صحيفة المثقف

داء الملوك

منير لطفيكما انحسرَت النُّظُم الملَكيّة ولم يَعُد لها سلطان سوى على بعض الدول هنا وهناك، فقد انحسرت فكرة المَلَكية عن مرض النّقرس ولم يَعُد مرضا للملوك كما هو شائع ومعروف؛ إذْ قرع بعصاه مفاصلَ الأمراء والنبلاء والعمّال والفلّاحين على حدّ سواء، فاندحرَت أمامه الطبقيّة اندحار المَلَكيّة الحاكمة أمام الجمهورية الحاكمة. ومَردّ ذلك إلى تغيُّر ظروف المعيشة وتبدُّل العادات الغذائية، وما تلاهما من انتشار البدانة وأمراض الحداثة بين الطبقات الوسطى والفقيرة، والتي بدورها تَستدعي داء النّقرس على عجل. وفي القاموس يُقال (نِقْرِس) بكسر النّون والرّاء، وليس بفتحهما كما اعتاد العامّة والخاصّة على حدٍّ سواء، ويُقال طبيبٌ نِقرس ونِقريس أي ماهر حاذق، ورجلٌ نِقرس أي داهية.

وهو مرضٌ ذو باع طويل يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد؛ إذْ يُعزَى اكتشافه إلى مهندس الطبّ أبقراط، وعُرف وقتها بمرض عدم القدرة على المشي. وفيه تلتهب المفاصل جرّاء ارتفاع نسبة حمض اليوريك (البوليك) في الدم ثمّ ترسّبه في الأغشية الداخلية للمفاصل على هيئة بلّورات، ويعود هذا الارتفاع إمّا إلى خللٍ في التمثيل الغذائي يؤدّي إلى إنتاج كميات كبيرة تفوق قدرة الجسم على طرده ودحْره، أو إلى اعتلال الكُلى وعجزها عن التخلّص من نفايات عملية الأيْض (التمثيل الغذائي). وحمض اليوريك هو أحد النفايات الناتجة عن أيْض البروتينات والبيورينات، وفي الظروف الطبيعية يعمل الجسم على تصريفه تلقائيا إلى البول عبر بوّابة الكلى (70%)، أو إلى البراز عبر بوّابة الأمعاء الغليظة (30%). وفي الوقت الذي تبلغ نسبتُه بالدم 2.4مجم/دل في الإناث، فإنها تزيد قليلا في الذكور لتبلغ 3.4-7مجم/دل؛ وهو ما يفسّر كثرة الإصابة بالنقرس بين الذكور عن الإناث، خاصة في مرحلة ما قبل انقطاع الطمث.

وبينما يُعدّ ارتفاع حمض البوليك عامل خطورة للإصابة بالعديد من الأمراض؛ مثل متلازمة التمثيل الغذائي (السكّري وارتفاع ضغط الدم وزيادة نسبة الدهون والسمنة)، والسرطان، وأمراض العظام، وحصوات الكلى، فضلا عن مرض النقرس؛ فإنّ هنالك عوامل خطورة تمهّد لهذا الارتفاع وتدفع به قُدما إلى الأمام؛ مثل السمنة وقصور الغدة الدرقية والفشل الكلوي والصدفية وتَعاطي الكحول، وكذلك بعض الأدوية مثل الأسبرين وبعض مدرّات البول والعلاج الكيماوي. هذا بالإضافة إلى الحِميات القاسية، والإفراط في تناول الأطعمة الغنيّة بمركبات البيورين؛ مثل الكبد والكلاوي والقلوب، واللحوم الحمراء، وبعض المأكولات البحرية، والبقوليات، والمكسّرات، والصودا المحلَّاة، ناهيك عن العامل الوراثي الذي يسجّل حضوره في العديد من الأمراض ويتكفّل بنقل الداء من جيل إلى جيل.

وغالبا ما يَضرب النقرسُ ضربته تحت جنح الليل، ويهاجم مفصلا واحدا لا غير؛ فيشعر المريض بألم حاد ومباغت، يستمر لبضعة أيام قبل أن يرحل على وعْد بإعادة الكَرّة من جديد. وفيه يبدو المفصل وكأنّ جمرة نار تختبئ في حشاياه، إذْ يَتورّم ويَحمرّ ويَسخن وتنعدم حركته. ومع أنّ مفصل إبهام القدم هو الضحيّة الأبرز، إلّا أنّ هذا لا يمنع المرض من المرور على مفاصل الكاحل أو الركبة أو المرفق أو الرسغ. وعادة ما تكفي تلك الأعراض للوقوف على تشخيص المرض، بجانب فحص نسبة حمض اليوريك في الدم والبول، والتحرّي عن سلامة وظائف الكليتيْن، وتصوير المفصل بالأشعة السينية أو المقطعية أو بالرنين المغناطيسي، وربما سحْب عينة من سائل المفصل الزلالي وفحصه مجهريا للبحث عن بلّورات أملاح اليورات بشكلها المميّز والذي يشبه الإبر المدبَّبة الطرفيْن. ومعلوم أنّ المفاصل ليست إلّا نقاط التقاء تفصل بين نهايات العظام والغضاريف؛ فتمنع احتكاكها وتآكلها، وتمنح ميكانيكية الجسم الانسيابيّة والمرونة، ولولاها لكنّا قوالب إسمنت أو حديد، ولما تمكّن أحدُنا من الجلوس أو الانحناء أو الالتفات! ولهذا تتوزّع في كلّ أنحاء البدن، ويربو عددُها على المئتيْن، وتتنوّع حجما ووظيفة. 

أمّا العلاج؛ فيهدف إلى هزيمة الألم، والقضاء على الالتهاب، وتَفادِي تلف المفاصل. ويتضمّن الأدوية المضادّة للالتهابات، مدعومة بكمّادات الثلج حول المفصل المصاب. بينما ترتكز الوقاية على أدوية تخفِّض مِن نسبة حامض اليوريك في الدم؛ عبر عرقلة إنتاجه، أو منع إعادة امتصاصه وتيسير طرحه عن طريق الكليتيْن. مع ضرورة الإقلال من الأطعمة الغنية بالبيورينات، وتلافي عوامل الخطورة التي تُسهم في زيادة الحمض، وشرب الماء بكميات وفيرة. وهو ما يعني أنّ قافلة علاج النقرس تسير على قدميْن؛ إحداهما الأدوية طويلة الأمد، والأخرى العلاج الذاتي عبر تعديل النظام الغذائي ونمط الحياة.

وبالرجوع إلى عاشر سلاطين الدولة العثمانية، المعروف بسليمان القانوني (1494-1566م)، والذي خطّت يدُه ثمانية مصاحف للقرآن الكريم لا زالت محفوظة في المكتبة السليمانية بإسطنبول! نجده أحد أبرز المشاهير الذين عضّ النقرس مفاصلَهم ونال المرضُ منه وطره، حتى نصحه الطبيب بالراحة، وألحّ عليه ليخفّف من الخروج على رأس جنوده الذين فتح بهم الممالك الأوروبية ووضع يده على أعظم مدن وعواصم العالم آنذاك، حتى وصلت الدولة العثمانية إبّان سنوات حكمه الست والأربعين إلى أوج عظمتها وأقصى اتساعها، فزادت من ستة ملايين كم مربع إلى تسعة عشر مليون كم مربع. ويبدو أنّ المرض كان وراثيا في آل عثمان بسلاطينهم الستّ والثلاثين، ودولتهم الباذخة التي حلّقت لستّ قرون في سماء التاريخ؛ إذْ أُصيب به المؤسّس عثمان أرطغرل، وكذلك السلطان محمد الثاني الملقَّب بالفاتح. ومِن الجدير بالذكر أنّ أمير الدولة الغزنوية (محمود بن سبكتكين) هو أوّل مَن حمل لقب سلطان في الدولة الإسلاميّة.

والواقع أنّ هؤلاء السلاطين ليسوا إلّا ثلّة ضمن مشاهير كُثر نزل بساحهم المرض؛ أمثال الملك هنري الثامن، والعالِم اسحاق نيوتن، والرحّالة كرستوفر كولومبس، والرئيس الأمريكي توماس جيفرسون. فضلا عن الشاعر الروماني إينيوس (239-169ق م) الملقَّب بأبي الشِّعر الروماني، والذي عانى مرارا من نوبات ألم اجتاحت  مفاصل رجليه، ولكنّه وعلى عادة الشّعراء الذين يحسّون ما لا يحسّه غيرهم ويرون ما لا يراه سواهم؛ كان ممتنّا لهذا الألم الذي ارتآه سماءً لوحْيه وفتاةً لإلهامه ومِدادا لشِعره، فنظَم على وقْعه قصائد خلّدتْه على مدار الزمن، وكأنّه بذلك يُعيد على مسامعنا مقولة الحكماء: "مِن عوائقِنا تتولّد قوّتنا"، ثمّ يُؤمِّن على قول الشاعر ألفريد دي موسيه: "لا شيء يجعلنا عظماء مثل آلام عِظام"، ويترنّم مع أمير الشعراء شوقي بقوله:

"ومُتِّعتُ بالألم العبقري،،،وأنبغ ما في الحياة الألم"

وقد ذكر الموسوعي أنيس منصور ضمن كتابه (في صالون العقاد)، أنّ الصحفي الذائع الصيت علي أمين كان من مشاهير مرض النقرس، وأنّ نوبة الألم كانت تجتاحه بعنف حتى لا يقوَى على لبس الحذاء، ويُضطر عندها للذهاب إلى دار أخبار اليوم حافيا! وفي هذا كتب يوما قائلا: يا ربّ لا أريد عمرا وإنما أريد صحة، فالعمر القصير أرحم من المرض الطويل.

جدير بالذكر أنّ هنالك نوعا من النقرس يسمى النقرس الكاذب، يعطي أعراضا مشابهة للنقرس ولكنها أقل حدّة، ويصيب كبار السنّ من الرجال والنساء، ويَنتج من ترسُّب حبيبات الكالسيوم في المفاصل والأنسجة المحيطة بها، ولا علاقة له بقائمة الأغذية التي تُسهم في حدوث مرض النقرس.

***

بقلم: د. منير لطفي

طبيب وكاتب - مصر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم