صحيفة المثقف

الهاربان (2 و3)

قصي الشيخ عسكرمن حسن حظك أن الممرض الذي لم تدرك اسمه خلال سنوات طويلة كان تلك الليلة هو الخفير في غرفة الطواريء.لاينكر أنه أنقذك لأنك من بلده أو لأنه لم يكن مقتنعا بأحكام الإعدام التي تنفذ بمن يدانون كونهم جواسيس، ولعله كان يبحث عن عذر ليهرب ويغادر المكان.مجرد عذر..أمور كثيرة غابت عنك، ولم يخطر في بالك أنه تحين الهرب واقتنص الفرصة عبر مأساتك. الباب مغلق عليك.. وأنت تنتظر موتك ولا تقدر على أن توقف شفتيك عن التمتمة..الساعة غائبة عنك الآن منذ أن دخلت الممر الطويل في قسم الطواريء واستلقيت مادا ذراعك التي تحسستها أنامل الممرض..

مد يدك حيوان " وأردف الحارس" لو رجع الأمر إليّ لسحبت دم أي خائن ورميته إنه نتن قد يلوث دم الأبطال الجرحى الذين يضطرون إليه!

وصاحبك الممرض يضغط بإبهامه على وريدك الأزرق يطلق همهمة ويقول:

تمام.

خفاش بوجه آخر..

الممرض مثلهم.. في عينيه شفقة.ذو ابتسامة خجولة يسحب دما من أي ذراع تمتدّ إليه.. دموع تماسيح.. كيف تصورته تلك اللحظة خفاشا؟لعله جناح الموت الذي أفقدك صوابك..في بعض الحالات تشعر بالنعاس..بالغثيان تهرب من حقيقة الموت الموعود بها وإهانة الحارس تعيدك إلى رشدك.. كل مرة تبرعت بالدم يقدم لك بواب المكتب قدح شاي كبيرا يعيد إليك نشاطك المهدور فهل تكفي هذه الليلة قنينة واحدة؟ ثم يهز رأسه وتلتقي عيناك بعينيه، فيدير وجهه نحو الساعة وكان الدم ينز في الوعاء مثل شلال مكتوم لقيه منحدر ذو قعر سحيق فلاذت عينك بساعة الحائط كأنك تهرب من دمك وغلظة الخفير.. كانت تشير إلى التاسعة، الساعة الرابعة قبل طلوع الفجر يوضع كيس حول رأسك.. وتوجه رصاصات إليك.. كنت تترنح في مشيتك إلى غرفة حبسك بوجه شاحب.. وكان الدوار يغلف كل شيء حولك بالصفرة.. الممر الطويل المعتم والغرفة والباب..الدنيا صفراء بعينيك..وصاحبك الممرض في ذهنه شيء ما ذهب إلى غرفة الحارس الذي بادر بالكلام:

رفيق بعد ساعة على موعد الشاي

فقال بابتسامته العريضة:

تعرف أن الشاي هو العلاج السحري الذي نتغلب به على الليل!

شو اليوم رفيق صاير شاعر

ثم غير الموضوع فجأة:

ماقصة هذا الرجل؟

هذا واحد ابن كلب جاسوس للعدو وجدوا عنده عملة ومراسلات أخي مستمسكات تعرف مخابرات المنظمة واعية ومايفوتها أي شيء!

راحت أذناك تتابع حديثهما وخانتك الجرأة في أن ترفع صوتا تعلن براءتك.. من دون أن تهان..ستثير غضب الحارس فيلعن أمك وأباك وساعةً ولدتك أمك فيها..أنت بين حالتين.. معصوب العينين فتدان بالموت..ومبصر تسمع سبابا..ومابين التاسعة والفجر شوط يبدو قصيرا في مكان وأكثر طولا في زاوية أخرى من هذه الدنيا الملية بالغرائب.

معقول!

بس ولايهمك أقول لك أنتم العراقيين شجاعكم شجاع يرعب الأسود وجبانكم جبان يخاف من خياله..من الهواء.

وانا رفيق أبو العبد ماهو رأيك في؟

أنت من الناس الأكابر!

وهاهو بين مصدق ومكذب فيك، زاده شكا في كونك جاسوسا، أنه سمع تهويمة من شفتيك اختلطت عليه على الرغم من أنه يشك في أن العظام تجتمع مرة أخرى.. في التراب بعد سنة أو أكثر يتساوى الجميع.. يصبحون طحينا: الجاسوس والشريف الغني والفقير.. الملك.. العبد..فهل تكفي بضعة نقود ومستمسكات لتصفعك بالعار، وحيره أيضا صمتك إلى درجة الشفقة عندئذ قال كأنه التقط الفرصة المناسبة:

مادام موعد الشاي بعد ساعة مارأيك تشرب العصير معي؟

وغادر غرفة الحارس إلى غرفة الفحص، فاجتاز السرير والممر الضيق إلى نهاية المستودع حيث الثلاجة. أحضر سائلا أخضر ذا نكهة حلوة معطر بالنعناع، وارتقى ببصره نحو الرف المقابل لموضع الثلاجة حيث كيس بودر.. ملعقة واحدة منه خالطت العصير... هذا كل مافي الأمر مغامرة تكاد لو انكشفت تطيح برأسه..وأنت موقن بموتك قبل الفجر..كان الحارس يتلذذ بالكأس ويقول:

لذيذ هو هذا الشراب!

فيرد عليه صاحبك ببعض من الشفقة :

ألف ألف صحة!

كأني لم أشرب مثله من قبل.

ثم بعد لحظات بدا عليه التعب والإرهاق.. قال وهو يتثاءب:

رفيق سوف آخذ غفوة ثم أصحو وأعمل الشاي

مابك يارجل مازال الوقت مبكرا

يبدو أني متعب.

ربما أثقلت على أم الأولاد خلال النهار قبل مجيئك!

أووه أين ذهب فكرك

قل ماذا تفعل طول النهار

الأولاد في البيت

أليسوا في المدرسة

فرد وهويتثاءب ويلوي الكلمات ليّا:

من سوء حظي أكثر من معلم مصاب بالإنفلونزا قالوا للأولاد لاتأتوا من يوم أمس واليوم وغد...

كان يحسب حساب الوقت.. كل دقيقة يمكن أن تكون برصاصة.. الدقائق ممكن أن تتحول إلى قرون والسنوات الطويلة إلى دقائق.. وهاهي صورة الجبل ترتسم في ذهنه خلال الظلام.. في أول يوم رآه من نافذة المختبر وسراب الضوء يغطيه فظنه بحرا وديعا مسالما ثم طرد الفكرة من رأسه..وقتها لم يفكر قط أن يشجع أحدا على الهرب عبر ذلك المكان.. عملية أقرب إلى العبث..كان في ذهنه الهرب وهو قادر على ذلك يمكن أن يذهب إلى غرفته ويغادر إلى البلد المجاور من دون أن يشعر به أحد.. لكنه بهدوء أعصابه ، أحب أن يكون ذلك مثيرا..نعم أراد أن يفعلها بصورة تثير الجدل.. كثير غيره دخلوا منظمات وتركوها.. لو غادر المكان من دونك لما سمى نفسه هاربا.. بل هذه المرة أصر مع نفسه على أن تسبقه كأنه كان ينتظرك وينتظر هذه اللحظة منذ سنوات.. يتلذذ بالهرب..يجد نفسه شخصا آخر ينطلق في أكثر من وقت وفي أكثر من مكان.. نصف ساعة.. مفتاحان مع الحارس مفتاح غرفته والأخرى للغرفة المجاورة غرفتك أنت.. كان يضعهما حين يغفو تحت الوسادة.. همس باسمه مرة.. وأعاد نداءه إليه.. ثم تسللت يده تحت الوسادة وخطا خارج الغرفة.. كنت تسمع هسهسة خطوات تحف باب غرفتك.مازال موعد الموت بعيدا.. وتظنه شخصا ما جاء ليسألك عن طلبك الأخير..

أترغب في شيء ؟

شيء ما يتوغل في البدن ويظل فيه إلى أن يهمد!

وهاهو الموت يرف من حولك لا أول له ولا آخر يتسلل إليك من حفيف الباب الذي راح مفتاحه يهمس ويذوب في الصمت..آخر رغبة يمكن أن تتلخّص في قدح شاي أو كأس عصير، وقد رأيت نفسك جثة في أرض غريبة ولا أحد من أهلك يعرف عنك..للمرة الأولى ترى المكان غريبا عنك مجهولا لك..حفرة مهملة لخائن يتلاشى من الذاكرة بعد مدة ثم يصبح هيكلا ينحته التراب.. ياترى أين تكون غدا في أي مكان ومن يوصل خبرك لأصدقائك..وأهلك.. لن تقع عين أحد على صورتك بين صور كثيرة في الشوارع لشهداء قضوا في الحرب فمن يقرأ موتك غيرك؟ من يسمع خبرك؟كأن هواء الغرفة يثقل على أنفاسك ولعلك تهرب من النوم، وكيف تنام ؟.بعض الثرثرة يصل إليك من هذر الحارس والممرض.. أذنك اليسرى توشوش وفتات الكلام بعد ساعة يصل مشوشا مبعثرا لاتميزه..رفيق هذا جاسوس.. والله حرام دماء مثل هؤلاء تجري بعد حين في أجساد الأبطال...كم ساعة بقيت على حياتك وماذا تطلب قبل الفجر لو سألوك عن رغبتك الأخيرة يمكن أن تلخصها بقدح عصير.أطلب أي سائل يدخل بدنك حيّا ولن يفارقك ميتا؟منذ الآن أنت ميت..ميت فهل تصرخ!

هل حلت ساعات الفجر قبل أوانها لتموت مبكرا؟

هكذا شاء حظك التعس...

حتى انفرج المصراع عن وجه صاحبك الذي سحب بعضا من دمك قبل قليل... أردت الكلام فهمس زاجرا وقال بملامح جادة صارمة:

اسمع الآن هدوء فلا تعكره تستطيع الخروج من الباب الخلفي لمبنى الطواريء وأشار بيده نحو نهاية الممر مجرد أن تعبر الساحة الواسعة المظلمة باتجاه الطريق العام سترى شارعا فرعيا هذا الدرب يخلو من الحواجز وهو طريق آمن يُسْلِمُكَ إلى منعطفات الجبل هناك سوف تجد العشرات من المهربين الذين ينقلون البضائع بين البلدين أناس طيبون سيساعدونك حتى تصل البلد المجاور.

لم تصدق أذنيك... تأكدت الآن من لهجته أنه من بلدك..مع ذلك ظننتها لعبة قذرة.. تمثيلية من الممرض الخفير والحارس.. لعبة القط والفأر.. لابد أن يكون هناك خطأ ما..وغاب عنك أن الممرض نفسه يجد هربك في هربه..حتى زجرك قائلا:

هيا لاتضيع الوقت.

فقلت شاكا:

لا أتركني هنا.

وكاد يركلك برجله:

غبي غبي هيا.

ها أنت تسمع وترى وفي آخر محاولة منك قلت:

وأنت؟

لاعليك مني.

وهم أن يأخذ بتلابيبك:

لاتكن أحمق حين تجتاز نهاية الطريق الفرعي المعتم تكون قد نجوت كون المنطقة المقابلة لذلك الطريق مهملة ولاحاجز للمنظمة فيها هيا تعجل!

لولا خوفك وشكك لقبلت يده أو جلست تطوق ساقيه بذراعيك.. لا وقت للتضرع والرجاء... لا تدع الزمن يأكلك، الآن لا يشغلك لِمَ ينقذك شخص ما لاتعرفه من قبل وربما إذا نجوت لا تلتقيه، حياتك أجمل من الفضول، حلم جميل..هكذا هي الحياة حلم تقتنصه الحقيقة، وواقع لابد منه يتحول إلى حلم جميل..فاصرخ حتى تستيقظ أو لاتصرخ حتى تبقى في حلمك الذيذ فماهي إلا ساعات على موتك المزعوم، كنت تقف مثل الإنسان الآلي فتتحرك بإشارته ولسانك مشلول.. الدهشة.. أم الذهول.. أم الصدمة ، وحين هممت بالمغادرة تأمل لحظة و هرع يحث الخطى نحو الغرفة ثم عاد وهو يحمل زجاجة و قال:

لاأظن معك نقودا فتناولت من يده ورقة ذات قيمة وأردف : هذه زجاجة عصير تنفعك في الطريق فقد فقدت بعض دمك ثم وهو يهمس زاجرا كأنه ينفض ترابا عن مريلته البيضاء:

هيا أغرب عن وجهي..أخرج لاتنس الطريق الفرعي.أغرب قبل أن يدركك الوقت.

قالها وهو لايعنيك وحدك...

وخرجت من الغرفة حاثا الخطى إلى نهاية الممر المعتم كما لو أنه هو الذي خرج.. وأسوأ ماكنت تتوقعة أن حارسا يترصدك ليطلق عليك النار توقعت أي شيء غير أن شرا لن يحدث، عبرت الساحة المظلمة من خلف مبنى الطواريء ووجدت بعدئذ شارعا ضيقا مظلما إلا من بعض فتات النور.. بدا لعينيك السكون وتجلت العتمة والستر.. ارتفعت دقات قلبك ونسيت أنك ميت لامحالة فلتجرب الهرب إن نجوت فبها والا عليك أن تنتظر بضع ساعات..كنت تسمع عن بعد أصوات نباح، ولم تدر أن نجاحك في الهرب حقق هرب صاحبك أيضا. كان يعود إلى غرفة الحراسة فيضع المفتاح تحت الوسادة حيث الخفير الذي تهجدت أنفاسه بنوم عميق لذيذ ثم بعد دقائق يغادر من باب الطواريء الرئيس إلى منزله الذي يبعد عن مكان عمله مسافة غير بعيدة وإذ دخل وجدها نائمة غير أن حركته جعلتها تستيقظ فوقف عند رأسها وقال:

هذا أنا. لاتقلقي لم تنته خفارتي بعد فما زال الليل في أوله.

فتساءلت وهي تتثاءب عن كسل:

ماذا هناك؟

لقد جئت لآخذ بعض أوراق تخص الشغل كنت نسيتها في الخزانة.

فقالت وهي ترجع إلى إغفاءتها:

لاتنس أن تغلق الباب وراءك فالدنيا ليست بخير

آمل أن تكوني بخير !

وطبع على جبينها قبلة، وانصرف إلى الغرفة المجاورة ، فلملم في حقيبة صغيرة بعض ملابسه وانتشل من فتحة مخفية وراء خزانة الملابس أوراقا نقدية وجواز سفره.. ثم تمعن لحظات في مستمسكاته التي لايشك بها أحد...استقل سيارته القديمة التي أدرك الآن فقط أنه كم كان مخطئا حين فكر أن يتخلى عنها قبل هذه الليلة.كان يضحك في سره عندما خطر بذهنه أن يبيعها..هنا السيارات في هذا البلد برخص التراب حتى حمير المهربين التي تعرف الطريق الجبلي بين البلدين يمكن أن يكون سعرها أغلى من سيارة صاحبك.كل شيء يشير إلى أن هناك بعض المحال يمكن أن يكون واقعا..أنت تحاول أن تعبر الحدود وهو يتجول نحوها بطريقة ما..وحين وصل الحدود تنفس الصعداء كان يتحسس جيبه ومستمسكاته الرسمية...ركن السيارة في شارع فرعي وسار نحو الضوء الساطع المنبثق من غرفة المراقبة بين البلدين وربما لعلك في هذه الساعة أو بعد ساعات كنت تسير في المرتفعات. كنتما تسيران باتجاه واحد هو عبر الطريق الشرعي وكانت خطواتك تتبع المهرب صاحب الحمير التي حملها بأجهزة الترانستور الصغيرة من مسجلات ومذياع وساعات غير أنكما لن تلتقيا على المدى القريب فلابد أن تمر سنوات وسنوات حتى تراه !

فهل صدقت الآن أنه كان يجد في هربك بعضا من مغامرته؟

3

حين جلست خلف المقود توقفت عن الإطراء والانفعال.. طبيعتك التي عدت إليها حين التقيت صاحبك في الضريح..صاحبك الذي كاد يشك فيك بعد أن غيرتك وغيرته السنوات والذي عرفته رغم تغير بعض ملامحه.. شعر رأسه خف قليلا ونقص بعض وزنه.. لم يبق سوى ابتسامته التي لم تراها خلال الدقائق التي التقيته فيها قبل الهرب وبعده... تلك الابتسامة التي رسمتها له في مخيلتك عبر السنوات.

الآن تكتشف أنها ليست دمع تماسيح!

كان متجهم الوجه وهو يسحب دمك، تلك طبيعته حين يباشر مع أي من المحكومين بالإعدام.. ربما هو ملله الذي يرسم الجدية على وجهه فيظنه الحارس ناقما مثله حاقدا على الخونة..أو يعد نفسه إذ يسحب دما أنه هو الذي ينفذ قتل الآخرين الذي لايمه إن كانوا خونة أم أبرياء..قلت وقد أحسست أنك خرجت من ذهولك لتجده متأملا في شيء ما ومازالت ابتسامته التي انطبعت على وجهه منذ لقاء الضريح:

هل يعقل هذا التقينا منذ سنين ومازال أحدنا يجهل اسم الآخر؟

ياصديقي العزيز هنا تجد العراقيين يتعاملون باسماء غيرأسمائهم!

أنا منذ خرجت من البلد لم أتقمص اسما آخر بل أعرف باسمي الحقيقي ، ثم من معك أنت غيري أنا الميت الي بفضلك عدت للحياة؟!

يارجل لاتقل هذا نحن من بلد واحد وكل منا يعرف حقيقة الآخر!

ياسيدي اسمي هو هو شاكر رؤوف هذا مادونته شهادة الميلاد من أول يوم خلقت فيه ولم يعجبني اسم غيره سوى أنهم في المنظمة قالوا لي رفيق يجب أن يكون لديك اسم آخر فتركت لهم حرية الإختيار عندئذ خاطبوني بالرفيق غسان، وثاني مرة يوم خرجت من هنا كان جواز سفري يحمل اسم جورج!

وانفجرت ضاحكا وعقبت :دفعة رأسا على عقب.

مسيحي يزور السيدة!

تشرفنا أنا بدران نادر

وربما لاتدري أو دريت الآن أنه مثلك لم يحمل اسما مستعارا."وقال وهو يؤكد انتماءه لاسمه: للعلم سيد رؤوف ان مهنتي الحقيقية هي التمريض لقد دخلت كلية التمريض أربع سنوات وعملت مع جراحين معروفين في العراق وبلاد الغربة.

من حسن حظي أني قابلت ممرضا مثلك " كادت يدك تفلت المقود بارتعاشة خفيفة ، وعادت ثانية" الحقيقة مشهد يبعث القشعريرة لذلك لايمكنني إلا أن أعرفك مهما تنآى الزمان ولو لقيتك بعد خمسين سنة لعرفتك وإن قست السنوات على ملامحنا.

فقال بدران يداري غشاوة عينيه أول اللقاء:

الحق كنت شاكا فيك وزاد شكي أن بصري كان يتابع الصبي المصروع قبل أن يصرخ

ياسيدي تلك بركة الضريح أنت دائم الحضور هنا؟

لاأخفيك أني لاأعتقد بكثير من الغيبيات.. ولا معجزات الأولياء لكني أجد معظم العراقيين يأتون إلى هنا مساء كل خميس فآتي وإن لم أتكلم مع أحد منهم، المهم أشعر أني أعيش بأجواء عهدتها من قبل ولايهمني إن كنت مقتنعا بها أم لا.

يُلّوِّحُ لك بأسلوب صريح أنه لايؤمن مثلك بالغيب أو هكذا يبدو من كلامه، مع ذلك فأنت متمسك به فمازلت مدينا له:

لقد جربت ضريح السيدة فنجوت من خطر أنت شاهد عليه، وقبل أن أهرب إلى المانيا بجواز سفر مزور وقفت أتضرع إليها ، فتمت الرحلة من دون منغصات، صحيح أني لا أصلي إلا في المناسبات وعندما أزور الضريح وربما في رمضان..كل ذلك تكاسل مني لكن الله يعطي الفرد منا على قدر نيته فقد اشتغلت هناك وجربت التجارة والعمل الحر وكان ربحي يزداد..

وتوقفت السيارة عند باب أحد المتنزهات. وسألك وأنتما تخطوان نحو مائدة العشاء:

متى سافرت إلى المانيا؟

بعد ستة أشهر من الحادثة المشؤومة.

من دونما أية صعوبة أو عراقيل؟

كان المحاولات سهلة حينذاك لم ينتبه إليها أحد بخاصة ألمانيا لكنها بدأت تتعقد يوما بعد يوم.تصور خلال مدة الستة أشهر اشتغلت هنا في مصنع للأحذية وبعض الأحيان بائعا متجولا في السيدة والتقيت بمعارف من الكويت وهبوني بعض المال وهكذا..

كنت تطلب كل شيء وأي شيء للعشاء كما لو وجدك تحتفي بأكثر من رجل.. لاكلفة بيننا هو في نظرك أكثر من صديق.. ربما بالغت كثيرا.فجزاء الحياة من الموت لايقدر بثمن.. وحين اتخذ مجلسه قبالك، سألك وهو يعود لابتسامته التي رسمتها على وجهه من قبل ووجدتها كما هي:

قل لي ماقصة الخيانة والجاسوسية؟

أمازلت تشكّ وبفضلك؟ من أنا لأكون جاسوسا.. لست أنت من أهل الجنوب..أنت مقاتل وهذا الذي طردته أو طردَ جدَّه جدُّك لقيك على حاجز.. قوة هائلة اجتاحت البلد، هو واحد من كثيرين، بيده رشاش وفي وسطه مسدس.. قبعة فولاذية.. وعينان ثاقبتان أسمر البشرة بين الأبيض والحنطي..أخفيت بل مزقت هوية المقاتلين وأبرزت هوية عراقية قديمة أكدتها صفرة ارتسمت عليها ذات يوم..تحدّث أحدهم فنهره، ووجه نظرة ثاقبة إلى الركاب:

أنت عراقي؟

كنت ترتجف ومازلت وفي عينيك توسّل:

نعم..؟

خفت أن تنطق أكثر.. روحك بين يديه، تضحك من نفسك.. طرده جدك فجئت إليه.. تلاحقة ليست مصادفة..وليست مفارقة هكذا هي الحياة قابلني عراقي مطرود فدفعني لقاؤه المحتوم إلى أبواب الموت..وكان لابد عليك من أن أمر بالحاجز راكبا أو ماشيا فتجده أمامك ويوم لا تجده تخامرك نشوة غامرة، عاملك بلطف فنظر إليك الآخرون بارتياب:

سبب تافه أتعتقد أن العدو بحاجة لخدماتي؟

لكن كيف وصل الأمر إلى حد الإعدام؟"وتوقف لينصرف عنكما نادل صف بعض المقبلات على المنضدة"أنا شخصيا قبل أن أسمع مقتنع ببراءتك وبراءة الآخرين ربما معظمهم لكني لاأريد أن أبعث في نفسك شجنا قديما.

تعرف حين اجتاح العدو جنوب البلد..كنت هناك.. في أثناء خروجي من المنزل وكنت أستقل حافلة مع آخرين تمعن جندي الحاجز في هوياتنا كان يسب بعض الراكبين في الحافلة وحين تمعن في هويتي وكنت أحمل واحدة تخص المقاتلين مزقتها.. سألني من أي بلد أنت فقلت عراقي وما إن نطقت حتى نادى على الجندي الآخر معه في الحاجز وتحدث معه بلغة أخرى..

قصة صدقتها أنت ولم يصدقها أحد الرفاق شككوا فيها..كان الجندي الآخر عدوي السابق صديقي الجديد الذي فرض نفسه عليّ يتكلم بلهجة عراقية سليمة. قابلني بلطف. حيث شعرت أنه عراقي أكثر مما هو عدو.. والمشكلة أنه كان يرحب بي كلما عبرت الحاجز.. ربما في داخله أنه عراقي..وفي داخله أيضا يهودية قديمة لولا جدي الذي طرد أهله لوجدتك الآن معه في بغداد أو الموصل.. أي مكان.. سامح الله جدك انت عشت هناك وتعرف أن كل فرد لابد أن يخرج من بيته مرة أو مرتين في الأسبوع ولابد أن يمر بحواجز وفي إحدى المرات كان الجندي نفسه على الحاجز.. لعن الجميع وألح علي أن اشرب قدح شاي معه قال لي قدح شاي عراقي.جاي حقيقي وليس شايا..كان يضحك فاضطررت إلى القبول.. والغريب أنه سألك ماذا تعمل؟أجبته من دون تردد: تاجر.. تاجر صرافة عملة..صراف في بغداد من بغداد أيضا قائدهم.. الرائد عباس كمحي من العمارة.. وأنت هاو للنقود..هواية جمع النقود جميلة..جمعتَ وأنت طفل عملات وأوراقا سورية وأردنية ولبنانية كنت تسأل أي سائح وزائر أي شخص تعرفه ولا تعرفه عن عملة ما حتى انقلبت هواية الطفولة إلى حرفة..

تجارة..

صرافة أناملك تلعب بالنقود:

جمع العملة.. خذ هذا شيكل احتفظ به ذكرى لديك.

أنا معك هذا الجندي في داخله صراع ربما لم ينسجم أبواه اللذين أجبرا من قبلنا نحن على الرحيل مع مجتمعهما الجديد فورث عنهما ذلك التناقض.

فهززت رأسك وقلت:

كان يهين ويشتم الآخرين في الوقت نفسه يحترمني وخلال تناولي قدح الشاي معه قال لي أتعرف أن جميع القادة عندنا لم يستطيعوا اجتياح البلد حتى تسلم القيادة عباس كمحي !

فقهقه صاحبك و قهقهت معه وتذكرت أنه أخبرك عن اسمه وعليك أن تنسى أي لقب وضعته له قبل ذاك، وقال وهو غارق في نشوته:

ملعون!

فرددت على الفور:

من غريب المصادفات أني التقي في عمق الأزمات بعراقيين طيبين!

ومازح قليلا:

لاتقل لي الضريح وبركته بل قل لي عن النقود قيل إنه أعطاك قطعة أو قطعتين تافهتين لا تعدان دليل إدانة أما في المنظمة فيدعون أنهم وجدوا معك شيكلات كثيرة!

هذه حدثت فيما بعد، فقد انسحب العدو من مدينة يقال إنها كانت موالية له فاغتنمناها فرصة ودخلنا بعض البيوت الخاوية فتشناها كلها ووجدنا في بعضها أشياء ثمينة فعثرت في بيت على أوراق نقدية عملة صعبة وفي بيت آخر على عملة ورقية.. عملة العدو..كل ذلك كان من حقي كل ما وجدته دسسته في جيبي. أخفيت الأمر.. من حقك.. أنت لست ملزما بتصديقي وحين عدنا إلى مقر المنظمة التقيت بمقاتلين كانوا قد رأوني مع جندي الحاجز وبعضهم تذكر أن الجندي أهان الجميع وعاملني بلطف.. كل ذلك أثار الشكوك حولي وأيدتها النقود التي عثروا عليها عندي.

ماكان يجب أن تستبقي عملة العدو.

اعترف هذا خطأ مني

سألك بفضول:

هل كانت بقية النقود والأشياء ذات قيمة؟

ليرات ودولارات وست ملاعق من الفضة وصليب كلها صادروها!!

أنا شخصيا هم طلبوني.. كانوا بحاجة إلى خدمات تمريض وكان راتبي جيد ولم أتطوع مقاتلا لأنني بالأساس رفضت حربا يخوضها بلدي وتطوعت معهم في التمريض لأنني كنت أراهم على حق!

أنا مثلك حينما رفضت الحرب قلت هناك قضية أهم:قضية الجميع العراقيين وغيرهم بل قضية العالم أردت أن أحقق ذاتي وأثبت أني لم أهرب فكان ماحدث!

وعاد رؤوف من حيث لايدري لذكرى تلك الليلة:

كنت قلقا من أن تترك الطريق الفرعي المؤدي إلى الجبل والخالي من كل سيطرة. أنا أعرف المنطقة جيدا أكثر من معرفتي بطرق العراق فلو أخذت طريقا أخر لكنت وقعت في حاجز للمنظمة نفسها!

كنت تدرك تماما أن البلد مليء بالحواجز وأنك قد تمر بحاجز لمنظمة أخرى فلا يلتفت إليك ولايدقق في هويتك بل لايهم حراسه أن تكون محكوما من قبل منظمة أخرى.فقلت تستطلع خبره:

وكيف غادرت؟

بعد هربك ببضع دقائق.. ذهبت للمنزل جلبت نقودي وجمعت بعض ملابسي في حقيبة صغيرة ثم قدت سيارتي القديمة التي كدت أتخلى عنها قبل يومين من مجيئك قدتها عبر الطريق الرسمي ولم يعترضني أحد حتى وصلت الحدود. وقلت كأنك تفاجؤه بأمر لم يخطر على باله قط:

والحارس المسكين ماذا تعتقد أنهم فعلوا له؟

أووه سيعرفون أنه كان مخدرا من قبلي وأني ساعدتك على الهرب فأقصى حد يمكن أن يكون السجن سنة أو سنتين لكن هذه العقوبة أفضل من قضية إعدام.

صدقني أنا لست حاقدا عليه. حينها فقط كنت في غيظ من سبابه لي.

هذا رجل مسكين يسمع لكن من دون أذنين!

رحت تتطلع فيه، وتنسل من جبينه كخاطر خفي.وضعت الحياة بين يديه أعدتها إلى جسده ووضعت حياة أخرى في رحم نجاة ثم سلبتها منها قد تكون نجاة والحمل والإجهاض، نجاة التي روض نفسه على ان ينساها استفاقت فلم تجده فخانتها قواها ولم تجهض.لابدّ ان يكونوا اقتحموا البيت بعدسنوات فعرفوا قصتها وحملها..

هل أجهضت حقا؟

ومرت لحظات صمت تخللها صوت مضغ ، ودوران حسون رف من شجرة وطار ليحط على شجرة صفصاف قريبة، فسألته بفضول:

هل تزوجت؟

ماذا يقول غير تلك التجربة اليتيمة التي لم تتكرر نجاة والحمل وإجهاض مزعوم والدواء الذي أحضره من المشفى لها قبل يوم.:

أنا غير مطمئن على مستقبلي فكيف بالزواج والأولاد!

وسألته باهتمام:

وهل تمارس هنا عملك نفسه!

أحيانا في المشفى العراقي ولدي محل للتسجيلات وإيجار أفلام الفيديو في السيدة.

أيدر شغلك عليك ربحا؟

لاأخفيك سرا الشغل لولا دفع الرشاوي وإسكات أصحاب الشأن لكان ذا ربح كثير هذا من الجهاز الفلاني يستعير شريط فيديو ويصادره آخر يؤجر منك جهازا ثم لا يعيده آخر يعمل في دائرة ما يطلب منك نقودا وهم يستغلون وجودنا وحاجتنا للإقامة والعمل بشكل لايصدّق.. المهم لاأحد يموت جوعا!

لكن المستقبل هنا غامض والبلاد العربية ليس فيها أمان وربما تحدث حرب أخرى قد يكون جاهلا من يظن أن نهاية حرب الخليج هي خاتمة المطاف ربما أكون متشائما!

لا هذا هو الواقع " وبعد صمت قصير"لدي صديق يعمل في ليبيا يسعى الآن ليحصل لي عقد عمل لكن المشكلة تبدو في تجديد جواز السفر إذا انتهى جواز سفري وأنا في ليبيا!

فجحظت عيناك منهشا :

والعياذ بالله ليبيا! " قبل أن يعترض" أتهرب من سجن إلى سجن آخر..هناك سجن كبير..على الأقل هنا يمكن أن تتنفس بعض الهواء النقي.

بصراحة ليبيا كانت آخر ورقة لدي قلت أعمل فيها ثم أحاول الهجرة

فنفثت الهواء وقلت وقسمات وجهك توحي بأمل جديد:

لاتفكر بذلك من حسن حظي وحظك أني التقيتك إذ أني سأسافر بعد غد أنت ستكون معي لاعليك سأدبر أمرك ولدي احتمالات عديدة.

جاءك بالجنّة فهل ترفض؟ أرض الحليب والعسل والسعادة ذلك الفردوس الذي يحلم به أهل الشرق.. لا خوف ولا مرض.. إذا لمست كفك التراب أصبح ذهبا فهل تركل النعمة من لايسيل لعابه للجنة.. ألمانيا.. إسكندنافيا..شمال أوروبا.. الناس يعيشون في عالم مخملي.. كأنهم في عرس دائم فلتترك كل شيء وراءك مثلما تركت المنظمة ذات يوم:

أرجو ألا تعدها واحدة بواحدة!

مهما أفعله فهو قليل..إسمع أنا حين وصلت أوروبا تعلمت اللغة وحصلت بعد ست سنوات على الجنسية جربت حظي في التجارة فبدأت صرافا اشتغلت في محل صرافة ثم فتحت محلا خاصا بي وتوسع عملي أصبح عندي شركة تنظيف وسوبرماركت لبيع المواد الأولية وعملت في الاستيراد والتصدير انا الآن أصدر الجرارات الزراعية إلى هنا ولكوني أعمل فبإمكاني أن أجرب احتمالين لمجيئك!

فقال لك بكل تواضع:

يمكن أن تعد كل ماتنفقه دينا أرده لك متى ماأستقر وأعمل!

فقلت مستنكرا بلطف:

اسمح لي أن اقول لك أسكت إخرس ياصديقي العزيز..وقرأت ابتسامته ثم واصلت" ياصديقي الطريق الأول أن تشتري من هنا جواز سفر وتذكرة سفر وتأتي إلى المانيا بصفة لاجيء وهم بلا شك يقبلون لجوء من يصل عندئذ حالما ترتب الدولة أوراقك أضمك لإحدى شركاتي!

هل هناك طريق بديل؟

إذا فشلت المحاولة لدي سكرتيرة شركة التنظيف وهي مغربية غير متزوجة سوف أقنعها بالمجيء إلى هنا لتعقد قرانها عليك وتنظم أوراقك بصفة رسمية كونها تعمل فهي قادرة على إعالتك مع ذلك سأوفر لك حالما تصل وظيقة عندي!

فأطلق نادر الذي كان صاحبك قهقهة انزاح معها ستار الشكليات بينكما وقال :

بس لاتكون عملت معها شيئا....

هاهو لا يتحرج.. مثلما لم يتحرج مع زوجتك.. فهل أنقذته ليقتلك فيها تردد غير أنه يقول نكتة ولا يتهمك..وإن كان بعد أكثر من لقاء راودته رغبة جامحة في زوجتك.. رغبة كبتها رغما عنه وانحدر معها في حلم لذيذ راح يقبلها بنهم.. يضع رأسه بين فخذيها العاجيين الصقيلين ويدخل في نشيج واه:

لاتسيء الظن بي ايها المجنون والله إنك مجنون لاتعرفني لكنك كدت تروح في ستين داهية من أجلي اطمئن إذا أردته أن يكون زواجا شكليا على ورق فليكن وإن اردته حقيقة فليكن أيضا أما أنا ياسيدي العزيز فرجل متزوج منذ ثلاث سنوات ولدي طفلة جميلة سمّيتها ياسمين عمرها سنتان!

ففغر نادر فاه وقال :

مبروك هل زوجتك عراقية!

لا.من البلد الذي حكم علي ذات يوم بالإعدام اشتريت لها بيتا هنا وقد اعتدت أن أصحبها معي فأبقى معها أسبوعين لأنني لاأستطيع أن أغيب طويلا دائما أقول لها ابقي شهر شهرين مثلما يعجبك!

وقال لك وقد بدا من بريق عينيه أن هناك بارقة أمل في حياة جديدة بعثتها في نفسه مثلما بعث فيك حياة جديدة بهربه الذي ارتبط بهربك:

انا الآن في وضع أقبل معه أي حل يجعلني أخرج من هنا إلى أي بلد أوروبي !

وأنا أضمن لك ذلك ثم تأملت وقلت:

أنا مسافر بعد غد سآتيك غدا الساعة الثانية عشرة إلى منزلك دعني أتحرك في الصباح وأوصي بك مجموعة من المعارف بعضهم لهم نفوذ وبعضهم لهم باع في التهريب وسوف أصحبك معي إلى منزلي لتتعرف بعائلتي اعتبره بيتك وإذا ما احتجت أمرا اتصل بالبيت ، معك رقم هاتفي في أوروبا ، اعتبر كل شيء تحت تصرفك اتفقنا وقلت ملاطفا" والله العظيم سكرتيرة المكتب لم أقبلها اعتبرها مثل أختي هل اقتنعت"

فقهقه من أعماقه وكنتما على موعد

 

قصي عسكر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم