صحيفة المثقف

عصفور الدوري

صحيفة المثقفقصائد نثر للشاعر الروسي: إيفان تورجينيف

Poems in prose

ترجمة: قحطان جاسم

***

"عصفور الدوري"

كنت عائدا من الصيد،

أتمشى على طول جادة الحديقة،

وكلبي "تريزور" يركض أمامي.

فجأة أبطأ خطواته، ثم بدأ النظر الى الأمام كأنه يتعقب صيداً.

نظرت على طول الممر، رأيتُ عصفور دوري على الأرض،

تحيط الصُفرةَ منقاره وأسفل رأسه.

كان قد سقط للتو من العش (كانت الريح قد هزت اشجار البتولا، بعنفٍ، على طول الممر)،

وجلس  غير قادرٍ على الحركةِ،

مرفرفا بجناحيه الصغيرين بيأس.

كان كلبي يقترب ببطء منه، عندما أندفع عصفور دوري أسود،

نازلا من شجرة قريبة كالحصاة، أمام أنفه تماما،

منفوش الريش، مفزوعا، بزقزقات يائسة وشفوقة،

أفرد جناحيه مرتين أمام الفكين الفاغرين ذات الأسنان اللامعةٍ.

قفز لينقذَ فرخَه؛ ألقى بنفسه أمامه..

لكن كلّ جسده الصغير كان يرتعش رعبا؛ إنذاره كان قاسيا وغريبا.

كان متهالكا من الذعر، مضحيا بنفسه –

أيّ وحش هائل قد بدا الكلب له !

ومع ذلك، لم يمكنه أن يبق على غصنه العالي بعيدا عن الخطر..

قوة أقوى من إرادته دفعته الى الأسفل.

وقف تريزوريّ ساكنا، وانسحب..

فقد ادرك هو ايضا هذه القوة بجلاء.

أسرعت وطلبت من الكلب السائب أن يتوقف،

وابتعدنا مفعمين بالإحترام.

بلى! لا تضحك. شعرت بالإحترام لذلك الطائر البطل الصغير،

لباعث حبه .

الحب، فكرتُ، هو اقوى من الموت أو الخوف من الموت.

الحب هو الوحيد المعين والمحرك للحياة.

1878 نيسان

***

"حساء الكرنب"

مات الأبن الوحيد للفلاحة الأرملة،

الفتى ذو العشرين، وأفضل عامل في القرية.

السيدة مالكة الإقطاعية، عند سماعها عن محنة المرأة،

ذهبت لزيارتها في نفس يوم الدفن، فوجدتها في البيت.

واقفة في وسط الكوخ، أمام الطاولة.

كانت تغرف بيدها اليمنى، دون استعجال،

وبحركة متناسقة، حساءَ الكرنب (يدها اليسرى متراخية وممتدة بلا حياة الى جانبها)

من قعر قدر إسوّد من السخام،

وتبلعه ملعقة بعد ملعقة.

*

كان وجه المرأة صفيقا وقاتما،

عيناها حمراوان ومتورمتان..

لكنها حافظت على صلابتها واستقامتها كأنها في كنيسة.

بحق السماء ! فكرت السيدة،

"كيف بوسعها أن تأكل في مثل هذه اللحظة..

أيّ مشاعرٍ فظة لديهم حقا، كلّهم !"

*

في تلك اللحظة تذكرت السيدة، أنّها، لبضع سنوات خلت،

عندما فقدت إبنتها ذات التسعة أشهر، رفضت وهي في حزنها،

قصرا ريفيا جميلا قرب بيترسبورغ، وقضت كل الصيف في المدينة!

في هذه الثناء واصلت الفلاحة إبتلاع حساء الكرنب.

لم تتمالك السيدة نفسها في النهاية. " تاتيانا" قالت..

أنا مندهشة حقا !  هل من الممكن أنك لا تعيرين أهمية لابنك ؟ كيف لم تفقدي شهيتك ؟ كيف يمكنك أن تأكلي ذلك الحساء !

ولدي فاسيا مات، قالت الفلاحة بهدوء، وانهمرت دموع الأسى مرة اخرى على خديها الغائرين " إنها نهايتي أيضا، بالطبع؛ أنه ينزع قلبي مني حيّة. لكن ينبغي عدم ضياع الحساء ؛ فثمت ملح فيه.

هزّت السيدة كتفيها فحسب وغادرت. لم يكلفها الملح كثيرا.

أيار 1878

***

"ثريان"

عندما اسمع المدائح عن الرجل الغني روتشيلد، الذي وهب من ثروته الكبيرة آلافا كاملة لتعليم الأطفال، رعاية المرضى، ولدعم العجزة، أبجّله ويهزّ مشاعري.

لكن حتى وأنا أوقره ومتأثر به،

لا يسعني إلاّ أن أتذكر عائلة الفلاح البائسة التي استقبلت حفيدتها اليتيمة

لتعيش معهم في كوخهم المتداعي الصغير

" أذا أخذنا كاتكا " قالت المرأة" فسنصرف آخر فاردينغ  لدينا عليها"

ولن يكون لدينا ما يكفي للحصول على ملح لتمليح قطعة خبز لنا."

"حسنا" سنأكله بدون ملح، أجاب زوجها الفلاح.

ولذا فأمام روتشيلد طريق طويل ليصل ذلك الفلاح.

July 1878

***

"اللغة الروسية"

في أيام الشك،

في ايام التأملات الكئيبة عن مصير بلادي،

أنتِ، الفن الوحيد

يا لغتي الروسية العظيمة، الحرّة  والصادقة!

بقائي ومعيني،

لكن، كيف لا أنغمر من أجلكِ في اليأس،

وأنا أرى كلّ ذلك الذي يجرى في البلاد ؟

لكن مَن بوسعه أن يفكر أن لغةً كهذه، ليست موهبة شعب عظيم !

June 1882.

***

"الاحمق"

عاش ثمتَ أحمق،

عاش لفترة طويلة في سلام ورضى؛

لكن إشاعات بدأت تصل اليه تدريجيا؛

أعتبر من كل النواحي مثل غبي سُوقيّ

خَزِيَ الأحمق وبدأ يفكر بكآبة

كيف يمكنه أن يضع نهاية لتلك الشائعات الكريهة

فكرةٌ مفاجأةٌ أضاءت عقلَه الصغير البليد..

وبدون أقل تأخير، وضعها قيد التطبيق.

إلتقاه صديق في الشارع، وطَفِقَ يمدح رسّام مشهور..

" عجيب !" صاح الأحمق، " ذلك الرسام  أنتهى منذ فترة طويلة..الا تعرف هذا ؟ لم أتوقع منك ذلك ابدا..أنت متخلف عن ركب الزمن تماما."

إرتعب الصديق، ووافق الأحمقَ فوراً.

" مثل هذا الكتاب الرائع قرأت البارحة !" قال صديق آخر اليه.

" عجيب" صاح الأحمق، استغرب انك لست خجلاً. ذلك الكتاب غير مفيد لأي شيء؛

الجميع فهموا حقيقته منذ فترة طويلة. الا تعرف هذا ؟ أنت متخلف عن ركب الزمن تماما."

إرتعب هذا الصديق أيضا، ووافق الأحمق.

" ايّ زميل رائع صديقي ن.ن.!" قال صديق ثالث الى الأحمق. " الآن، ثمت مخلوق كريم حقا !"

" عجيب" صاح الأحمق " ن.ن. وغد مشهور ! خان كل علاقاته. كل فرد يعرف هذا.

أنت متخلف عن ركب الزمن تماما !

الصديق الثالث كان مرتعبا ايضا، ووافق الأحمق وتخلى عن صديقه.

أيّا كان ومها كان الممدوح في حضور الأحمق، فلديه ذات الإجابة عن كل شيء.

بعض الأحيان يضيف بتأنيب: " وهل مازلت تؤمن بالسلطات؟

"حقود ! خبيث !" بدأ اصدقاؤه يقولون عن الأحمق." لكن أيّ عقل !

" وأيّ لسان !" سيضيف آخرون، " أوه، نعم، أن لديه موهبة !"

وانتهى الأمر عند محرر صحيفة مقترحا على الأحمق أن يتولى تدقيق عمودهم (اليومي).

وراح الأحمق ينتقد كلّ شيء وكل وفرد بدون أن يغير، على الاقل، اسلوبه، أو صيحات تعجبه.

الآن هو الذي خطب ضد السلطات، يكون نفسه سلطة، والشباب يوقرونه ويخافونه.

وأيّ شيء آخر بوسعهم أن يفعلونه؟ ورغم أن على الفرد، كقاعدة، أن لا يبجلّ أي شخص..لكن في هذه الحالة، اذا لم يبجله أحد، سيجد الفرد نفسه متخلفا عن العصر!

يملك الحمقى وقتا طيبا بين الجبناء.

April 1878.

***

....................

* في عام 1985 كنتُ قد نشرت، وبأسم مستعار ق. المالكي، بعضا من قصائد نثر لإيفان تورجينيف في صحيفة " صوت الرافدين" التي كانت تصدر في سوريا، وفي مجلة القاعدة الفلسطينية، واليوم أعيد نشر عدد من هذه القصائد اضافة الى قصائد جديدة .وعلى حد علمي لم تترجم تلك القصائد الى العربية باستثناء خمس قصائد  ترجمها عن الروسية ونشرها في صحيفة إياف السعودية عام 2005 الكاتب برهان الشاوي، وفيها واحدة من قصائدي المنشورة آنذاك، والتي أعيد نشرها هنا ايضا، واعني بها " حساء الكرنب". لم تختلف ترجمته كثيرا عن ترجمتي تلك الا في بعض مواضع قليلة، رغم انه ترجمها عن النص الاصلي.

أعيد اليوم ترجمة تلك القصائد مضيفا اليها قصائدا جديدة، ولا تختلف ترجمتي الحالية عن الترجمة الاولى، باسثتناء وجود بعض الاختلافات الطفيفة، التي تعود أما الى قلّة خبرتي آنذاك،  أو الى أن النصوص التي نقلتُ عنها تختلف بعض الشيء عن النصوص الحالية التي أنقل عنها.

يمكن أن اضيف هنا، أن ترجمة  نص عن لغة غير اللغة الأم للنص المترجم عنه، ليس بمثلبة أو إساءة أو يقلل من قيمة النص المترجم لو كان مترجما عن لغته الاصلية، إذا تم نقل النص عن  ترجمة رصينة لمترجم يمتلك خبرة طويلة عن تلك اللغة.

تكمن اهمية هذه القصائد في أنها تكشف جانبا مهما، وهو أن قصيدة النثر لم يكن روادها الفرنسيون فقط، بل تستمد عناصرها من جهات مختلفة في العالم.

طبعت قصائد تورجينيف النثرية لأول مرة في جريدة " البشير الاوربي" في عام 1882،سمّاها. وقد أوضح في واحدة من رسائله، التي عزم أن تكون مقدمة للقصائد :" اعزائي“ Senelia”

القرّاء، لا تقرؤوا هذه القصائد دفعة واحدة، إذ أنها من المحتمل أن تنهككم، وبالتالي، سينزلق الكتاب من بين يديكم. اقرؤوها منفصلة واحدة اليوم، واحدة غداً، وفيما بعد، ستثير واحدة منها، أو أكثر في قلوبكم شيئا ما، حتما ".

أما في طبعة جريدة "البشير الاوربي" فقد جاء :"  أن تلك الملاحظات والافكار والتصورات العابرة التي دوّنها الشاعر تحت إنطباعات الحياة المعاصرة، العلنية والسرية، كانت للسنوات الخمس من عام 1978 حتى عام 1882.

* ستصدر ترجمتي لقصائد النثر لإيفان تورجينيف كاملة خلال هذا العام. 

* بعض هذه القصائد ترجمت عن مجلة الأدب السوفييتي 1983، ع .12، والبعض الآخر تُرجمت عن  شبكة الأدب .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم