. قالوا عنك يا نادر إنك متعجرف. أناني. أصعب أستاذ. بخيل في العلامات. يمكن أن يحوز أي طالب مجتهد ذكي على أكثر من تسعين عند الاساتذة أما أنت فلا تمنحه أكثر من ثمانين هذا إذا كان من النوابغ. تآمر عليه الطلبة، استدرجته دلال إلى القبو وصفعته ثم صرخت. تلوثت سمعته. وبخه العميد فبان عليه الانكسار والخجل.

- مالك تعال؟

 .. .. .

- أنت لم تمارس من قبل؟

 .. .

- لا تخجل؟أنت عربي؟الكثيرون مثلك بدوا خجولين وانحلت عقدتهم معي. تعال.

أمامه على الحائط الكونتيسة ذات الوجه الطويل والنظرة الثاقبة بطوقها ذي الزعانف العشرين وشعرها المنتفش كالزغب .. يداها مبسوطتان. ابتسامتها تتسع ، ودهشتها أيضا:

- أنا متاكدة أنك ستعود إليّ ثانية بعد أنت رجل .. فحل .. تعال.

ماتت رغبته بين القرف والغثيان. في أي مكان يتقيّأ؟جوستينا دلعت لسانها في فمه وضمته .. راحت تتأوه. تتراجع الى الخلف وهبط من السرير إلى الأرض الرطبة، ارتدى ملابسه على عجل، أخرج من جيب سترته الداخلي عشرة جنيهات وضعها على المنضدة الصغيرة. راحت تحدق فيه من دون أن تعلق بأية كلمة. لحظات صمت باردة. لقاء ابتدأ شبه صامت وانتهى كذلك. فتح الباب وصعد درجات القبو.

كان بعد لحظات على الرصيف، بين المشي والهرولة. هرب من كل شيء ولاشيء. لا يرغب أن يلتفت إلى الخلف. يمكن أن تكون هذه آخر مرة يزور فيها لندن. ربما تستدعيه البعثة مرة أخرى عندئذ سيأتي ويرجع بالحافلة وقد أدرك في لحظة هروبة من سوهو أنه يقرف من كل شيء، ويكره ويحب مثلما يرغب سوى أن جوستينا وحدها هي التي تبدو له خالصة النقاء.

9

كانت السنوات والأحداث القريبة والبعيدة تتآكل في عيد ميلاد الأم السنويّ، كلّ عام يكشف عن نكتة جديدة يرويها الزوج الثالث، أو عما يخفى عن العائلة الكبيرة المشتتة من بعض الأمور وفي السنة الرابعة انتبه إلى أن سنيتا التي تكتفي بقدح ماء أصبحت أكثر ذبولا ونحافةولم يفته أن يلتفت إلى نظرة خاصة تلقيها الأم بين لحظة وأخرى على ابنتها التي لا تراها إلا مرة كل عام .. . وسط الجلسة الأخيرة راودته الليشمانيا أكثر من الحاضرين أنفسهم. هم عائلته لكن اللشمانيا طموحه ولا بدَّ أن يضحي بأحدهما على حساب الآخر. استثى سنيتا .. حبّة بغداد تجعلها أكثر تعبا. لايدري ولا يحبّ أن يسأل:هل بدأ السرطان بالكلية السليمة الوحيدة أم أصابها عارض آخر سبب لها الهزال. إلف مازال بحدته وشراسته. الوحيد من بين الحاضرين الذي لا يمكن حَشْره في زاوية ما. بقي فضا وهو الوحيد الذي لا يتغير، الكل يضحك وهو لايزيد عن ابتسامة مشوبة ببعض الكدر .. ليذهب إلى الجحيم أو ينتحر وإن كان أخوك، فأطلقت ضحكة عالية وقالت:لا بأس إنه كاثوليكي بحت يؤمن بمعجزات العذراء وبركاتها لو كان بروتستانيا لفعلها، تأمل لحظة في كلام جوستينا، وشعر بفراغ رهيب، ياترى لو أعاق حدث ما إلف عن حضور عيد ميلاد الأم هل كان لذلك العيد طعم مثلما هو عليه الآن، لايتحدث غير أن وجوده كاف ليبعث الزهو. ليس الغريب أن يشعر بفراغ حين لا يلقي نظرة كل يوم على ذبابة اللشمانية الحمراء ذات الشعر الناعم. ياترى لو وفق لإنهاء بحثه وهو يوشك على ذلك فهل يتجاذبه شعور بالوحدة. كثير من الأشياء الصغيرة والكبيرة لا نحبها لكننا نشعر أن وجودنا مرتبط بها. حقا شعر أن تلك العائلة الكبيرة المتناثرة عائلته هو قبل أن تكون الأم حلقة الوصل فيها. وقبل آخر عيد ميلاد تغيرت الأمور، سيغادر وفي جعبته شهادة الدكتوراه. انتهى كل شيء وحاصر اللشمانيا. انتصر عليها ولم يهزمها .. مختبر وبحث على الورق لعينة جلبها معه من البصرة.

كان يحاصرنفسه ولا مخرج أمامه.

يغلق عليه الدائرة تماما.

والحرب لما تنته ، فهل تحدث معجزة يوم يهبط في مطار بغداد!

مع ذلك أصر على موقفه، عبد العال نفسه كان يأمل أن تنتهي الحرب بعد عام. بضعة أيّام تحولت إلى أسابيع .. والأسابيع أشهر ثم سنوات .. انشطرت. بكتريا لا تقدرعلىحصرها في علبة .. كل طالب بعثة بات يراهن على تلك النهاية وآخر مرة اعتذر عن الذهاب إلى لندن. تحدث في الاجتماع الشهري أن استاذه عين له لقاء مطولا في اليوم ذاته يوم التظاهرة الموعودة في الهايد بارك .. كانت المظاهرات - كالحرب- تنشطر كل عام بهتافاتها ولوحاتها، ولندن تنسخ نفسها مثل بكتريا غير قابلة للفناء. الطلاب صحبوا أصدقاءهم من العرب والإنكليز، وعبد العال يحكي عن سلوك آخر. وليس هناك من شيء أمام نادر سوى بيت يستر العائلة. هل يبيعه أبوه ثم إنه لا يهمه كل هذا الهراء. لايؤمن بالعبث غير أنه لا يرغب أن يهرب من واقع مفروض عليه. وقع ورقة الحزب فكان بعثيا وأصبح في نوتنغهام. التقرير السياسي يقتفي أثره والاجتماعات تلاحقه، ويتابع هو بدوره اللشمانيا كل يوم، وسوف يعود ليخوض تجربة الحرب، خالها تطول فإذا هي ثلاث سنوات تمر وثمة كل شيء كماهو. عالم آخر سيلخصه لها ببضعة عبارات، والأفضل له أن يستوعب تجربة الجامعة. أمك ماتت خلال الحرب ووالدك بعدها بسنتين. إخوتك يانادر توزعوا. أختاك تزوجتا، هذه سنّة الحياة. كل هذا وأنت تستقبل الحصار بمنزلتك الجامعية. رتبة تفرض احترامها، في الوقت الذي طبعت فيه الحكومة الدنانير من ورق عاديّ كان راتبك خمسة دولارات. جوستينا بعد ممارسة البغاء ببضع سنين أصبحت تملك سيارة وتفكر بشراء بيت.

هل ضاعت رسائلك إليها؟

- لا تسافر؟ تسافر في مثل هذه الظروف.

يقول لها لا بد من العودة. من يدفع كفالة البعثة، وليس في ذهنه قط أن يكون أستاذا بخمسة دولارات. ولعله يضحك إذ يذكر لها أن أحد الأساتذة أخذ يعمل بعد الدوام سائق أجرة. إيه جوستينا أحد الطلاب جاءني بخمسة كيلوات باذنجان وكيلو لحم مقابل بعض العلامات أربع علامات. اللحم والخضار أرسلته إلى بيت أختي .. لن أخسر شيئا نحن نعيش ظروفا شاذة، كلّ يمكن أن يبدع وفق طريقته الخاصة .. أما الطالبات اللاتي يشبهن تماما في الشكل دلال فلي حساب معهن.

- إني اعترف لك!

- طيب حبيبي هذا العام لن تحضر عيد ميلاد أمي مارأيك أن نذهب إليها في عيد رأس السنة لأن أختي الصغرى ستقضي الكرسمس ورأس السنة مع صديقها في أسبانيا!

أخيرا نطقت. إنه الحبI like you : انتهت بعد أربع سنوات. لابدّ من أن يمرَّ على المكان نفسه. الكونتسية وقصرها ويرى اللوحات. مرة واحدة في السنة تكفي لأن نرى الأشياء على حقيقتها أو نجدها أضافت حقائق أخرى لحقيقتها الأولى. الزمن نفسه يمكن أن يترك آثاره على الجماد، وكلّ مرة يستقلان الحافلة . يمشيان. يهرولان، ربما يريان الغابات تصغر، وبيوتا جديدة تنهض. ينسى أن هناك حربا، ويضيع الاتصال بينه والعائلة، I love you

I love you so

لكنهما هذه المرة استقلا القطار وغاب عن أعينهما قصر الكونتيسة. كانت السيدة "جوزي" تنتظرهما في الصالة وقد بدت متأنقة في ملابسها وتسريحة شعرها. كل شيء يوحي بهدوء وسكينة ينفجران عند منتصف الليل. الكراسي اختفت، ولم يبق منها إلا ثلاث والمنضدة المستطيلة التي ارتقى عليها ديك رومي وزجاجة نبيذ. كانت الشموع تضفي مسحة من الجمال والهيبة على المكان. جلال يكاد يكون أبديا يتجدد كل عام. احتفال خال من أيّ افتعال. كأنه شعر بهدوء عنيف لغياب الآخرين. حتى إِلْف نفسه، إِلْف الثقيل بأنفته وتعاليه بات يضفي على الحضور السنوي نكهة خاصة. أما سنيتا فمازال يتردد بشأنها .. لا يحبّ أن يطبع على خدها الذابل قطعة لشمانيا ويعرض عن ذكرها. راحت جوستينا تتحرك مثل النحلة وبين فترة وأخرى تحط جنبه وتقبله. تجرأ أن يشدها من يدها ويطبع على يدها قبلة. راودته جرأة غير معهودة فالتفت إلى الأم:

- إن لم يكن هناك مانع هل يمكن أن تخبريني أيا من أزواجك أحب إليك؟!

فاتسعت ابتسامتها وقالت بعد صمت قصير:

- دعني من ذلك لن أخبر أحدا لئلا أعكر مزاج أي من أبنائي لكن أخبرني هل نويت حقا الرحيل في مثل هذه الظروف؟

تسأله عن شيء يبدو ثابتا، السفر والعنف هناك بل الدم. هل يكون جبانا فيفرّ من الموت المتربص أم يبيع أبوه بيت العائلة كي يسدِّد مبلغ الكفالة؟. يرنّ الهاتف، تغادر وتنطق اسما ما .. لا يهمه سواء أكان إِلْف أو أي من أبنائها أو أزواجها:

- لا بدّ من ذلك.

- أيّة حرب هذه تستغرق سنوات أكثر من الحرب العالمية الثانية "وأردفت بحماس "حربنا في الفوكلاند دامت ثلاثة أشهر.

وعقبت جوستينا:

- إنه مصر في حين يمكن أن يجد بيسرٍ عملا هنا!

- ياسيدتي حتى لولم تكن هناك حرب فأنا محكوم بكفالة مادامت الحكومة أرسلتنا هنا فقد اشترطت علينا الكفالة وألا يتزوج أي منا من أجنبية!

فحملقت فيه ثواني وهزت رأسها:

- لكن هذا قانون عنصري!

قالتها وهي تشير إلى بدء موعد العشاء، أما الخارج فقد اندلع في أقل من بضع ساعات فقط، بصخب جديد يعلن عن انصرام سنة جديدة وحلول عام آخر تمثلت بقاياه في جثة ديك رومي ممزقة على الطاولة، وألعاب نارية تتصاعد في السماء تشكل دوائر متباينة وتخبو. وقف الإثنان حول السيدة "جوزي"وطبع كل منهما قبلة على خديهان وتبادلا الأنخاب معها:

Happy new year

يرنّ الهاتف مرة أخرى، تعلن الأم أنها "لويزا" من أسبانيا، سنة سعيدة، وتطل مكالمة أخرى وأخرى، دقيقة تفصل بين عامين وتحتشد بمكالمات من مانستر وليدز وأماكن متناثرة بين العامين القديم والجديد في حين استمر الصخب والضجة والغناء راحا يدوران حول المنضدة ثم يغيبان في قبلة طويلة فيغطي بعدها المدينة كلها صمت طويل.

10

لكن بأية من تلك السنوات يطل عليها؟

بل من أيما سنة يهبط في هذه المدينة التي تتشح أمامه بالضباب ..

الحرب أم الحصار، هذه المرة أتى إلى نوتنغهام بغير عينة من اللشمانيا ولا يحصر أيّ كائن خفيّ بين يديه، لعله يبدأ من حيث يشاء فبعد أن رآى مارآى من قتل وجثث لم تمحها من ذاكرته الأيام. الموت نفسه يخدع. سيحدثها عن جنديّ اقتحم الساتر الترابيّ بعربته المدرعة. مات وبقيت قدمه متصلبة على دواسة الوقود إلى أن اصطدمت العجلة بالساتر فانقلبت. ميت يقود عجلة .. بعض الأمور تبدو غريبة لنفهمها متأخرين، ومن حقّ الآخرين ألا يصدقوها إلا حين يتقمصون الحرب دقيقة بدقيقة. ليست جوستينا وحدها تتهمه بالانفصام أو الكذب فبعض مارآه وأبصره لا يقدر أن يذيعه .. كان يأمل أنه لو قُتِلَ هناك فإنّ هنا شيئا باق منه في نوتنغهام.

حلم ذات يوم :إن عاش فسيبحث يوما ما عن بقاياه التي انفصلت عنه من دون حرب!

كان يمكن أن يختصر ذلك بكلمة واحدة .. سأبقى وليكن مايكون. هناك من تظاهر بحماس يلعن الحرب، ويشتم إيران، ويوم حانت ساعة الرحيل ضرب عرض الحائط بالكفالة وأهله، وقد شعر بالارتياح يوم قالت له ستذهب معه إلى لندن، يمكن أن تعدها إجازة عمل، ساعة أو ساعتين. تركب الحافلة، يزهو بها أمام طلاب البعثة. رائعة أنيقة ذات قوام. تمسك ذراعه. تبتسم بوجه من يطالعهما. أسف لغياب عبد العال الذي التزم بالحضور أمام أستاذه المشرف وهو على ثقة أنه لو رآى جوستينا لحدث عنها حميدة بللوز. اختارا المقعد خلف السائق. كانت تبدو بسلوك راق مثل أية طالبة في الجامعة تنحدر من عائلة عريقة. صديقة لن تنتهي العلاقة معها بالزواج وفق شرط اختاره على مضض. يدها بيده، تهتف مع الآخرين، يعلو صوتها:لا للحرب، stop the war,no to the war متطوّعون ضيوف، عرب وأجانب، أمّا الأكثر خوفا فهم الطلاب الذين شارفت سنينهم في بريطانيا على النهاية. ترآى الحشد لعينيه أشبه بعائلة السيدة"جوزي" الكبيرة العدد حين يلتقي أفرادها في عيد ميلاد الأم وكأن لا علااقة تربطهم سوى أغنية يرددونها جميعهم ثم ينتظرونها في عام آخر . عيد ميلاد سعيد. إيران لتقف الحرب، لكن لو انتهت الحرب لما اجتمعوا، ولما كان هناك من داع للسفر إلى لندن. كانت تقبض على ذراعه وتلوِّح متحمسة باليد الأخرى. غابت عن عينيه اللافتات، ولوحات الأعلان على الحافلات وفوق الواجهات. ice cream لتقف الحرب war should be stop .. سارا في شوارع لاتعنيه وخطرت أمام عينيه عناوين مثيرة تجاهلها، ومثلما شغل فمه وعيناه بالهتاف والنظر إلى اللافتات، تذكر اللشمانيا. انتقلت عيناه إلى الوجوه. دار رأسه يمينا وشمالا وتعمد أن يلتفت مرات إلى الخلف، لا وجه يلوح عليه أيّ تشوّه. وجوه متباينة. لم ير اللشمانيا تلك اللحظة. أين اختفت من بعض الوجوه؟العابرون على الرصيف، ومن توقفوا يتطلعون في التظاهرة لا آثار في وجوههم، وليس هناك من المتظاهرين من ينظر إليهما بفضول فيحسّ من نظراته أنه يعرف حقيقة جستينا، وتساءل هل يُعْقَل هناك أحد من طلاب البعثة يعرفها؟ربما زار أحدهم بيتَ دعارةٍ آخرَ غير الذي تقيم فيه جستينا. فكرة سخيفة تلاعبت برأسه سرعان ماطردها بعيدا وظل يطاردها. ماذا لو بدأ بقبلة طويلة. ضحك في سره من سخف ٍ يدَّعيه ولا يمارسه. وعاد يرددمع الآخرين .. .

- تعجبك لندن؟

كان هناك ثمّة حاجز بينه وبين تلك المدينة العجوزالشابة، حاجز جعله يقرف يوم زار البكاديللي وانسل هابطا درجات وعاد خارجامن ضوء خافت متآكل وصوت يلاحقه أن يعود مرّة أخرى:

- التايمز ومتحف الشمع وأجوار روود .

ومثلما تأتيه الأفكار أحيانا متأخرة، فاجأته قبلتها له حالما انفضت التظاهرة، القبلة التي هم بها وطاردها حتى اختفت .. وبدأ الرفاق يصعدون في الحافلات التي تكدست أمام الهايد بارك .. هي المرة الأولى التي يصحبها، وجودها معه يثبت حضوره للرفيق ، ومشيتها جنبه تعلن عن وجوده أكثر مما لو جاء وحده، فنفث عن صدره عبئا ثقيلا، وفاجأه قولها ثانية فهب من سرحانه:

- أترغب أن نتجول في لندن بضع ساعات؟

ارتسمت على وجهه علامة ما:

مازال يبحث في الوجوه عن تلك الرقعة التي يحاربها كلّ يوم. يمكن أن يعتذر. يجد حجة ما، النهوض مبكرا غدا. حشرة صغيرة. . جرثومة .. فطر لايبين يجعلك تقطع مسافات طويلة كي تحاصره داخل علبة صغيرة. مال طائل يُصْرَف .. أستاذ مشرف يطالبك ببحث. كم أنت عظيمة وحقيرة أيتها الحشرة .. الرفيق مسؤول المنظمة لا يهمه أن تغيب يوما من كل شهر فتشارك في مظاهرة لندن، لتنفضّ التظاهرة الطويلة العريضة بقبلة. من المعقول بعد كل تلك الأسباب أن تقضي ساعات في أماكن لا تعنى بالسياسة والحرب:

- أبدا لا.

ترددت وبعد صمت قصير:

- لن تتكلف كثيرا سأدفع عنك بطاقة العودة!

قال شبه معترض:

- معي بطاقة طالب وسأدفع نصف الكلفة لا تفكري بذلك!

فضغطت على يده وقالت:

- تعجبني تقطيبتك وذلك القتام على وجهك!

وتلاشت من عينيه نظرة حائرة وهما يغادران الهايد بارك. تحاشيا الحديث عن الحرب والرحيل، صحبته إلى ساعة بيغبن، تطلع فيها ببرود. لاشيء يجذبه في تلك الدائرة التي تؤطر الزمن، ولا البرج الذي يحملها. وجلسا على مدرجات النهر عند مقدمة جسر لندن. هل يهرب من الحرب عندها أم يهرول منها إلى الحرب. كان الجو يميل إلى البرودة والغيوم التي على الرغم من كثافتها لا توحي بمطر مازالت تلقي بظلالها على هواجسه، ولعلها تلتمّ وتنهمر مثلما كان عليه المشهد يوم زارا منزل الأرملة السوداء، فيا ترىبعد عام أم أشهر، أين يكون، :

- هل يعجبك المكان؟

قالها محاولا أن يتحرر من أية فكرة تعكّره:

- طبيعتي أحب الهدوء معع ذلك أحن إلى الصخب. أحتاجه بضعة أيام في العام.

وغادرا مدرجات الجسر، فتابعا سيرهما إلى الجانب الآخر، وانحرفا إلى اليمين حيث المرفأ، فأشرفا على زورق ينتظر السائحين. كأنّ خطاهما كانت تقودهما إلىحيث لا يدريان، عام واسع صاخب مفتوح أمامهما .. مشيا طويلا، واستقلا قطار الأنفاق .. صعدا سلّم النفق إلى أجوار رود حيث تناولا طعامها في أحد المطاعم الشرقية. طلبا كبة وكبابا وحساء عدس .. ثرثرا عن نهر التايمز، ومتحف الشمع، وساعة بيغبن. تحدثا عن أشياء ومعالم بعيدة .. عن مشاكل وأزمات يحياها العالم، جعلته جوستينا ينسى اللشمانيا والمختبر، والمظاهرة التي قادت خطاهما إلى لندن، تحدثت خطواتهما على الرصيف أكثر مما تكلما. قبََّلها مرات من دون تردد، كان يحسّ أنه هرب معها إلى مكان آمن. إلى نفسه .. خرج من المختبر وبيت الطلبة فهبط من الطائرة إليها جنب النهر من دون أن يقف في أيّ مكان آخر .. لا أحد يعرفها هنا في هذا المكان الصاخب الواسع:

- هذا اليوم لا يكفي لزيارة معالم مدينة لندن .. المرة القادمة نقصد متحف الشمع أوحديقة الحيوان!

- أجل أجل.

حلم جميل يعيشه بعيدا عن المنغصات، ويأبى المختبر إلا أن يعيده إليه. ينسى فيتطلع في الوجوه لعله يجد علامة بوجه أيِّ عابر يمرّ بالقرب منه:

- مارأيك أن تزوري الجامعة فأريك المخبر وذلك الكائن المخفي الذي جئت إلى نوتنغهام من أجله!

عظيم! أوكي!

أما في اليوم التالي فقد استيقظت مبكرة قبل الساعة التاسعة. جهزت الفطور، وعندما داعبت خده وقرصت أذنه قرصة خفيفه تدعوه لأن يستيقظ لكنه ادعى أن وعكة ما اعترته من أرهاق أمس ، وسيعتذر اليوم للجامعة عن الحضور، ربما ادعى المرض لكنه أراد أن يبقى في الفراش كما لو أنه يغمض عينيه على حلم جميل يخشى أن يهرب منه!

 

قصي لشيخ عسكر

.....................

حلقة من رواية: نوتنغهام

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم