صحيفة المثقف

ايديولوجيا التديّن الاسلامي السياسي ومأزق العصر

علي محمد اليوسفتقديم: أن منهجية الدراسات الاصلاحية المعرفية والفلسفية، في نقد وتقويم الانحرافات الطارئة في الفكر الديني، من وجهة نظر معاصرة حداثية، وحاجة الانسان للتديّن، مداميك وأسس وضعت الظاهرة الدينية على محّك المراجعة النقدية المسؤولة، بعد أن أصبح خطر ايديولوجيا التديّن الاسلامي المتطرف تحديدا، المعتاشة على الدين وبه ومن خلاله، تهدد الوجود العربي والحضاري في العالم .

أن كتابات النقد الديني الاصلاحية المنهجية في محاولتها بعث النهضة الحداثية عربيا – اسلاميا، كما جاءت في كتابات مفكرين ومصلحين كبار امثال رافع الطهطاوي، مصطفى عبد الرازق، علي عبدالرازق، محمد عبدة، جمال الدين الافغاني، خير الدين التونسي، محمد عابد الجابري، هشام جعيط، محمد اركون، حسين مروة، صادق جلال العظم، حامد ابو زيد، عبد المجيد الشرفي، عبده الفيلالي، عزيز العظمة، محمد احمد خلف، برهان غليون، عياض عاشور وعشرات غيرهم، وجدوا اشكالية الدين في حياتنا المعاصرة تتمثل في السعي لأيجاد حل توفيقي لثنائية (التراث والمعاصرة) وهي معضلة تضرب العمق الوجودي للامة العربية –الاسلامية، قطباها التجاذب الاساس في أن يعيش الانسان العربي –الاسلامي عصره، بالضد من القطب الآخر المناوىء له، ممثلا في الشد والجذب الرجعي المتخلف، ايديولوجيا الدين المجتمعي التعبوي، في جعل التراث عموما والاسلام تحديدا عبئا ينوء بحمله أحياء اليوم، بحجّة توكيد (الهوية) و(الذات) وخصوصيات الامة المغيبّة أساسا في ثيولوجيا الدين الزائف.

أصبحت المجتمعات العربية الاسلامية تجرّها منظومات التراث المتحفي - الماضوي التي فقدت غالبية مؤثراتها وبريقها بالمعيار الثقافي المعاصر، وفي تعطيلها الجوانب المشرقة التراثية أن تلعب دورها في التعايش والتلاقي مع الآخر ثقافيا، وتيار الجذب الثاني ممثلا بالمعاصرة التي يوجب حضورها سريان الحياة التمدينية ومنجزات العلم، وتطورّها وتقدمها باستمرار، وهذه المعاصرة بدلا من تعطيلها سابقا جرى تغييبها اليوم قسرا وبالاكراه الايديولوجي الديني السياسي.

في جنبة أخرى نجد اليوم من يسعى الى تجذير الخلافات الدينية مذهبيا داخل البيت الاسلامي، في الرجوع الى أحياء وبعث جوانب من التراث الاسلامي، بكتابة تاريخ منازعات دينية طائفية، في مسعى تصويب مسار تاريخي مذهبي على حساب مسار مذهبي آخر، بعيدا عن معالجة اشكالية الدين كأسلام في تقاطع غالبية مفرداته الفقهية والتشريعية مع العصر . نحن بحاجة اليوم الى معالجة قضايا الاسلام الديني، ليس كمذاهب طائفية متناحرة متطرّفة، بل في حل اشكالية فكر الدين الاسلامي وتقاطعه مع ثقافة وحضارة العالم اليوم .

ولم يعد مهمّا اليوم ما نكتبه سواء بمكابرة زائفة أم بقصدية مؤمنة، الا بمقدارحاجة ما تقربّنا تلك الكتابات الدينية من ردم هوّة السقوط والتراجع الثقافي والحضاري للمجتمعات العربية - الاسلامية في عالم اليوم، وليس بمستطاع الطائفية أن تنقذ الاسلام من جموده وتعطيل حركته، بمحاصرته وتجييره للطائفة الغارقة بالتزّمت والتطرّف بعيدا عن الاسلام كدين شامل يضم طوائف واجتهادات وثقافات واقليات واثنيات منوّعة، الأولى ايجاد مشتركات التعايش فيما بينها بدءا، وتعايشها السلمي التنويري مع بقية الديانات التي تعايش الاسلام معها عبر التاريخ، كي يكون بمقدورنا محاورة ثقافة الحاضر عالميا من منطلق اسلام جامع، وليس اسلام طوائف متفرقة واحترابات دينية مع غير المسلمين . أن في أصلاح الطائفة والاثنية مقدّمة سليمة وصحيحة لأصلاح الفكر الديني الاسلامي.

هذه التوطئة وجدتها ضرورية قبل الدخول في بسط فقرات هذه المقالة في معالجتها مجتزءات متعالقة مع الفكر الديني وليس مع الدين بثوابته، كانت أغفلتها أو تناولتها باكثر رصانة المناهج النقدية الشمولية في سعيها طرح معالجات أصلاح الفكر الديني، وحاولت كتابة تاريخ ديني مغاير للمتوارث السائد المعطّل الوجود والفاعلية الحياتية في تغيير واقع المجتمعات العربية، عندما يكون موروث الفكر الديني يعيش الماضي والحاضر والمستقبل برؤى مهيمن الماضي على حساب هامشية الوجود العربي – الاسلامي في عالم اليوم .

حاولت في هذه المقالة بسط اجتزاءات منها التديّن حاجة ملازمة للوجود الانساني، ومفردة اخرى العودة بالدين لتوكيد فردانيته التدينية العفوية الصادقة، وليس مجتمعيته التعبوية السياسية المنحرفة ايديولوجيا، كما وضعت مفردة عصرنة الدين بين الاستحالة والتحقق، كذلك مفردة خلق عوالم ويوتوبيات دينية ودنيوية، خيالية ومتحققة، كما وتطرّقت لآفة الفكر الديني في أدلجة الدين، جميعها مفردات بحاجة الى تناول مستفيض، لا يفيها حقها مثل هذا المقال، لكن حسبي اني اضعها تحت نظر ويد التناول ممن هم اكثر كفاءة تخصصية في معالجتها.

حاجة الانسان للتديّن:

لماذا كان في السابق، وبقي الى اليوم (التديّن) حاجة ازليّة مفطور عليها الانسان؟ ابتداءا من المراحل الخرافية والسحرية والميثولوجية والاسطورية التي مرت على الانسان في ابتداعه واختراعه (التديّن)، أتت وجاءت متسّقة مع التفكيرالبدائي-البدئي العقلاني غيرالساذج، في حاجة الانسان للتديّن، متجاوزا متطلباته البيولوجية الضرورية الأخرى في اسباب بقائه بعد تطمينها وتأمينها، والانتقال الى تساؤله في معنى وجوده بين هذه الكائنات المحيطة به في الطبيعة.

(ومن هنا نستطيع أن نفهم أن الطاقة الروحية التي يمتلكها الانسان دون غيره من الكائنات، هي طاقة انسانية بالاساس، لكنها متأرجحة بين الشأن البشري الأرضي من جهة، وبين التوق الى المطلق من جهة اخرى، وخاصة الألمام بعوالم ماورائية مفترضة. (1)

جوهر تلك النزعة العقلانية في استحضار حاجة الانسان التاريخية للتدّين، لاتنخلع عليها وتدمغها السذاجة توصيفا، لأن عقلانيتها الايمانية الغيبية، تتطابق مع نفس الارتباطات والمنطلقات الدينية الايمانية في وقتنا الحاضر. من حيث الالتقاء على أهمية حضور آلهة، تعطي وتوهب، تجازي وتعاقب، تمنع وتثيب، تجترح المعجزات، غير محدودة القدرات، خارقة، تلغي حواجز الزمان والمكان في الطبيعة.ذات القدرات الالهية الاسطورية نفسها التي قرأنا عنها، والى وقت ليس بعيدا جدا في عمر الشعوب كما هي عند الاغريق في اساطيرهم وقبلها في الديانات الوثنية في مصر وبلاد الرافدين.

قد لا يكون التصور الألهي وقتذاك في تلك الحقب السحيقة، مشابها لما حصل لا حقا من تطور انساني في ابتداعه تنويعات اكثر اتساقا وقبولا في مسار تطور التديّن الايماني الغيبي.لكنما الجامع هو جوهر التدّين التوحيدي الألهي في الاعتقاد بوجود الخالق.

اذن لماذا لم يكن الدين ظاهرة مفارقة لوجود الانسان؟

بالعودة الى المنظومة الفرويدية كما يدعو الباحث نبيل بن عبد اللطيف(نجد الحاجة الى الاعتقاد، هي حاجة نفسية بالاساس تنبع من محاولة الانسان الاجابة عن سؤال مركزي، لطالما أرهق تفكيره، هو ماألهدف من الحياة؟)(2).

وبحسب كانط (العقل الانساني فريد من نوعه، أنه يطرح في جانب من جوانب معارفه، اسئلة لا يمكنه الاجابة عنها البتّة، فهو يطرحها لأنها نابعة من طبيعته ذاتها لكنه يبقى عاجزا عن الالمام بها بسبب انها تتجاوز قدراته البشرية)(3)

الانسان في عديد من ظواهر الحياة التي لا يجد لها تفسيرا منطقيا شافيا، يتنازعه مؤثران اثنان هما (الارادة والقدرة) على التنفيذ، الارادة عند الانسان في تطلعه الميتافيزيقي، الذي هو رؤيه أستباقية أستشرافية مصدرها الخيال غير المحدود بطموحات معرفية معينة دون غيرها . والعقل الانساني يقود الانسان الى سلسلة من التساؤلات معظمها محرج، وأمتحان لقدرات الانسان المحدودة في فهم وتفسير الحقائق والظواهر الطبيعية وغير الطبيعية المحيطة به .

عليه يكون الدين في حياة الانسان حقيقة أيمانية بما وراء الطبيعة، ملازمة غير مفارقة للوجود الانساني، طالما هناك توالد وتوليد مستمر لتساؤلات يتعّذر الاجابة عليها بالقدرات المحدودة العقلية للانسان، ويفرضها الايمان الغيبي كمسلمّات تريحه نفسيا.

كما اشرنا سابقا أن العديد من الظواهر الحياتية والطبيعية المحيطة بالانسان، هي ظواهر وحقائق كانت وستبقى مستعصية الحل مع الانسان، تلازمه عبر الاجيال، ويصعب النفاذ الى جوهرها، واستكناه ماهيتها وتحليلها بوسائل العلم او المنطق الفكري والفلسفي، او حتى باسلوب الاستدلال العرفاني التصوفي الذي يتخطاهما – اسلوبا العلم والمنطق – ورغم هذا التقدم العلمي الهائل الذي نعيشه ونشهده، في ضروب الحياة المعاصرة، كان تقدم العلم ولا يزال موازيا لبقاء الدين خارج حيّز اهتماماته واشتغالاته، وقطع العلوم شأوا متقدما جدا في فك الكثير من مغاليق وشفرات الوجود وألغاز الحياة المحيّرة، فلا زالت قدرات الانسان العقلانية والمنهجية محدودة وقاصرة في مواجهة مشكلات وتعقيدات الوجود الميتافيزيقي للانسان، والسير ضمن نسبية الامكانات في سبر أغوار الظاهرة الدينية الملازمة للانسان، التي ترسبّت في اعماق الوجدان الثقافي والاجتماعي والسلوكي على مر الاجيال .

أن محاولة فتح مغاليق المطلق الديني هو (أرادة وعجز) هو ارادة طموحة بلا حدود عندما يجد الانسان في الدين نوعا من الراحة والسكينة النفسية من جهة، وتقاعس وعجز وتراجع في أشغال الذهن بتساؤلات صعبة عصّية على التفسير والاقتناع لكنها تتلبسّه لا يمكنه الفكاك منها كما لا يمكنه مجاوزتها من جهة ثانية.

فارادة الانسان وأمنياته في تحقيق غير الذي بالأمكان تحقيقه والوصول اليه، يجده مجسّدا في قدرات وصفات الخالق والأيفاء بتحقيقه وتطمينه، والانسان يرتاح أنه يدفع بجميع متطلباته المحمّلة بالامنيات والتي يفتقد حضورها الارضي في حياته، ويجدها متحققة ايمانيا نفسيا في أماني اعتقادية انها ممكنة التحقيق والتي في طي الغيب التعويضي المتخّيل لحياة ما بعد الموت . وفي هذه الحالة يتراجع عجز الانسان المتشكك الاقتناعي في عدم امكانية تحقيق الأرضي، الى رضى نفسي تسليمي في دفع واحالة جميع حرماناته الارضية الى مطلق الهي يضطلع تأمين تلك الحاجات .

الدين والنقد:

الدين في قدسيته وتعالي ثوابته، جعل من ارتباط النقد الدنيوي – الانسانوي لفكر الدين الاجتهادي، استحالة تحريمية، وممارسة مقموعة لا معنى لها في حضور تابوات تحريم قاطعة مستمّدة من صفات المقدّس، التي تجعل المساس بأي مفردة دينية هي المساس بصفات المطلق الالهي المعصومة العظيمة بلا حدود، في امتلاكها قدرة وارادة الحياة والافناء، ومحاسبة الفرد بالعذاب والثواب لكن بوسائل دنيوية تقوم على فتاوى الفكر الديني .

امام هذه المعضلة وغيرها نجد أن التديّن في تحريمه النقد عمد الى اخراج العلاقة الايمانية بين الخالق والمخلوق من فردانيتها السوّية الصحيحة المحكومة بالثنائية التعّبدية الايمانية، ومن شخصانيتها في أن الدين هو علاقة روحانية تربط الانسان

بخالقه فقط، تخص الانسان (النوع) وليس الانسان المجتمعي الفاني، التي جرى اخراجها وحرفها الى/نحو العلاقة الايديولوجية السياسية والتعبدية التي تسوق المجموع القطيعي المنقاد بأسم الدين.بمختصر العبارة أن التديّن الاسلامي السياسي بات اليوم اقصر الطرق للهروب من تساؤلات العقل في تغييب عوامل الحداثة والحضارة من حياة الانسان العربي.

ان العلاقة الدينية الفردانية في انتظامها بالخالق روحيا، هي العلاقة التعبدّية الصحيحة والسليمة، قبل تحريفها ونقلها الى فضاء المجتمع المعبأ بايديولوجيا ألدين السياسي، التي أخذت دور الوسيط والوصي على أيمان الفرد وعلاقته بالخالق.

وبذلك تمت مصادرة وتغييب شكل و المعنى التعبّدي الديني الذي يخرج على وصاية ورقابة وسلطة ايديولوجيا الدين. وكذلك مصادرة أدنى حد وحق في النقد الديني. حين يراد فهم او توضيح او فك شفرات بعض الممارسات المصاحبة للطقوس الدينية، وأجتهادات تفسيرات الفكر الديني، التي تجابه بالتحريم القاطع المقترن بانزال العقاب الصارم، وفي الأحالة الى مرجعيات كهنوتية باسم المطلق الذي تنعدم امامها المساءلة النقدية او الانتقادية في أبسط صورها ومعانيها.

الايديولوجيا الوضعية السياسية الدينية الاسلامية تستمد مقوّمات حضورها الديني وتأثيرها وأنتشارها، من الأحتماء بالوعي المجتمعي المضّلل المتخلف والمعبأ بايديولوجيا التسليم الدوغمائي والغنوصي المطلق، وفي تكريس المهيمن الغيبي المسّطّح في قصور فهم الدين فهما صحيحا يجاري متطلبات وروح العصر.

أن في العقلانية النقدية أن حق لنا التعبير، لبعض المظاهر والسلوكيات والممارسات الدينية المنحرفة، نصطدم بالمباشر بجدار المطلقات الدينية وحرمة وعصمة نقدها، كما نصطدم أيضا بالأحتمائية النفاقية الكاذبة مجتمعيا المساقة والمعبأة بهستيريا ايديولوجيا التدّين السياسي المنحرف.فتكون هذه الحماية الكاذبة المنافقة للدين جمعت مابين حماية الدين التعبوي المؤدلج مجتمعيا، والاحتماء بعصمة الروحي المطلق في تجريم وتحريم أن يمسّه أي نقد او انتقاد، في ادانة سلوكيات منحرفة في الفكر الديني السياسي.

لذلك نجد بقاء وتطاول البقاء لثوابت ومطلقات الفكر الديني راسخة ومتجّذّرة في حمّى التحريم وتحت جبروته القمعي، تسير بالتوازي مع سريان وتبدّل وتغيّر الحياة والعصور من حولنا، التي تضع الانسان في صلب التساؤل الدائمي بلا جدوى عن اسباب تخلفه وتغييبه عن الحياة المعاصرة، وتملي عليه عقم المراجعة النقدية ولا معناها وانعدام جدواها.

عصرنة الدين/ الاستحالة والتحقق:

اشكالية الديني المقّدس مع الارضي المدّنس، أصبحت اليوم هي اشكالية التقاطع أيّهما يقود الآخر، ولمن تكون الأرجحية في الأعتماد أو الأنقياد .؟!

أنها اشكالية التقاطع المفروض بقوة وسطوة الحياة المدنية والمتحضّرة، وأن المأزق الذي يتقاذف الانسان العربي المسلم يتمثل اليوم في مواجهته اشكالية الديني في الحياة، في تساؤل اصبح اكثر مشروعية، هو كيف يستطيع هذا الانسان أن يجد او يبتدع في الدين (معاصرة) لاتتقاطع مع (ثوابت) الديني السماوي والفكر الوضعي الديني معا؟، وهذا الاخير الفكر الوضعي المؤدلج يمانع وبشّدة وبمختلف الطرق أن يخلي دوره في وصايته على الدين، أمام رغبة الانسان العربي المسلم سعيه جعل المعاصرة الدنيوية (دينا) آخر في الحياة، او مرادفا لدين المقدس المطلق يعيش معه ويوازيه .

أشكالية الروحاني الديني مع الارضي الدنيوي الذي تفرضه الحياة المعاصرة، في الانسان الذي يرغب فهم الدين عصريا هو بالضرورة الحتمية سيكون في مواجهة المتديّن المتطرف الذي يشهر سيفه على الدوام وفي كل الاحوال وبأبشع صور الهمجية والاجرام والتخلف، في محاسبة كل من يجرؤ على التساؤل او الاستدلال لمعان معرفية تخص انحرافات الدين المسيّس . وأن كل ممارسة تحمل صبغة الاسلام الديني يجب أن تخرج من تحت عباءة وهيمنة النص الوضعي المتطرف لايديولوجيا الدين السياسي، وفي الاجهاز على كل تطلع يروم جعل الدين خارج مجرى التقاطع مع مجرى الحياة المعاصرة .

وأقصر الطرق لجعل الدين ثوابت، انتقامية جاهزة، تستمد منها وتتخلّق عنها ايديولوجيات سياسية متطرفة وغير متطرّفة، هو في ممارسة عصمة ما يراد أن يساق ويساس به المجتمع خرافيا، على وفق مسّلمات كاذبة متخلفة تنتزع منه تسليما خادعا. متقاطعة دينيا مع روحية العصر وتحديث المجتمعات العربية الاسلامية.

من هنا نجد أستحالة الجمع بين الرغبة في عصرنة الفكر الديني الى جانب عصرنة الحياة، وأن هذا التقاطع سيستمر لأستحالة خروج روحية العصر وتوقفها عن مسارها الطبيعي في التقدم الى الامام، امام استحالة اخرى تتوازى معها وتقاطعها ممثلة في ثبات وتخلف الفكر الديني الوضعي المؤدلج سياسيا.

التبشير الديني بالعوالم الاخرى:

أن التبشير الديني بجنّة وعالم سعادة وحياة ما بعد الموت، يلبّي جميع الاماني المكبوتة عند الانسان في حياته الأرضية، والتي حرم منها والاستمتاع بها، وفي أشهاره التعذيب الجسدي والنفسي على الذات في نبذه طموحات ورغبات النفس الامّارة بالسوء، التي جعلت من الانسان العربي المسلم، كينونة وجودية طارئة خالية من أية قيمة انسانية فاعلة بالحياة، سيجدها متحققة في نيله ثواب الآخرة، وان يكن تحقيق هذه الاماني المغيبّة تشي بتعويض نفسي مخاتل ومنفصم.

أن مصدر أختلاق يوتوبيات سماوية، وأخرى أرضية هو الانسان وحده لا غيره، وتأتي توصيفات الدين لأجواء وسعادة تلك العوالم اليوتوبية تعويضا، عن بؤس وشقاء الانسان بالحياة، وتعميقا استلابيا لأي قيمة ارضية تعطي الحياة معنى ان تعاش، أمام طموح الحصول على جنان الخلد في السماء الذي لا يمكن تحقيقها الا في أعدام حياة الارض.ولا يقتصر التبشير بعوالم السعادة في السماء لما بعد الحياة على الارض دينيا فقط، بل هناك تبشير خلق يوتوبيات سعادة ارضية مصدرها الانسان ايضا، كما سعت له المفاهيم والعقائد (الاشتراكية)، في محاولتها انزال جنة السماء الى/فوق الارض. أو خلق عالم يوتوبي آخر على الارض بمنطلقات دينية ايضا، لا علاقة له بيوم القيامة ولا بحياة اخرى بعد الممات، كما تبشّر به الديانة البوذية والوثنيات وتسعى تحقيقه على الارض.

كما اشرنا سابقا أن العالمين الافتراضيين، جنة السماء ويوتوبيات جنان الارض المفقودة بدايتهما ونهايتهما هو طموح الانسان على الارض والتخلص من شقاء الحياة، وحيرته في الوجود والبحث عن معنى الحياة. لكن يبقى الفرق جوهريا بين جنّة الدين في السماء، ويوتوبيا الحياة على الارض، في تطمين حاجة الانسان للسعادة والراحة الابدية، فأمام استحالة تحقيق الانسان حلم السماء على الارض، بوسائل ايمانية معجزة، يصار الأمر في بحث امكانية تحقق جنّة الانسان على الارض بقدرات انسانية وجهود واضحة ليست غيبية، ولا خارج تصورات الارضي، وتفكير وفعالية الانسان العقلية، وقدراته العملية. والعديد من يوتوبيات الارض التي اخترعها الانسان وسعى اليها، لا تخرج عن مديات الامكان في التحقق ولو جزئيا.فرق آخر يمكننا ذكره بين جنّة السماء ويوتوبيا الارض، ان الايمان الغيبي في جنّة السماء بعد الممات، تشلّ القدرات الممكنة للانسان جسديا وروحيا وتقعده عن العمل المنتج الجاد في نيل الحياة السعيدة على الارض واعتبارها نعمة زائلة وخادعة تصرف الانسان عن طموحه في السعادة الابدية التي تنتظره في السماء.

الدين بين الفطرة والتسييس:

الدين في قدسيته المتعالية وثوابته المستمدة من وحدانية الخالق وقدراته غير المحدودة، التي وردتنا عبر الرسل والانبياء وقصصهم واحاديثهم وتصرفاتهم وكتبهم السماوية المنزلة عليهم بالوحي او الألهام، وما تحمله من تشويهات طارئة عليها، ومبالغ فيها، كل ذلك جعل من الافكار الدينية المتعالقة معها بشروحات واضافات وتفسيرات غائية، تكريسا لظاهرة دينية خرافية منحرفة متناسلة الحضور عبر الاجيال.

هذا الموروث الديني الكبير له دعاته ومريدوه ومفسّروه وشارحوه، ويتنازع هذا الموروث تيّاران، احدهما اراد نقل جميع التفسيرات والاجتهادات الدينية بما يعمّق الايمان الغيبي، بأن الدين علاقة (فردانية) روحية تربط بين الخالق وعبده ولاتحتاج الى وسائط بينهما من مجتهدين ودعاة ورجال دين، وحكام اوصياء على الدين مستبدين طغاة، الا فيما يُشكِل ويلتبس على المتديّن في مسائل تحتاج الى فتوى وتشريع يسّهل أمر الناس في دنياهم كالزواج والميراث وقضايا الاحوال المدنية .هذا التيار ومنذ اعلان الخلافة الراشدية كان يروم تغليب الاجتهاد الديني في الحياة على (الدولتي)الحاكم - السلطة للحياة . يقابله بالضد منه من يجدون في الدين نظام حكم ينقاد الديني وراءه في الحياة ويدعمه سياسيا، ويسخّره لمقتضيات وضرورات الحكم الانتفاعية، بمعنى ان الأولوية للحكم الذي يسحب وراءه الدين كتزكية وتعبئة له، الذي يستمد مشروعيته ومقبوليته من فكر الدين والاجتهاد في تفسيراته المتعددة حسب مقتضيات الحال وضرورات الحكم، بل حسب مقتضيات الحاكم المستبد الواحد فقط لاغيره، الذي يقطع رؤوس معارضيه بسيف الافتاء الديني في اباحة وتمرير كل عمل يريد تنفيذه الحاكم في رعيّته، وتحت شعار مانع قاطع انه لادين في معصية الحاكم .وان ايديولوجيا التدين السياسي الضال هو في طاعة ولي الامر.

هذا الشكل المنحرف من الحكم بأسم االدين جرى تداوله عبر عصور طويلة من ظهور الاسلام، الى ان استقر به المقام اليوم في انشاء احزاب سياسية دينية تحمل ايديولوجيا الدين الذي تستمد حضورها الحاكم من مصدر السياسة تقود الدين، ولايقود الدين السياسة لا في الحكم ولا في الحياة.

أصبحت تلك القراءات المنحرفة للدين تكريسا لنوازع الانتفاع الدنيوي في تسويق نفسها كايديولوجيات دينية تحتمي بارهاب الدين، الذي تفهمه وتفسّره حسب مصالحها، لاحسب مصالح الناس في الدين والحياة، وبحسب رفاهيتها في تسويق وافشاء التخلف والفقر والحرمان للناس باسم الدين . لا بحسب حاجة الناس لدين الخق والعدل و المساواة.

كيف يكون الدين حاجة مجتمعية مؤدلجة في حين هو في جوهره حاجة فردانية ايمانية فطرية ؟!

ذلك تم و يتم بنقل الدين من طقوس عبادية تربط المتعبّد بالخالق الى جعل الدين ايديولوجيا سياسية مجتمعية بضوئها وبها يصار الى تحديد مصير الانسان على الارض قبل السماء . ولكي يكون الدين عامل اسعاد ايماني للمجتمع في الحياة، يجب ان يصاراعادته الى فاعليته الفطرية الاولى، كونه تفسيرا للحياة وموقفا ايجابيا سلوكيا واخلاقيا منها، من قبل الفرد المتديّن وليس من قبل اجماع الجماعة المخدوعة والمضّللة بمقتضى ايديولوجيا الدين .

أن مجتمعية التعبئة الدينية في ايديولوجيا التديّن المسيّس التي انشأتها مرجعيات تمدّها باسباب البقاء، عملت على تخريب العلاقة الصحيحة في معادلة ثنائية الخالق والمخلوق، واخرجت الدين من فضاء الفطرة الايمانية الاصيلة الى مفاصل الحياة التي تجعل من الدين وسيلة حكم لحكام يمتهنون السياسة والافساد في الارض.

 

علي محمد اليوسف/ الموصل

........................

هامش: (1)، (2)(3) دكتور نبيل بن عبدالطيف، موقع مؤمنون بلا حدود، الدين بين المطلق والانساني ص9

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم