ترجمات أدبية

فيفيان لودفورد: الفراشة

بقلم: فيفيان لودفورد

ترجمة: صالح الرووق

***

أحيانا يأتي زبون قبل موعد الإغلاق بست عشرة دقيقة، ويتوجب على الفراشة أن تعتني به في كل الأحوال. في هذا اليوم دخلت امرأة أمريكية - شابة وجميلة ومن الواضح أنها سائحة، وإلا ما كانت في نانجينغ رود على الإطلاق - كان الوقت 11:44 بعد الظهيرة، وطلبت ساعة مساج كاملة لتدليك جسمها. وبدأت الفراشة تخبرها أنهم يغلقون بتمام منتصف الليل، ولكن جاء جيري بابتسامته البيضاء والعريضة التي تغطي وجهه، وقال بإنكليزيته المتعالية: "من فضلك، من هذا الطريق"، ثم تقدمها في الممر. تنهدت الفراشة، واستبدلت ثيابها، وعاودت ارتداء البذة. فهي لا تمانع ذلك. أن تبقى هنا وهي تدلك الظهور أفضل من العودة إلى الشقة، والجلوس في الظلام، بينما المدلكة الأخرى تدخن وتقلب في هاتفها حتى تسقط بالنوم. كانت تكره العزلة. كل تلك الغرف الصغيرة المتكومة على طول ممر ملتف وضيق. ويتوجب على الفراشة أن تمر بكل واحدة منها، وتتفحص كل سرير وغرفة، حيث يختبئ الكثير من الأشباح في الظل المخيم. كانت الفراشة تعلم وهي تطفئ وراءها الأنوار أن الظلام سيبتلعها عما قريب.

وجيري الآن في إحدى الغرف الخلفية، يشطف وينظف بصوت مسموع. كان يوم ثلاثاء، والعمل بطيء. المدلك الآخر رحل برفقة السيد وونغ. حملت الفراشة آخر منشفتين نظيفتين من الرف، ومدت يدها في علبة الغسالة بحثا عن منشفة مستعملة، تبدو لها معقولة. ثم أخذت علبة سراويل صغيرة تستعمل مرة واحدة وزجاجة زيت ياسمين طازج، وحملت كل شيء على صينية إلى الغرفة 23. وتمنت أن لا تحاول الأمريكية تبادل الكلام معها. ليس لأن الفراشة لا تعرف اللغة الإنكليزية - فقد درستها بما يكفي في المدرسة، وتأكد جيري أنها تعرف العبارات الأساسية لتتعامل بها مع الزبائن: الانعكاس، التدليك بالأصابع، النسيج العميق، الضغط كبير؟. والأهم ليس لدينا تدليك خدمة جنسية هنا. حينما وصلت إلى الغرفة، سألت الأمريكية مباشرة بنبرة خفيفة وبلغه صينية مثالية، إن كان بمقدورهم رفع درجة تيار مكيف الهواء قليلا. ردت الفراشة: "طبعا". وبعد أن ضغطت جهاز التحكم الخاص بوحدة التكييف الموجودة في الأعلى، سألت بهدوء أشد: "كيف تأتى لك أن تتكلمي بلغة صينية جيدة؟". في غضون ذلك تعرت الأمريكية وارتدت سروالا يستعمل لمرة واحدة، واستلقت ووجهها إلى أسفل، على طاولة التدليك. سكبت الفراشة زيت الياسمين وبدأت بالتدليك كأنها تعجن.

درت الأمريكية اللغة الصينية في المدرسة، ولكن أيضا كانت أمها من تايبي. فكرت الفراشة: شيء معتاد. وفكرت كم كانت هذه التايوانية جميلة وممتلئة بالنشاط لتختلس زوجا أمريكيا. وماذا كانت تفعل في شنغهاي؟. طبعا كانت تدرس. التاريخ واللغة - الماندارين. لفصل واحد فقط.

قالت الفراشة بنعومة: "لا بد أنك ذكية". ضحكت الأمريكية قليلا - بصوت رنان ومرتفع - ثم تنهدت بعمق على طاولة التدليك، حينما ضغطت الفراشة على عمودها الفقري.

في ذلك الصباح تلقت للفراشة رسالة نصية. وتعرفت على الاسم فورا. وشعرت بمعدتها تسقط منها. كتب الرجل لها: "شون -ي. أنا هونغزي. هل كلمت وينسي مؤخرا؟".

ما أن قرأت الفراشة اسمه، حتى علمت بوجود خطأ. ولكنها لم ترد. تركت هاتفها حوالي ساعة وهي مستلقية في الفراش، تنظر بعينين فارغتين بالسقف حتى نهضت البنت الأخرى، ثم اغتسلت، وارتدت بذتها، وقادت السيارة إلى السبا، وهناك تناولت إفطارها المكون من حليب الصويا والكعك المحلى المقلي - وهو شيء نادرا ما تتذوقه. وبعد أن انتهت من إفطارها المشبع، شعرت بسعادة الامتلاء والعافية، نظفت الذرات الدسمة من فمها، ثم كتبت الرد.

"كلا. ماذا حصل؟".

جاءها رد هونغزي فورا: "وينسي رحلت. غادرت قبل يومين".

سألت الفراشة: "وماذا جرى؟. ماذا فعلت؟".

لم يرد هونغزي على السؤال بشكل مباشر. ولكن أرسل سلسلة من الأسئلة الجديدة، وكل منها أطول وأكثر حنقا من سابقه. "هل قالت شيئا؟ هل تبادلت معها الكلام في الشهور القليلة المنصرمة؟ هل قالت شيئا عن رحيلها أو هل تكلمت عن مكان يمكن أن تستقر فيه؟".

وردت الفراشة بصدق: "كلا". وهكذا توقف هونغزي عن التعليق.

لم تكلم الفراشة وينسي منذ ما ينوف على عام، ويعود ذلك إلى ما قبل مغادرة سونغيانغ. وطبعا فكرت بصديقتها، وتكلمت معها بواسطة "وي شات" لعدة دقائق - عن زهور الباحة الخلفية، الإبريق الناعم ذي النقوش الفنية، وصورة شخصية مع زوجها الجديد وهو يبتسم ابتسامة ناصعة في مركز المدينة المضاءة. وكانت الفراشة تحب الصور، وغالبا ما تعلق عليها، أو ترسل سلسلة زهور وردية اللون. ولكن بعد شهور دون استجابة، أصبح ذلك شيئا لا يطاق، ثم توقفت عن التواصل مع وينسي. وحينما غادرت الفراشة في النهاية سونغيانغ وانتقلت إلى شنغهاي ألغت اسم وينسي من هاتفها، وتخلصت من احتمال وعذاب متابعة ما استجد في حياة صديقتها القديمة المزدهرة.

تقابلتا قبل عامين، في المطعم السيشواني حيث بدأت الفراشة عملها بعد الانتهاء من المدرسة الثانوية. وجاءت وينسي بعدها بثلاث شهور، وأتت لتعيش مع خالتها بعد أن رحلت من بيت أبيها في بكين. فقد رفضت أن تتعارف مع الرجل الذي اختاره لها.

قالت وينسي لها في أول ليلة جمعتهما في ذلك المطعم: "كان بدينا ومنفرا ورائحته مثل سمك ميت". كان رأساهما وذراعا كل منهما متلامسين وهما تنظفان الطاولات والكراسي. وتابعت: "لماذا يجب أن أتعارف معه مع أنني أعلم مسبقا أنني لن أقترن به؟. هذا هدر للوقت". كان لون وينسي ناعما وحليبيا، وأطرافها طويلة، وقامتها مستديرة وتريح النظر، وشعرها ورموشها سوداء، وهو ما يذكر الفراشة بعجل رقيق. كما أنها قادمة من عائلة جيدة - عاش أبوها في الريف قبل ان يعمل في معمل لإنتاج أجزاء المركبات، وكانت أمها تدير منصة لطعام الإفطار قبل أن تتوفى بسرطان الصدر منذ عدة سنوات. ويشاع أن دم وينسي مختلط، وأن جدها الأول قس فرنسي، ولكن من يستطيع أن يتأكد. وبغض النظر عن ذلك يبدو من الواضح أن الزواج الجيد قد يحسن من أوضاع عائلتها على نحو ملحوظ.

كشفت وينسي نفسها. وأثبتت أنها شرسة وغير متوقعة. وحينما يكون الزبون متهورا أو لا يطلب ما يكفي من الطعام، تهمله وينسي علنا. وإذا رد بعجرفة تشتمه عليه مع إجابة مهينة: "النظرة تكلف ألف يوان، أيها التافه". ثم تتابع طريقها، بهدوء وتعمد، كما لو أن شيئا لم يحصل. وفي كل مرة كانت الفراشة تتعجب من ذلك وتخشى على صديقتها الجديدة. لم تكن الفراشة قادرة على كشف نفسها هكذا، وحينما تشاهد غضب وينسي دون تستر تشعر بالقلق. ولكن إذا شعرت وينسي بأي شيء قريب من ذلك القلق، لا تعلن عنه. كانت تسير في العالم كما لو أنه مدين لها، دون أن تطرف عينها أمام رغبتها.

لاحظت الفراشة في غرفة التدليك كيف كان جسم الأمريكية ناعما، ومؤخرة رقبتها مسمرة وطرية. حقيبة جلدية رقيقة في الزاوية، ولفاح حريري يتدلى على كرسي. وهي تخفض يديها، تدلك العضلات ببطء، كما تعلمت، تخيلت الفراشة عشاق المرأة، والطريقة التي يلمسونها بها. وأمكن الفراشة أن تتحرى أصغر شق في أعضائها السرية، وكانت تبدو، كما يمكن للفراشة أن تقول، ناعمة ومضغوطة بأناقة. كيف يكون شعور الرجل وهو يخترق هذا الشيء؟. هل الجنس لديهم أكثر تمدنا؟. أجمل؟. أم أنه مرتبك كما هو الحال مع جيري حين تستسلم له كلما ضجرت أو أكثرت من الشراب أو كانت وحيدة؟.

تعلمت في مدرسة ابتدائية أن الجسم يرمم نفسه كل سبع حتى خمس عشرة سنة. والآن حتى جلدها يتوالد: وفي غضون أسابيع سيكون غشاء جسمها جديدا. تخيلت الفراشة، في غرفة التدليك، أنها تطوي نفسها لتكون صغيرة بما يكفي حتى تتمكن من التسلل إلى رحم البنت. وستنتظر فيه تسعة شهور، ما يلزم من وقت لتعيد خلق كل خلايا جسمها. ولو توجب عليها وفعلت ذلك - ستنتظر مطوية في الظلام اللزج والدافئ لشهور، أو عقود. وحينما تظهر ستبدو بالضبط كما هي الآن، ولكنها نظيفة من كل شيء وضمنا ذاكرتها. ولكنها ستتذكر أساسيات الجمع والطرح، طبعا، وحتى بعض الموضوعات الأكثر تعقيدا مثل الضرب والتقسيم. وسيمكنها القراءة، وكيف تنظر يمينا ويسارا قبل أن تعبر طريقا مزدحما، وكيف تحضر وجبة خفيفة من الأرز والخضار. ولكنها ستنسى كل الخصوصيات. ستكون معارفها كلها قد انفصلت عنها، كما لو أنها برنامج، دون أي سياق معقد. ستتحول إلى إنسانة بسيطة، وستتقدم في العالم مثل سمكة صغيرة، وضعيفة مثل اليوم الذي ولدت فيه.

وفر لها جيري عملها. وذلك بعد عام من رحيل وينسي. كانت الفراشة تنظف في أحد الأيام الطاولات حينما لاحظها جيري وقرر أن يصنع منها نجمة. عموما هذا ما قاله، قبل أن يحملها على دراجته النارية في أعقاب الانتهاء من عملها. ليقودها إلى مسكنها، وهو مجرد فراش مستأجر ممدود على الأرض. وطلب منها أن تحزم أمتعتها، ولم تكن كثيرة، ووعدها بغرفة في شقته وبألف يوان في الأسبوع، مقابل تدليك الظهور. وأخبرها أن تختار لنفسها أي اسم إنكليزي تريده. ثم قال لها: "لماذا لا تطلقي على نفسك اسم فراشة؟". وغمزها وهو يقول: "فهي شيء جميل مثلك".

لم يخبرها أحد من قبل إنها جميلة، ولا حتى وينسي. ولم تشعر أن أحدا يهتم بها على الإطلاق. كان لونها باهتا ولكنه ليس أبيض، وهي ناعمة ولكن ليست نحيلة. وربما لو توفرت لديها النقود، والوقت لتطلي وجهها بمطريات معطرة، وتجعد شعرها، وتكسي نفسها بثياب غالية الثمن، لأمكن القول عنها إنها جميلة. ولكن كانت الفكرة تختفي لحظة ترى شكلها المهمل في المرآة. وكانت معنية أساسا بالتخلص من حروق أصابعها وساعديها بسبب الزيوت التي تتطاير من المقلاة، والرائحة التي تفوح من ثيابها بسبب الدهون الدسمة، مهما حاولت تنظيفها. بعد ساعة من لقائهما، كانت قد تربعت على مؤخرة دراجة جيري، والريح تلطم وجهها وشعرها، وبودونغ تلمع من بعيد. وتبين لها أن تدليك الظهر لا يكسبها ألف يوان في الأسبوع، كما أن الفراشة لم تكن خبيرة. كان في شقة جيري عدة غرف صغيرة، وكلها محجوزة بوعود مماثلة، ولذلك شاركت الفراشة غرفة مع بنتين أخريين، وكلتاهما من ووهان. كما أنها لم تكن شقة جيري - ولكنها ملك للسيد وونغ، وكان يعيش في مكان آخر، ومن المفترض أنه يقطن في بيت من ثلاث طبقات، خارج المدينة. ولكن ما أن باشرت الفراشة العمل، حتى كسبت بعض النقود، بما يكفي لتعيش. وكانت المدلكات الأخريات رقيقات معها، إنما لم يكن هناك مهرب من بعض الإشكالات، لا سيما بوجود عشر بنات في شقة واحدة. غير أن الفراشة لم تورط نفسها ولم تفكر بخطة. وكانت ببساطة وطيلة أربع سنوات تنجرف ببطء مثل أعشاب البحر بانتظار فرصة أخرى تكتشف موهبتها، وتحملها معها بعيدا. في بداية عهد صداقتهما، فكرت الفراشة - أولا بحذر، ثم بهمة أكبر، وسمحت لنفسها أن تطبق فكرتها - أنها وجدت وينسي شريكة معقولة، وأنه بمقدورهما إنفاق سنوات العمر وهما تنجرفان معا في مهب الريح. كانت وينسي تكره الانفراد بنفسها، وغالبا ما طلبت من الفراشة أن ترافقها حتى لو أن الرحلة لدقائق - مهمة عاجلة إلى مستودع في الأسفل، استراحاتها (الطويلة والمتعددة) في الخارج هناك. وكانت وينسي تحب أن تتمشى بتمهل في المخزن القريب، وهو مكان زارته الفراشة لمرة واحدة من قبل، وسريعا ما جرتها وينسي معها، وتقريبا كل ليلة. معا كانتا تتجولان بين عروض الثياب وأدوات المنزل التي تغطي الأرض كأنها حظيرة للماشية، وكانت وينسي تتنقل في المكان كأنها تمتلكه، ثم تتنهد وتتأوه كلما قلبت بين يديها الملاعق الوردية الصغيرة وحقائب وأقواس الرأس المصنوعة من الجلد الصناعي. وكانت الفراشة تحب رؤية يدي وينسي وهي تتحرك بين الأشياء، مثل سمكة تسبح، وتعرف ماذا تلمس.

في بعض الليالي كانتا تتجولان دون هدف في أزقة المدينة، وتمران تحت غسيل العائلات، وخلال رائحة نفاذة وأصوات نساء طاهيات ورجال يدخنون أمام المداخل. كانت حياتهما تترك علامة في الليل المظلم. وأحيانا تتسلل وينسي إلى باحة مجمع شقق ساحرة، وتترك الفراشة واقفة بقلق عند البوابة. ثم تناديها: "ارجعي". وسريعا ما تيأس من إقناع وينسي، الجالسة قرب بركة أو بين أزهار الحديقة. وتسألها وينسي: "هل أنا جميلة؟. هل أبدو أنني من سكان المكان؟". ولا يسع الفراشة إلا أن تبتسم لصديقتها، صديقتها الجميلة التي تبدو وكأنها فعليا تعيش هناك، يمكنها أن تعيش في أي مكان وتجعله لها، وهكذا كانت ممتلئة بالحياة والجمال.

وظهر هونغزي بالتدريج، ثم كله. أخبرت الخطابة والد وينسي فقط أن هونغزي يحضر لدرجة الدكتوراه في الفيزياء في مينيسوتا، وقد تعب من حياة العزوبية. وقفت الفراشة ووينسي خارج المطعم بعد وقت الإغلاق، وكتفا كل منهما محدودبان بسبب البرد. قالت وينسي: "أنفه مسطح وهو مضجر وربما لديه خازوق في مؤخرته. ولكن أعتقد أنه يمكنني أن ألهو بعقله لعدة أسابيع". وامتصت برتقالها بنهم، وكانت تقضم الحز بأسنانها.

طيلة الشهور التالية القليلة سخرت الفراشة ووينسي من هونغزي، ومن رسائله الطويلة التي يكتبها بإخلاص كل صباح. كان يستعمل عبارات لم تسمع بها الفراشة، مثل "أبذل جهدي أكون نسخة من نفسي، وأتوقع من شريكتي أن تفعل ذلك أيضا". وحينما ردت عليه وينسي في إحدى المرات ببساطة بكلمة "ليلتك طيبة"، رد هونغزي مع إضافة رموز بشكل النقود: "صحبة، يمكننا رفع طاقتك لحدها الأقصى ~$".

هذه الرسائل، التي كانت وينسي تقرأها بصوت مسموع للفراشة وهما بجلسة مشتركة، وتشخران وتعولان بالضحكات، جعلت اافراشة تشعر بالحرج من هونغزي وأيضا بحمايته لها. كانت تتخيله بثيابه الفضفاضة الرمادية، في المختبر أو في المكتبة وراء كومة من الكتب الثقيلة، ويطبع بإخلاص رسائله التي تظهر على شاشة منخفضة الإضاءة، مقتنعا أن التكنولوجيا ستنقلها عبر الصحراء والجبال والبحر إلى سونغجينغ، وهو على ثقة تامة أن وينسي موجودة هناك، خلف شاشة أخرى، وتستقبل كلماته. وفي الليل يستلقي في غرفته الباردة في مينيسوتا، ويفكر بوينسي التي تجتهد لتحسن من وضعها كما نصحها.

ولكن كان لوينسي تفكير آخر. كررت: "رفع طاقتك لحدها الأقصى". وكان صوتها ثاقبا كأنه لطفل اعتادت على تقليده.

قالت للفراشة: "بالتأكيد لديه طموح".

التفتت إلى الفراشة وهي تحضن وجهها بيديها: "يريد أن يستعبدني".

وصاحت: "شون- يي*. عديني إذا وقعت بالحب مع شخص مثل هونغزي أن تقطعي رأسي فورا. أو عنفيني أولا. واتركي لي فرصة لاستعادة نفسي. وذكريني أنني روح حرة".

قالت الفراشة: "طبعا. أنت امرأة عصرية. ولن ينال منك أي رجل في مينيسوتا".

صاحت وينسي بتهكم: "تحتل النساء نصف السماء". ثم صرخت وهي تلقي برأسها إلى الخلف: "امرأة عصرية". كان حلقها أبيض ورفيعا. وجيب البلعوم الرقيق والصغير ينبض تحت جلدها، وكأنه مبتل بالضوء. وتابعت وينسي ردها. حينما أرسل لها وينغزي النقود لتداوم في حصص تعلم اللغة الإنكليزية لم تفعل. ولكن وعدته. كذبت واحتفظت بالنقود لشيء أهم. ثم أضافت اسمها إلى الحصص، وضبطتها الفراشة عدة مرات تتمرن على اللغة أثناء الاستراحات، وكانت تنكس رأسها على دفتر ملاحظاتها، وشفتاها ترتجفان بنعومة وهي تدمدم، ثم تقارن كلامها بالدفتر، ثم تكرر ما هو مكتوب. ولم تجرؤ الفراشة على مقاطعتها. وطبعا هناك بنات أخريات. ودائما من أماكن نائية. تذكرت الفراشة إحدى زميلات المدرسة الابتدائية - بنت بوجه ممتلئ ومستدير وذات ضحكة كصفير القطار. كانت تضحك بطريقة جميلة. ومع أنها أصغر منها كانت ضخمة. وغالبا منقطعة الأنفاس، وكان في المدرسة سلالم تغطي متاهة من ست طبقات. وكانت الفراشة تحب أن تلحق بها وهي هكذا - ورأسها يتوج السلالم الأخيرة، بجمجمة بيضاء تلمع فيها خطوط زيتية. وخداها أحمران مصبوغان بالدم وملتهبان بالحرارة. وشبهتها الفراشة بحيوان مزرعة، كبير وناعم، ومكشوف وضعيف رغم حجمه الضخم. وكانت الفراشة تمنع نفسها من مد يديها ولمسها، ثم القبض على ذراعيها البيضاوين، واحتوائها. ولم تكونا صديقتين - وبالكاد تبادلتا الكلام - ولكن كانت الفراشة تتابعها، وحزنت جدا وبالسر لأنها لم تنضم لهن في المدرسة الإعدادية. وكانت تمتلك الدمى أيضا. وهي من البلاستيك وبأطراف متحركة، بجسم وردي وصلب. وكانت البنات الأخريات تحلمن بسيناريوهات طبيعية - أمير يخطفهن ويتزوج بهن أو تاجر ثري يدعوهن لجولة تسوق في المدينة - أما الفراشة كانت تضع خططها بالسر: البنات تسبحن في بحيرة كنغاي، وتلعبن لعبة المطاردة، ثم تنطوي الواحدة على الأخرى في الماء، أو يجبرهن عم فقير على النوم معا في سرير مزدوج، ووجه الواحدة قبالة الأخرى. أو تشد وثاقهن عصابة على قضبان القطار، وهن بوجوه مبلولة، ومتعانقات قبل مرور لحظاتهن الأخيرة في هذه الحياة. وإذا لاحظت أمها أحلامها لم تكن تواصل ذلك . ولكن في أحد الأيام عادت الفراشة إلى البيت واكتشفت أن دماها غير موجودة. قالت لها أمها: "انتهى وقتها". وفهمت الفراشة معنى هذا الكلام.

حينما وصلت الفراشة أول مرة إلى شانغهاي، كان كل شيء يبدو بوفرة. أحبت المدينة. وأحبت كا يفور فيها من طاقات ونشاط، وطريقة الشعور بكل شيء كأنه مصغر نفسه، والشعور أن كل شيء لاحق يجب أن يتفوب على أي شيء سابق وأن يستمر حتى يبلغ هذه النسخة الجديدة منه. وأحبت مرأى أماكن مثل نانجينغ رود: منصة أساور الأحجار الكريمة ولفاحات الحرير والقيشاني، وبائعي الشارع الذين يحملون معهم كل شيء من العقارب المقلية حتى أصابع الزعرور المحلى التي أكلتها في طفولتها. وأحبت حوض الماء: أعمدة الفولاذ والغرانيت، والأبنية التي تعلو فوق ما تبقى في الليل، بشكلها المنذر والساطع. زارت في أول أسبوع لها هناك حوض الماء بمعدل مرة كل ليلة لتتأمل الماء الأسود، والمدينة التي ترفض أن تستسلم للظلام. وكانت تمكث ساعتين أو ثلاثا، وتطلق سراح أنفاسها، وتنظر إلى المباني والناس المحيطين بها - السياح بشكل أساسي، متحدين بمشاهد من مراحل حياتهم. رجل يأكل فقط أغلى اللحوم النيئة، مقطعة ورقيقة ومغطاة بالبصل. وآخر يدخل في برج نهر بيرل حيث يوجد فندق مهيل. كان ينام وحده في غرف مختلفة تحت أغطية حريرية سوداء، وفي شرابه رقائق من الذهب. وامرأة كانت زوجة دبلوماسي. وتستحم بالحليب كل ليلة لتحتفظ بجلدها ناعما وأبيض، وبعد كل حمام، ومنعا للإسراف، بسبب ذكائها وحسن تدبيرها اللذين سمحا لها بالصعود إلى هذا المقام منذ البداية، كانت تغذي كلابها بهذا الحليب. تخيلتهم الفراشة، عشرة أو اثني عشر كلبا من نوع سبانيال بلون كريمي، يمتصون الحليب الدافئ والكثير بشراهة، والذي له لون جلودهم. وتلبد لسانها من جراء هذه الفكرة. كان جيري يسخر منها. ويقول لها: "أنت لست إلا سائحة". ويكون قد عاد أدراجه، وبدأ ينفض رماد سيجارته على الأرض. كانت البنات الأخريات تستلقين على أي شيء مستو لمشاهدة الدراما في التلفزيون وإرسال الرسائل بهواتفهن.

تساءلت الفراشة إذا كان للأمريكية أبوان، وماذا يعملان. فكرت: ربما طبيبان، أو أستاذان في الجامعة. وكل واحد فيهما يحتل غرفة نوم خاصة به، تشرف على حديقة أمامها. كان لبيت وينسي في مينيسوتا سورا أبيض قصيرا، وشجرة كمثرى قزمة في الباحة الخلفية. كتبت لها وينسي: "كأنها حكاية خرافية. الطقس شديد البرودة هنا، أبرد من بكين. ولكن الحياة البرد ليست مشكلة. يصلب البرد عودك. فالهواء هنا نظبف جدا. ولن تصدقي كيف أن رائحته ذكية طيلة الوقت". تذكرت الفراشة عدة رسائل أخرى، ذات نغمة حزينة. مرة كتبت لها وينسي: "الحال لا نفع منه. ولن أتحسن. يجب أن أموت". سألتها الفراشة لماذ، ردت وينسي إنها لا تريد الكلام حول هذا الموضوع، وكل شيء جيد الآن، ولكن كيف حياتك في سونغجيانغ؟ هل هناك إشاعات إضافية في المطعم؟. وفي مرة أخرى أرسلت وينسي إلى الفراشة سلسلة من الرسائل الصوتية وكل منها أطول وأكثر اضطرابا من سابقتها. وكانت وينسي تهمس بكلمات تخرج من فمها خشنة وقاسية. قالت: "أشعر أنني ميتة. أحيانا أشعر أنني ملتصقة بالأرض. أخاف من الكلام أو الطعام أو النهوض. وأخاف من الخروج، للرد على الهاتف".

اعتبرت الفراشة شعورها أنه استجابة مناسبة بشكل محدود - ما شعرت به هو أسف صادق، ولكن كيف ساءت الأمور، كانت تبدو جيدة، جدا، وهل بمقدورها أن تفعل شيئا؟. ولكن طبعا ليس بيدها شيء - تعلم الفراشة منذ البداية أن رسائلها ستكون فارغة - وفعلا ماذا يمكن أن تفعله لصديقتها في مينيبوليس، البعيدة عنها ستة آلاف ميل؟.

لم ترد وينسي، لكن بغضون الشهور القليلة التالية، بدأت ترسل على نحو متواتر - صورة ىغروب الشمس أو برج مينيبوليس، أو أزهار القرع في حديقة خضرواتها، وحسب كلمات التعريف، كانت تزرعها من أجل ابنها المستقبلي، لتتمكن من توفير الفاكهة والخضار العضوية لعائلتها. وردت على رسائل الفراشة عدة مرات بكلمة "مرحبا" ثم أضافت بعض المعلومات المختصرة عن شؤون حياتها، ولكن دائما كان الرد سطحيا. وتابعت وينسي عادة مزعجة وهي انتقاد حياة الفراشة، وحضها باستمرار على اكتشاف خطة لتحسين ظروفها. وسألت في ثالث أو رابع رسالة: "ما هو هدفك؟. هل تريدين حقا أن تعملي في ذلك المطعم طيلة حياتك، وأنت تنجرفين مع التيار ومع أعشاب جافة؟". وماذا بمقدور الفراشة أن تفعل سوى استلام تلك الرسائل، والاستماع لصوت وينسي - صوت يبدو مألوفا وغريبا تماما بنفس الوقت، كانت نبرتها هي نفسها، ولكن الترابط بين الكلمات ليس هو، ولاحظت وجود وقفات وتنغيمات في أماكن غير مألوفة - وهي تكرر نفس الكلام، حتى توقفت عن مراسلتها. وقبل التوقف عن تبادل التسجيلات، تابعت الفراشة الاطلاع على موقع وينسي، وأحيانا كانت تبدي إعجابها بصورة، أو تعلق على صورة، ولكن لم تفعل وينسي المثل على صفحة الفراشة، ولم تتوقف عند صور البازلاء التي زرعتها الفراشة في برطمان أو عند صورة حساء النودل اللذيذ، أو في إحدى المرات، الأرنب المستسلم لقدره والذي وجدته على قارعة الطريق - وتوقعت أنه ميت والتقطت صورته، وجهزت نفسها لترثيه في صفحتها، ولتكتب عن ما بدا لها أنه دم لوث مخالبه، ولكن حينما اقتربت منه، نهض من رقاده، وقفز باتجاه ظلام الليل.

يوم أخبرت وينسي الفراشة أنها عائدة إلى بكين لتقابل هونغزي لأول مرة، أمطرت السماء مطرا غزيرا. أمضت الفراشة يومها بتنظيف آثار وحل ومخلفات الزبائن، وتجفيف الماء اذي تجمع في ثقوب في الأرض.

سألتها: "وماذا سيحصل بعد هذا اللقاء؟".

"لا أعلم. أعتقد إذا أعجبته سنتزوج وسأرافقه إلى أمريكا".

"تعلمين أنه معجب بك".

نظرت وينسي إلى الأرض وقالت: "ربما بدل رأيه". كانت عيناها جميلتين جدا وهما منكستان بهذه الطريقة، مثل عيني ظبية. وأضافت: "ولن أتأثر بذلك. هو يريد أن يجعلني أفضل. وهو ذكي. أضيفي لذلك بهذه الطريقة سيعيش أبنائي في أمريكا. ويمكن لوالدي أخيرا أن يتقاعد ويعيش معي في بيت مناسب".

وتطورت الأمور بعد ذلك بسرعة. وبسرعة عادت وينسي إلى بيت والدها في بكين، والتقت بهونغزي وجمعت أشلاء حياتها. ثم انتقلت إلى مينيسوتا، وحطت الرحال في مدينة تسمى مينيبوليس، وكان كل شيء يبدو بحالة ممتازة ونظيفا ورقيقا - حتى الحيوانات هناك، العصافير والسناجب والجراء، كما كتبت وينسي، كانت مهذبة، وتأكل لقيمات صغيرة من يد البشر. آخر مرة رأت فيها الفراشة صديقتها كانت خلالها واقفة على رصيف محطة القطار، جاهزة لرحلة بكين التي يبلغ طولها اثنتي عشرة ساعة، وكانت تبدو أشبه ببنت صغيرة في معطفها الفضفاض، وضائعة بين حقائبها.

حينما انتهى الوقت لم تغادر الفراشة الغرفة مباشرة. وانتظرت لعدة دقائق إضافية لتدليك ظهر الأمريكية ثم ساقيها بضربات طويلة وحذرة، لتتأكد أنها لن تنبهها من رقادها. كانت حقيبة المرأة بموضعها في الزاوية، وجلدها كان طريا ومتماسكا. وحينما مدت الفراشة يدها إلى الداخل الحريري لم تصدر أي صوت. بعد ذلك أيقظت الفراشة الأمريكية قبل أن تغادر الغرفة وتسمح لها بارتداء ثيابها. في الردهة الخارجية بدأت الفراشة بطباعة الفاتورة. واستغرقت الوقت اللازم لإنجازها، ولكنها عمليا لم تكن مهتمة بالنقود. كان جيري والسيد وونغ يقتطعان منه وهذا شيء طبيعي. مقابل بذات العمل والإيجار والتدفئة والوجبات الرسمية. وما تبقى يضاف إلى الحسابات الشخصية لكل بنت، ويدفعانه مضطرين إذا طلبته البنات فقط. باغت صوت ما الفراشة. وحينما رفعت نظرها، أدهشها رؤية الأمريكية واقفة أمام باب الردهة بكامل ثيابها. قالت لها شيئا ما بإنكليزية سريعة، ولكن هزت الفراشة رأسها وهي مرتبكة. كررت الأمريكية كلامها، ولكن بعد أن يئست تكلمت بالصينية.

قالت: "جزداني اختفى".

"ماذا تقصدين؟".

"اختفى جزداني. كان معي حينما أتيت، والآن لا أستطيع أن أجده".

تفتح الرعب مثل زهرة في صدر الفراشة، وفاض منه على أطرافها كأنه ماء حار. قالت ببطء: "أنا لم أستولي عليه".

ردت الأمريكية بسرعة وهي تدنو من الفراشة: "كان معي حينما دخلت من الباب". وفتحت حقيبتها، وعرضت المحتويات على الفراشة. علبة علكة، وأنبوبة قديمة لطلاء الشفاه، وبعض الفواتير المطوية بإهمال. وقلبت أيضا جيوب معطفها. لا يوجد جزدان. ولم يكن بمقدور الفراشة أن تفكر بأي شيء تفعله أفضل من حركة من رأسها، مع ابتسامة عصبية. ثم قالت: "لم يأخذ أحد هنا جزدانك. كنت معي طيلة الوقت"، قالت الأمريكية: "ولكن سقطت بالنوم".

وزادت عدوائيتها. وأضافت: "هو من جلد أزرق لماع. والآن لا أجده".

طلبت الفراشة من الأمريكية أن تلزم الهدوء، ريثما تتصل بمديرها، وهو سيهتم بكل شيء. استدارت الفراشة بظهرها نحو الباب، وطلبت رقم هاتف جيري، وهي تصلي لربها كي يرد. ثم أخبرته، وزاوية عينها على الأمريكية، بوجود مشكلة، وهي بحاجة لوجوده في السبا بأسرع وقت ممكن. كان صوت جيري مرهقا ولكن لحسن الحظ ليس حانقا، وقال إنه سيأتي بغضون خمس عشرة دقيقة، ثم أغلق الخط.

قالت الفراشة: "سأستغل الوقت وأبدأ بالتنظيف. سيحضر رئيسي حالا. وسيصحح كل شيء". بدأت الأمريكية بالجدال، وعبرت الغرفة بإثر الفراشة حتى بلغتا الصالة. ولكن عندما انتبهت لظلام وعدم ترحيب البناية بالناس، توقفت، وبدا عليها علامات التفكير، ثم عادت إلى الردهة. وقالت: "سأنتظره هنا".

وافقت الفراشة، وابتسمت بوهن، واختفت في الظلام. وتوجهت مباشرة إلى إحدى الغرف الخلفية، واستلقت حتى سمعت دمدمة ثاقبة تأتي من دراجة جيري النارية حينما توقف بها في الخارج. ما أن سمع جيري ما تريد الأمريكية أن تشتكي منه حتى ألقى يديه في الهواء بشكل مسرحي. وقال بلغة إنكليزية صاخبة: "متجري مفتوح منذ خمسة عشر عاما ولم يتعرض أحد للسرقة فيه. لا أحد". ثم أخذ الفاتورة التي طبعتها الفراشة من قبل وقدمها إلى الأمريكية، وقال لها بنفس النبرة التي يلوم بها الفراشة إذا أكثرت من الإنفاق: "هذه هي فاتورتك. أنت مدينة بمبلغ ثلاثمائة يوان. أو أربع وثلاثين دولارا. ومعك حرية اختيار العملة".

رفعت الأمريكية صوتها. وقالت: "كلا. أنت لم تفهمني. محفظتي اختفت. اختفت. ولا يوجد معي نقود ". وحملت حقيبتها وأفرغت محتوياتها على الأرض.

قال جيري: "هذه ليست مشكلتنا".

تحركت الأمريكية باتجاه الباب، ولكن سبقها جيري، وسد المدخل. وأوشك أن يقبض على ذراعها، ثم تردد، وتراجع إلى الخلف وكرر كلامه بإصرار: "أنت مدينة بثلاثمائة يوان. وسأستدعي الشرطة".

ثم ابتسم وباعد ما بين ذراعيه أمامه. قالت: " هيا. اتصل بهم. ليس لدي شيء أخفيه".

وقفت الفراشة في الزاوية خلال الحوار، وبصمت تمنت لو أمكنها أن تدخل بالجدار لتختفي. وتقدمت ولمست يد جيري وقالت بإلحاح وهدوء: "دعها تذهب. الأفضل أن تخسر بعض النقود. وأن لا تمر بمشكلة مع الشرطة".

تنحى جيري مرغما، ولكن ليس قبل أن يشتم الأمريكية قائلا: "سائحة لعينة تافهة". شهقت الأمريكية، وجمعت أشياءها من الأرض، وأسرعت بالخروج، وهي تقبض على محفظتها بقوة.

التفت جيري إلى الفراشة بعد أن غادرت وقال: "سأخصم المبلغ من حسابك". وافقت الفراشة. وهو ما توقعته. قال: "هيا معي لأعود بك إلى البيت". ونظر إلى دراجته في الخارج. رفضت الفراشة دعوته. كان عليها أن تغلق. وهناك مناشف يجب أن تغسلها. وزجاجات زيت يجب أن تعيد ملأها. فكر وهو يجرها نحو الباب: "يمكن أن تفعلي ذلك في الغد". لكنها رفضت ويئس جيري بسرعة، كان متعبا ولا يمكنه الجدال. وبعد أن غادر، ارتدت الفراشة سترتها، وكانت رقيقة جدا في برد الليل، وأغلقت البناء. وهي تسير في نانجنغ رود، كانت واجهة المتجر مزدحمة وساطعة، وتشع بالحبور. دخلت إلى أول مخزن واجهته - مخزن هدايا كبير وصاخب على طراز شطائر وحلويات شنغهاي. كان حافلا بالسياح الذين ينقبون بشراهة في علب المجوهرات الكريمة الرخيصة ومنحوتات القصب. توجهت الفراشة إلى الحلويات: معجنات بالسكر ونكهة الورد، سكاكر بشراب فستق الصنوبر، وأصابع بذور السمسم مع العسل. اختارت أربع أو خمس علب مختلفة من النوع المفضل لديها، ثم دفعت ببطاقة ائتمان المرأة الأمريكية. ولكن حالما وصلت إلى ثالث متجر، لم تقبل البطاقة. لم يكن قد تبقى نقود، لكن الفراشة لم تحزن. تناولت الحلويات التي ابتاعتها، وهي تمشي عائدة إلى البيت على طول ضفاف الحوض المائي. وهي تمشي شعرت بهاتفها يهتز ويرتطم بأضلاع صدرها. لم يتوقف منذ غادرت السبا. أخرجته من معطفها، ومدت يدها به. ولاحظت أن الجهاز سجل تسع مكالمات وردت من هونغزي مع عدد أكبر من الرسائل. هل هذا دليل على الرغبة؟. حاولت الفراشة أن لا تقرب الجهاز منها كثيرا، ومسحت عداد المكالمات من الشاشة. ثم ألقت به في النهر.

في آخر رسالة "وي شات"، أرسلتها وينسي قبل عام، كتبت: "كلما فكرت بك يغمرني الحزن. كل شخص تعرفت عليه في الصين يعيش حياة صغيرة من هذا النوع. ألا تعلمين أنه يوجد الكثير من الاحتمالات المتنوعة هناك؟. وألا تعلمين أنك لن تحصلي على أي شيء ما لم تمدي يدك وتغتصبينه".

وأرادت الفراشة أن تقول لها: ألا تعلمين أنه كان بمقدورنا أن ننعم بالسعادة ونحن نتابع حياتنا معا؟.

كانتا في حالة كفاية. ويمكن للفراشة أن تلاحظ ذلك الآن. كل تلك الأيام المضيئة الطويلة انتهت بسواد الليل. الضحكات المشتركة، والأيدي المتماسكة ولهفة الأنفاس والجسد والمطر، كان العالم واسعا ورحبا بينهما. مضى على ذلك فترة طويلة كما يبدو، ولكن يمكن للفراشة أن تستعيد ذاكرتها القديمة بسرعة وتضعها في مقدمة ذهنها، حتى تكون مثل طبقة رقيقة تغطي العالم الذي تراه أمامها. وهذا كل ما أرادته، والآن هي تتذكر أمورا كثيرة - مداعبة جسم وينسي الحريري بلسانها، وكيف كان فمها ناعما وطريا، مثل ثمرة ناضجة. وكيف سمحت في غضون لحظات وجيزة بعد ذلك للفراشة أن تعانقها - أن تلمس وجهها، وتناديها يا عزيزتي. وكيف قفزت فجأة في أعقاب ذلك، ورأت طيات معدتها وهي تنحني لترتدي ثيابها، ثم البرد والقشعريرة المباغتة في غيابها. وكيف مدت الفراشة يدها، في اليوم التالي في المطعم، لتلمسها، فارتجفت وينسي كأنها تحترق. وأنهت وينسي رسالتها الأخيرة، كانت طويله ومكتوبة وليست صوتية، بفكرة مقلقة وغريبة جدا، ولم تتفهمها الفراشة بعد أول قراءة. ورد فيها: "سيعيش أولادي في أمريكا. هنا المدارس جيدة، ويعلمون الأطفال الإبداع منذ وقت مبكر. وسيصبح أولادي معماريين أو جراحين أو رجال أعمال، أو شيئا آخر لا يرقى علمنا له حتى الآن، فالعالم في أمريكا مفتوح. وأنا أريد أن أتحرر منك، لأركز على مستقبلي عوضا عن أن تجريني إلى الماضي. من فضلك لا تتصلي بي بعد الآن".

وقفت الفراشة في شنغهاي على الرصيف، تنظر إلى الماء الأسود حيث ألقت هاتفها، وباشرت بالتهام السكاكر دون تمييز. في الغد ستشتري غيره. وستبتاع شريحة، وتحصل على حساب جديد. في النهاية ستزحف لتخرج من جسمها الذي ولدت فيه، وتتحول إلى امرأة من اختيارها. ولكن الآن يمكنها أن تنتظر. دست الفراشة يدها في كيس السكاكر، واختارت قطعة طرية ثم أخرى صلبة، وسمحت للقوامين المختلفين أن يمتزجا معا في فمها. كان الوقت متأخرا ولكن كان حولها أناس يتجولون: سياح بدينون ومخمورون يضحكون وهم على الممشى. نساء بأثواب وبالكعب العالي. بنات صغيرات تتمسكن بأمهات سمراوات من الريف ويبعن الورود. على الطرف الثاني من الشارع أمكن الفراشة أن ترى رجلا يساوم بصوت مرتفع على مروحة ورقية قائلا: "هذا كثير. هذا كثير". وتابع الجدل مع البائعة، وهي واحدة من عدة نساء يمشين على الرصيف، ويحملن علب التذكارات الثقيلة التي تتدلى من حبل ملفوف حول عنقها. وكانت شريكته، وهي بنت شقراء رقيقة، تقف خلفه، وتضحك وتجره بعيدا، وهو يتابع نقاشه مع البائعة. نظرت الفراشة إلى الرجل، بسترته الصوفية، وحذائه المريح للنظر. لو قابلته في طريق مزدحم، ولو كانت وحيدة، ولو أنها أصغر بالحجم والعمر، إنسانة يمكنها أن تتسلل بسهولة أكبر، لربما انتشلت منه جواز سفره وهاتفه من جيبه. ولو أنه رجل كبير، أو أنها امرأة أكبر أو أصغر بالعمر، لكانت الأمور أوضح، وإن كانت محتاجة وجريئة جدا، ربما أوقفته، وأشهرت سكينة طويلة، وطالبته بما يحمله من أشياء ثمينة. وإذا كانت فعلا شجاعة وحانقة، وإذا شعرت أنه يستحق ذلك، لطعنته حتى تتدلى أحشاؤه أمامه مثل المرق. وستتلوث من جراء ذلك، طبعا - سيتسخ شعرها وثيابها - ولن يحتاج الأمر أكثر من هراء كأنه غسل طعام أو تراب. هل يتسبب مصدر الفوضى بالقلق؟. والنتيجة دائما واحدة: تحمل البرد، صب الماء، وحك الجسم، ثم تعودين للظهور، نظيفة وطازجة، حتى تتلوثين ثانية. استسلم الرجل على الرصيف وأعاد المروحة وألقاها في علبة المرأة، ثم ضحكت صديقته وانصرفا معا. شتمتهما البائعة بخشونة. ثم بدلت اتجاهها لتقترب من مجموعة سياح آخرين، وأعلنت عما لديها بصوت مرتفع وبناتي. كانت شنغهاي تغوص تحتهم بمعدل عشر ميليميترات تقريبا سنويا. وسيتسارع ذلك في السنوات المقبلة كلما زاد بناء الأبراج ودفع المدينة لمسافة أعمق في المحيط. في كل مكان الأشياء تتبدل. في بكين سقطت امرأة على الرصيف في حفرة مياه تغلي. وبكى زوجها على شاشة التلفزيون، وهو يحمل ابنتهما البالغة من العمر سبع شهور. أرسل الناس روابط، وكتبوا تعليقات عن مدى أسفهم. ثم لم يحدث شيء. باستثناء تغطية الحفرة. في ذلك الشهر نفسه، اختفت ممثلة بعد اتهامات بالغش في الضرائب. واستمر الحال طيلة سنة، قبل أن تظهر في صباح أحد الأيام، مضعضعة وشاحبة، في شارع مزدحم في مدينة عاشت فيها في أيام صباها. وعلى الفور أتت إليها الصحف ومحطات التلفزيون. هل اعتقلتها الحكومة؟. هل حقا أنها اختلست من البلاد عشرات الملايين من الدولارات؟. وهل أجرت جراحة تجميلية لفكها ليبدو أصغر أم أنها ببساطة فقدت وزنها؟. منحت لجميع الصحافيين والمصورين اهتمامها الذكي بالتساوي. ولكن لم ترد على أسئلتهم إلا بجواب متكرر مع تبدل قليل بالنبرة والنغمة ودرجة الصوت أو دون أي تبدل إطلاقا: "بلا سياسة الحزب والدولة الحكيمة وحب الشعب لن يكون لدينا جمال وهناء كما أنا الآن".

في الجانب الآخر من البلد، خرج مليونا متظاهر إلى الشارع، يحملون الإشارات والرموز ويرتدون قمصانا خفيفة، ويطلقون شعارات حمراء، ومعهم مظلات للاحتماء من حر الشمس. ثم جاءت الدبابات، وأطلقت عليهم النار وقنابل الغاز المسيل للدموع ليعودوا إلى بيوتهم. عاد المتظاهرون يرتدون أقنعة الغاز والنظارات والخوذ، مع جعب محشوة بالأطعمة، وتعرضوا لإطلاق النار وقنابل الغاز مجددا، وألقي القبض عليهم، وأجبروا على العودة إلى البيت. وفي الشقق التي كانت فوقهم، جهز الناس الإفطار، ومارسوا الحب، وغسلوا الأطفال في الحمامات. وتشاحنوا وتصالحوا وتشاحنوا مجددا. رجل يرتدي معطف مطر أصفر، نشر رايتين حمراوين كبيرتين، وقفز من مجمع تسوق. وكتبت امرأة على جدار عتبة السلم، بقلم أحمر وأرسلت صورة ذلك عبر إنستغرام. ثم قفزت من بناء شقتها. امرأة أخرى قفزت في اليوم التالي، وتبعها رجل آخر بعد ثماني عشر يوما. علمت الفراشة بالقليل من ذلك لاحقا، وهي تتصفح الحكايات والأخبار في هاتفها الجديد، خلال الاستراحة من العمل، وحين كانت في طريقها إلى العمل، أو في الليل وهي تحاول أن تنام. وكانت الأخبار مدعومة بصور جديدة من زملاء العمل وأقارب بعيدين ومشاهير تتبعهم: كانت تشعر بوخزة الألم أو الانفعال مع كل خبر، ثم كان شعورها يتبدل إلى غيره وهي تنتقل إلى خبر آخر. أما ما تعرفه عن ؤقين وبالتفاصيل هو حياتها الحاضرة - الحياة الممتدة أمامها مباشرة عن موضوعات محسوسة وصغيرة. كانت تشعر بالنسمة الباردة والرطبة تلفح وجهها، وضيق بذتها، وشعرها الزيتي والمجدول. آلمتها قدماها. وشعرت بشيء رطب في سروالها الداخلي، وضعت أصبعها لتتفحصه: كان هذا موعد حيضها الشهري.

في تلك الليلة، تعرقت الفراشة على الفراش الرقيق بين بنات من ووهان، وارتجفت في نومها. بالعادة تنام دون أن تحلم، بعمق ودون منغصات مثل الرضيع. في تلك الليلة اهتزت الفراشة. قبضت على الجزدان بقوة تحت وسادتها وحلمت بكل الأشياء التي ابتاعتها، وولدت بشكل إنسانة مختلفة تماما.

*ياعزيزتي

***

....................

* فيفيان لودفورد Vivian Ludford كاتبة أمريكية. تحمل إجازة في الأدب المقارن من جامعة برينستون.

* ترجمة صالح الرزوق / عن ناراتيف الأمريكية.

في نصوص اليوم