صحيفة المثقف

الهاربان (8 و9 و10)

قصي الشيخ عسكربدا محل التسجيلات غريبا عنه كأنه لم يعاشره عقدا من الزمان أو أكثر .. لقد أّلِفتَ الرحيل من قبل وأدركت بكلّ حواسِّك أنه يجعلنا غرباء عما ألفناه خلال سنين طويلة فيتلاشى كل شيء في ساعات بل لحظات، ومازلتَ تنتظر وصول صاحبك الذي ترآى له أن يربح وقتا داهمه من دونما أية علامة، فهو الآن يهمّ أن ينسى أنه نادر.ليكن بضعة أيام أكرم أو جودة.. يريد أن يصفي ما بقي له.. نادر.. أكرم إلى حين.. ثم يعود إلى نادر.. تحول لا بدّ منه لتنال حياة أخرى أشبه بجنة تدفع عنك القلق.. باع بعض الاشرطة بسعر منخفض.. وكدس ماتبقى في المخزن والأرفف والواجهة بشكل عبثي، ولاح حي السيدة كله غريبا عنه حتى توهّجُ الضريح عند المساء وقدوم الزوار أضحيا من الأشياء المألوفة التي مرت به ذات يوم .. مشاهد قد يراها كل سنة مرة مثلما تفعل أنت وقد لايراها ثانية أبدا ..

 كنت تتصل به أكثر من مرة في الأسبوع تستحثه على المجيء بحجة البضاعة.. وربما كان حديثك قبل أيام مع ابتسام حول إقبال، وازعا له للتأمل..

يراوده شيء ما.

يروّض نفسه على أن يحمل اسماآخر أما اشتهاؤه فلم يتغير.

لا يقدر أن يتناساه لى حين.

لا يخفي أنه يشتهي ابتسام.يعريها عندما يأوي إلى الفراش.يداعب حلمة نهديها بشفتيه.يدغدغ لسانها بلسانه حتى استفاق على اتجاه آخر كاد ينجرف له.كان يضع كفه على جبينه يغمض عينيه لحظة.. قد يكون ذهب بعيدا في حديثه مع ابتسام ولم يزجر خياله البعيد الذي يراوده في الليل وحين يستفيق يجد ما رآهمدعاة للغثيان.

يدرك تماما أنك يمكن أن تتخلّى عن كلّ ثروتك وتنزل عن كلّ شيء لرجل وهبكالحياة دون أن يعرف من أنت، ولم يكن يهمّه أن تكون بريئا أم مجرما، المهم أنه حقق نزوة الهرب فيك فهل تزل له لوسألك عن ابتسام.. دقائق.. نصف ساعة.. ساعة.. بضعةأيام.. قد يجتمعان وحدهما فلا يحدث بينهما ما يدورفي خيالك ليكتشف أنه يعريها في ساعات النوم لا اليقظة ولن يطلبها منك طول الدهر.. لاقتنعتببراءته؟

إنه يلومك أنت!

امرأة ليست سهلة.. تبدو متحررة فكيف قبلت بها.. أنت لست متزمتا وزيارتك للضريح تعدها واجبا. لكن الغريب في الأمر أن طريقة ابتسام مغرية وجذابة.. لاستار بينها وبين الآخرين.. هكذا يخيل إليه امرأة جريئة..

لم يتردد..

ضغط على يدها في حركة مفتعلة.. فحدثته بجرأة عن الزواج واختارت له ابنة عمّتها.. المرأة المشتهاة تشتهي له امرأة أخرى.. والحي المألوف يبدو له غريبا بكل شوارعه ومحاله وضريحه الذي يلجأ إليه وإن كان لايؤمن به.

فهل تغير العالم كله بعد لقائكما الأخير؟

 وهاهو يستفيق من ذهوله.. يمارس اسمهالجديد.فيرفع سماعة الهاتف ويدير القرص.. المرأة المشتهاة يأتي صوتها الحلو العسلي اللذيذ:

ألو . من نادر.. أهلا أخي نادر كيف أنت؟.

بخير.. أنا نادر واسمي الدلع اسمي الثاني أكرم اسألي شاكر عنه هل أجلب لكم بعض الكاسيتات فقد بدأت أصفي المحل.

آه فهمت !!معذرة سأخرج لشغل مهم أعتذر هذه المرة .. انتظر لحظة.اسمع يا أكرم ستأتي إقبال إلى المحل لتبتاع بعض الأشرطة !

مرحبا بها في أي وقت!

 هكذا إذن.. اعتذرت ابتسام حجةشغل طاريء.. إقبال تأتي وحدها، وفي باله ألا يتركها طول اليوم في المحل أو يخرجان إلى مكان ما.. امرأة تريد أن تنتظره عاما أو أكثر وهو في دائرة من فراغ.هناك امرأة تحرك هواجسه.. تدفعه لامرأةأخرى.. معادلة يجد نفسه الرقم الضائع فيها.. ظلّ ينتظر بلهفة.. تشتت ذهنه بين بعض الزبائن، وراود آخرين فضول فلم يفصح عن رحليه.. تعلل لزبون أنه يرغب أن يفتح محلا آخر.. مطعما في مكان بأطراف المدينة.. وادعى أمام زبونةترغب في الأغاني الشعبية أنه يفكر بمشروع يخص الاستيراد والتصدير.. وبعد أقل من ساعة وصلت إقبال فنهض مرحبا وبسط كرسيا لها فجلست، وعيناها تحومان على الجدران التي امتلأت بصور متباينة:

الله!هذا هو المحل !

نعم كما ترين صفيت بعض البضاعة بعد أن بعته وسأتركه نهاية الشهر!

الله يعوضك بأحسن منه!

 استأذن وخرج ثم عاد يحمل قنينتي عصير، وجلس قبالتها، فصمت لحظة وقال:

أنا أشكر أم زينة لأنها عرفتني بآنسة رائعة مثلك!

فقالت وهي تغض الطرف:

شكرا هذا من ذوقك!

هل تصدقين أني عرفتها منذ أيام فكأننا نعرف بعضنا منذ سنوات.

فرفعتْ إليه رأسها قائلة:

هذه طبيعة ابتسام إنسانة بريئة إلى أبعد حد متحررة ترفع الستار بينها والآخرين حتى يظن بعض ضعاف النفوس أنها فريسة سهلة لكنها أخت رجال .. .

تحذير أم ماذا؟هل تقول ذلك لتجعله يحجم قليلا عن أية مغامرة على الرغم من أنه لا يتردد، فقاطعها بضحكة خافتة:

حلوة هذه العبارة أخت رجال.

ازدادت ابتسامتها اتساعا وأردفت:

إنها تصرف النظر عن أي سوء تصرف من أي شخص مرة أو مرتين فتحمله محمل حسن الظن ثم تواجهه بعنف !

يبدو أنك تعرفين عنها الكثير: بحكم القرابة.

إنها ليست قريبتي فقط بل أختي وصديقتي!

فقال بعد تردد:

هل تزوجت شاكرعن حب؟

لا خطبة عادية لكنها تحبه بجنون وتعدّه الرجل المثال !

فهز رأسه وتطلع فيها متأملا كل كلمة بل كل حرف، فيتحقق من أن جموحه لا حدود له مثل الهرب الأول الذي منحك إياه من دون أن يفكر بالعواقب غير أنه بات مزهوا بذلك إلى أن حدث لقاؤكما، والحقّ أنهرآك شجاعا منذ أن وجدك تقع في براثن الموت فلم يسمع منك سوى تسبيحة مبهمة.. كان يبحث عن كلمة مناسبة فسبقته:

هي التي عرضت عليه فكرة أن يدعو معارفه إلى المطاعم والنوادي بدلا من البيت لأن بعضهم حين رآها بهذه الأريحية ظنها سهلة المنال.

أنت امرأة بسيطة لست ساذجة لكنك لاتعرفين اللف والدوران مثل نادية صورة أخرى من نادية التي لا عيب فيها سوى الذهول والشرود غير أنك أكثر ذكاء حكيت لي عن كل شيء ولم تحكي لي عن نفسي، فقال بشغف:

وما هو رأيها فيّ؟

تكن لك كل احترام مادامت قد رأت حفاوة شاكر فيك والصورة التي رسمها لك قبل أن يلتقيك بزمن بعيد.

في عينيها شيء ما لاتقدر أن تقوله..

الحياء..

الاعتزاز بالنفس.

صورة رائقة راقية لا أثر فيها لخدوش فرشاة الزيت رسمها لك شاكر، فشعت بعيني إقبال لكنكش لم تقولي إنها استدعتك لتطرح عليك فكرة الزواج التي لا بدّ أن تكون تلقتها من شاكر الذي يريد أن يحتفظ بك كما يحفظ نفسه هكذا رتبت اللقاء .. فكم أنت محظوظ يانادر.

شاكر يستحق كل خير ولابد أن الحظّ حالفه باقترانه من ابتسام!

صحيح هل تذكر لي كيف أنقذت حياته!

ستعرفين ذلك يوما ما أم ترينه اللقاء الأخير، وقال يغير مجرى الحديث:

هذه الرفوف كانت ممتلئة.وهذا الباب يفضي إلى المخزن وفي المخزن باب خلفي يوصلني إلى شقتي المتواضعة.. .مارأيك بالمحل!

لا بأس المهم أن الشغل في حال جيد.

ياستي .كل شيء ينتهي هذا الشهر " ونهض وهو يأخذ بيدها" يمكنك أن تري أي شيء يعجبك في المخزن.لاتترددي، فما لايباع يمكن أن أتركه في مكانه!

تبعته إلى الداخل، وتلمست يده الزر قرب الباب فتشتت بعض ظلام يخيّم على المخزن وانصهر ضوء المصباح بالنور القادم من البوابة المطلة على الطريق العام:

قولي أية أفلام ترغبين فيها!

أحب المسرحيات الكوميدية، والأفلام الساخرة.لا أرغب في الحزن لا الأشرطة ولا الأغاني الحزينة عادل إمام.. اسماعيل ياسين، أحمد بدير.صباح ماجدةالرومي، فيروز عصام رجي.

وقريبتك"كاد لسانه يسبقه فيقول ابتسام" أم زينة؟

مثلي تماما!

لا يشك قط.هو صاحبه الذي دفعه إلى هرب افترقا بعده فتدفعه أنت من جديد الآن إلى آخر تلتقيان بعده مثلك تماما يجمع الحزن والفرح.لا يرغب أن يجلس ساعة ينصت إلى أغنية حزينة ولعلك اخترت ابتسام على الرغم من فارق السن لانها تتشدق بالفرح وحده، وقد عدت بعد لقائك بمروان لتقترح على ابتسام أن تدعو إقبال. إقبال بفرحها الدائم وحيويتها أدركتْ أنك عثرت على سر فرارك وانتبهت إلى أنك تعيش معه وإن كنت بعيدا عنه.. حتى بدأت تخشى – إن لم تعثر عليه- أنك تصبح قيدا لاتستطيع منه فكاكا، ولا يشك أيضا أن ابتسام ستستدعيه وحده إلى البيت فتتصل بك عبر الهاتف كي تحدثه عن إقبال:

وماذا عن شاكر أتعرفين ماذا يحب؟

فأطلقت ضحكة خافتة أقرب منها إلى الابتسامة:

 الأفلام القديمة أبيض وأسود!

 أبيض وأسود..

 أيام الصبا.. البراءة.. العصر الذهبي سمه ماشئت فهناك أناس يعيشون الفرح وحده، وآخرون الحزن وحده، وأنت وصاحبك تعيشان الفرح والحزن معامهما يكن فهو يدرك تماما أن عالم الأبيض والأسود بدأ يتشظى .. يلاشى.. يذوب ويفقد بريقه.. موضة قديمة.. كانت تقلب أشرطة وكاسيتات حين قال فجأة:

أتعرفين .. أقول رأيي فيك.. . إنك حلوة جدا.

فأطرقت خجلة إلى الأرض، ولاحظ أن ارتباكها سرى إلى رعشة في أناملها، فالتقط بإبهامه وسبابته حنكها وأكد:

بجد أنت حلوة

شكرا "كررت بحياء" هذا من ذوقك!

"وأضاف"لكن لماذا أنت حلوة؟

حاولت حرف عينيها عن عينيه المتوهجتين إلى مشهد ما على الحائط.. صورة الفس برسلي.. شارلي شابلن.. صورة قديمة لليلى مراد.. لكنه ثبت عينيه بعينيها لحظات ثم هوى بشفتيه على شفتيها، قبلة طويلة.ترددت خلالها أنفاسه وضمها إلى صدره غير أنها على الرغم من استسلامها له انتبهت فدفعت صدره برفق بيديها، وقالت بصوت خافت:

دع هذا لموعده أرجوك.

 ومرقت كغزالة شاردة نحو مدخل المحل فجلست وهي تلهث. على أقرب كرسي وعيناها تروغان نحو الأرض تارة وحينا باتجاه الحائط، أو مصراع الباب المطل على الرصيف ثم عاد وهو يقول:

أنا آسف لم يكن قصدي أن أسيء إليك!

 كان هناك مَنْ وَضَعَهُنَّ في المشهد ذاته مع ذلك فهي لم تأت من أجل أن تتبضع.. قد يكون تسرع، مثلما تسرع مع ابتسام حين هصر يدها فاكتشف أنها امرأة أخرى لايدل تحررها المفرط على جموحها.. .خطؤه الوحيد أنه يصبر طويلا. ثم ينقض مثلما حدث له يوم دلك على الهرب.. وانطلق إلى المكان نفسه عن طريق آخر غير طريقك.محارب قدير متمرس يعايش تمرينا صعبا سنوات ليخوض معركة قد تستمر بضع ساعات، فهل تغير تلك القبلة كل الأحلام التي رسمها بعد لقائك الثاني به :

آسف لم يكن قصدي!

استعادت ثقتها بنفسها وقالت كأن شيئا لم يحدث:

لا أبدا لنترك كل شيء لوقته وساعته هذا أفضل!

نعم كما ترين!

وكان يفكر باتجاه آخر.

9

خمسة أيام مرت على حادث القبلة الأخيرة في المحل.. اختفت خلالها أحلام الليل التي اعتاد أن يوغل فيها إلى ابتسام.

وهاهو يجلس وحده مع ماتبقى من أثاث.فهل داهمته الهجرة من حيث لايدري أم هذه المرة تختلف تماما.اتصل كل يوم وليس هناك من مجيب. ابتسام بعد زيارة إقبال بساعات تحدثت معه عبر لهاتف وسألته عن ظرف قريبتها، ثم اطلقت ضحكة وعقّبت والله ذهب صاف .إقبال لاتفوتك.. لاتضيّعها.. وهو يؤكد كلامها .. ويقول مخاطبا حلمه الأخير كان من المفروض أن تكوني أنت، ويتساءل ياترى لو لم ينقذ شاكر في الساعات الأخيرة أكان يمكن أن نلتقي بطريقة ما.. . بشكل آخر.. غير الحلم والليل؟ إقبال ظريفة.. جميلة بل هي ليست الهدف.. وأنت التي اخترتها له.. وبعثتها لأنك متأكذة من أنها ستحدثه بصفته فتى أحلامها عن تحررك وإخلاصك.. .كم كان غبيا لو أطلق لعواطفه العنان وجرأته المعهودة.. . إنه الآن يتنازل عن كل شيء لك ياشاكر..

 كل شيء تماما

ليعترف أنه هرب بك فلَحِقتَه ليهرب منك. وها أنت تتصل به لتحثه:

ماشأنك يا أخي قل لي هل حجزت بطاقة سفر.

خلال اليومين القادمين فقد فرغت توا من بيع المحل.

لكن خبرني ماشأن البيت كلما اتصلت لايرد أحد؟

أهي إقبال؟ هل بدأت تحب!

يبدو أن ابتسام أخبرتك بمشروعها، أنت كلفتني بالوكالة والعمل وهي بالزواج

إنها لاتخفي عني شيئا!

 لاتخفي عنك شيئا، وانا الجريء الغبي الذي فسر اندفاعها تحررا من غير حدود.وأظن أنها لم تخبرك عن هصر يدها. مرة ومرتين تغض النظر كما تقول ابنة عمَّتها ثم تتنمر الغزالة الرائعة.. . أووه أين جمح بي الخيال.

طيب ياسيدي لماذا لايجيبون؟

سافرن إلى الساحل بحثا عن الشمس والبحر وقد وصلن اليوم قبل ساعة!

حسنا حالما تنتهي مكالمتك أتصل بالبيت.

 الساحل ..

 البحر.. .

 الشمس..

كأن كل شيء جاء عفويا وإقبال التي كانت على وشك السفر .. . أما الزمن فلن يتوقف .. قد يبدو كذلك غير أننا لانحس به مادمنا نتآلف مع الأشياء.. عقد وبضع سنين وهو يرى كل شيء فيألفه.. حركة السيارات في الخارج.. الزائرون.. المطاعم.. زيارات الخميس للضريح.. أصوات المارة. وصخب المرور.. أشياء مألوفة بدت بلا لون .. وفي أيام معدودة سقط حجر صغير في تلك البركة الراكدة فتحركت دوائر الماء فيها:

آلو مرحبا

أهلا بدران

الحمد لله على السلامة.

هكذا إذا كل يوم اتصل ولا من مجيب وأنتم مع الشمس

يبدو أنه الشوق!

ولو بيننا خبز وملح!

ياسيدي سافرنا في الليل صدقني حوالي العاشرة ليلا حيث حضرت صديقات راغبات في السفر واقترحن علينا الذهاب معهن سفرة مفاجئة سمها ماشئت.. كانت إقبال تروم السفر في اليوم التالي لكنني اتصلت بعمتي في لبنان لأقنعهم بتأجيل عودتها إليهم بضعة أيام هكذا حدثت الأمور.

طيب متى تسافر إقبال.

اليوم سأوصلها إلى الكراج بعد ساع’

سآتي لأسلم عليها.

 حجة . لابأس بها.. صاحبك يريد أن يغير المعادلة.ليكن آخر لقاء مع ابتسام ثم ليكن كل شيء على مايرام أو على حاله التي وجد عليها.. غادر المحل .. وفي ذهنه أن يودع ابتسام نفسها التي اغتصبها منه شاكر من حيث لايدري.. أنقذه ليجد بعد سنوات أخذ منه المرأة المشتهاة والغريب أنه سمع بالبحر فلم يهمّه إن كانت استلقت على الرمل كاشفة عن جسدها.كان يتمتم ليكن آخر لقاء ويسخر.. لم ينس نادية والحمل.. . ومازالت حرارة شفتي إقبال في فمه .. وهناك امرأة مشتهاة يعرفها ولايصل إليها.. وإن سلك كل الطرق..

 وطالعته ببشرة جديدة.. التمثال الأبيض النقي.. الجسد البض تحول إلى تحفة سمراء. تعرت أمام العيون تحت أشعة الشمس على الساحل.ترى كم عينا التهمتها.. وتقدمت نحو زينب وقد اصطبغت سُمرة مثل أمها:

عمو المرة القادمة ستكون أنت وبابا معنا على الساحل!

أناطوع أمرك.

وقالت الام:

نحن الآن مشغولون سنغادر إذهبي ماما مع نينة في المطبخ.

وغادرت وهي تتطلع في وجهه وتقول:

المرة القادمة أوكي!

اجتازا إلى الغرفة.وكانت هناك حقيبة ملابس خمن أنها لإقبال التي نهضت تستقبله عند باب الصالة:

ماشاء الله لم تعودي من الساحل سمراء!

فضحكت وقالت كمن تتمطى:

لم ترغب ياسيدي تمنعت قالت تخجل !

يعني لم تنزل البحر ولم تأخذ حمام شمس.

فقالت إقبال بشيء من الحياء:

تركت الشمس لك لأنك ستفارقينها .

فغمزت بعينها نحو إقبال :

 يمكن لو كنت معنا لكنتَ أقنعتها!

 فتورد وجه إقبال التي تطلعت نحوه بنظره ما ورن جرس الهاتف، فقالت:

يمكن زوج خالتي سيأتي لنصحبك إلى الحدود، فقال وهو يصافحها:

مع السلامة:

لكن ابتسام اعترضت:

لالا لا نحن لسنا معقدين مثلكم نحن العراقيين إما قبلة من الخدين أو على اليد.

رد ضاحكا:

ولا يهمك الإثنين معا

وعند الباب قالت جادة:

اسمع أخبرني أي يوم تقتطع تذكرة السفر لأنني أود أن استدعي عائلة إقبال قبل سفرك لأعرفك بهم!

فهز رأسه وضغط على يدها برفق هذه المرة:

مع السلامة!

10

المرأة المشتهاة ودع ولم يودع إقبال.. ففي اليوم التالي حاول أن يتذكر حلما توغل فيه البارحة فلم تسعفه الذاكرة، وقال مع نفسه إن الآخرين يعدون له كل شيء .. السفر الهرب. والزواج.. حركوا في بركة روحة دوائر ساكنة امتدت بعيدا ولم يرد أن يكون كذلك.. كان يبحث عن سفره بنفسه ويترك الزمن يقرر هربه.. لم يهرب لأنه يرى الآخرين يهربون فهل هناك من طريقة أخرى؟ اندلعت الحرب فقال لم أموت فيها. انفجر شيء عظيم هز العالم فهرب. ويوم ترك لبنان اطلق سراح محكوم بالإعدام .. نجاة نفسها فاجأته بحملها.. أما الآن فيرى كل شيء حوله معدا له سلفا.. المرأة المشتهاة تزوجه غيرها.. فماذا لوجرب بنفسه من دون مقدمات مثلما كان يفعل من قبل؟

 ذهب إلى الحمام، واستمتع بحمام بارد. ثم لملم مايحتاجه من ملابس.. قصد الضريح الذي يخافه ولايؤمن به.. تمعن جنب الشباك عند مكان ضم قبل أيام مصروعا.. وتساءل أية معجزة تدفعه ليتخذ مثل تلك الخطوة.. إن هو الهرب فليكن على طريقته..

سوف يصل ألمانيا

وسوف يتزوج من إقبال

يعمل هناك

يكون له طفل لايضطر لإجهاضه..

حياته رسمها شخص بريء أو عميل اسمه شاكر رؤوف. وابتسام كما خيل إليه عرفته جموحا جريئا فتوقعت أن تكون هدفا له، فاختارت بلحظةٍ مناسبةٍ إقبال فلم يستطع أن يكبح رغبته بسفر آخر كما رآه في لحظة مغادرة حي السيدة..

إنه لم يخنك..

 شاكر..

 أجمل ماكنت تحلم به أن تلتقي منقذك ذات يوم.جئت ورحلت وبينكما بون شاسع.. وهاهو يلقي نظرة إلى المحل الذي آواه كل تلك السنين. لم يعد البلد الذي هرب منه مأوى للمنظمات. والحواجز. لديه جواز سفر واحد يعبر عنه خير تعبير. جندي العدو صديقك الذي أعلن عن نفسه فوضعك موضع التهم ورهن إشارات السوء اختفى هو وآمره ووجوه شتى ترددت على الحاجز .. معك منه ذكرى .. شيكل ثم رحت تدخل بيوتا أخلوها .. ماذا تقول عن اللقى التي عثروا عليها في جيبك.. دخلت بيتا وبيدك سلاح فتاك.. جرأة يتلاشى معها الموت .. ركلت الباب بكل حماس ولما لم ينفرج صوبت سلاحك للقفل.. رفيقك اتجه إلى بيت مجاور..

كن حذرا كي لا تموت..

 ربما تنزلق على رأسك رمانة من أعلى الباب لعبة شد جذب مع الموت.. لا تبالي.. عبرت الدهليز إلى الفاترينا حيث مجموعة تحف جذبتك:ست ملاعق من فضة.. وفي غرفة النوم شدك الفراش العريض ونشوة بعثتها آهات رجل وامرأة.. ثم فتحت خزانة الملابس فأطلت عليكَ من مصراعها صورتك .. لو تأخر بصرك قليلا لخلته شخصا آخر.. نبشت بين طيات الملابس .. مقاتل.. لص.. وفي يدك قطع ملابس داخلية.. .أخيرا من بين فتحة صغيرة من مكان لم يخطر على البال.. أعلى الخزانة حيث تسلل ضوء من الدهليز لفت نظرك شي ..

مكان قلق.. .

زاوية محشورة.. . هكذا كانت حزمة من الدولارات بيديك .. عملات مختلفة.. شيكلات.. أووه.. من حسن الحظ أن رفيقك يفتش بيتا آخر.. سيحرقه إن لم يجد فيه شيئا.. خلال تلك اللحظة تسللت إلى أذنيك حركة ما خشخشة بدت مثل دبيب جرذ واحتدت.. تتبين فيما بعد وقع أقدام ترجّ إليكَ الأرض فدسست لقاك تحت سرتك .. وتهيأت بسلاحك:

أنا رفيق لاتقلق..

أوه هذا أنت.. " واستدركت"

 هل عثرت على شيء هناك!

أبدا!وأنت؟

كان الشاب النحيف الذي فتش البيت المجاور يجيب بنظرة ماكرة:

أبدا لاشيء!

لاشيء وقد وجدوا معك دولارات وعملة للعدو.. حزمة أغرتك.. يداك تحسستا تلك القطع واستقرت أناملك عند الشيكل.. مازالت مشاعرك باردة.. قطعة معدنية صغيرة.. تنك.. صفيح.. أهداها لكَ جندي على الحاجز ويدك في بيت استلت حزمة من نقود.. كانت هناك تحف.. ونقود في أكثر من بيت ويدك تلتمس الشيكل.. وجهان له.. وشكل لاتعرف صاحبه.. لغة لا تدرك حروفها ووجه آخر

خمسون ..

عشرة

أي مبلغ..

هل يدرك الآخرون الذين اتهموك أنك ورثت الصرافة عن والدك وأن أية عملة تجتذبك كما يجذب مصباح متوهج فراشة.

حشرة!

تعلم ياولدي كيف تراوغ الدولار.تعبث به وهو بيدك.تعرف سعره كل يوم.الفرنك الفرنسي.المارك الألماني.الين.الباوند.شغلة الصرافة ذهب سائل بين يديك ترثها من اسلافك، وهناك ورقة ناعمة لاتثير فيك أي إحساس.لا تدرك من خلالها النفور ولا الكره.. التقزز أم الخجل.. ورقه تقع عليها عيناك للمرة الأولى .. وتظن أنك تتقزز تقرف.. إنك لا تكذب على نفسك وفي حوزتك رزمة من دولارات وليرات تنفعك في قابل الأيام.. لا تنس أنك لا تدري إلى متى تقيم هنا.. .ما كنت تظن أنه ينفعك أصبح يدينك.. يدمغك.. وقد أنكرت أنك عثرت على شيء فلم تحاول أن تنفي تهمة لتثبت تهمة أخرى.. لص.. جاسوس.. لايهمّ .. ولا يهمّك أيضا أي وقت كانت حزمة النقود بيدك.. لن يكون شتاء عاصف يأتي بالثلج والبرد والصقيع.. ولا شمس في الصيف تسطع فييبس من الحر حلقك وتفتر عن وهنٍ شفتاك أو أوراق صفراء تتساقط مع الخريف.. ولا تعنيك أن تكون الساعة الثامنة مساء أم السادسة عند الفجر.. أي وقت أي يوم أم شهر.. . فهاهم الرفاق، في يوم ما، في ساعة ما، يضعون الأصفاد في يدي بتهمة الخيانة.. .وهو الذي لا تعرفه ولم تلتقه من قبل ينتظرك فيجعلك تهرب.. لا ينفعك أن تقول عن نفسك لص.. سارق بيوت.. وماكان بحوزتك عثرت عليه خلال مداهمتك بعض البيوتات وغيرك من الرفاق سرق ذهبا وتحفا وقطع عاج.. الآن الزمان تغير.. وملامح المدن تبدلت.. ولعلّ الحارس الذي فررت منه مات.. ليقل عنك مايشاء.. يسجن شخص أهون من أن يموت آخر.. أما شاكر فلن يأتي الآن .. صاحبك الذي كان يرى الجبل وانعكاس الضوء حوله فيظنه بحرا جميلا هادئا مسالما مسالما ثم يشير عليك بالهرب والتخفي عنده فالأفضل لاتنتظره.. هناك شيء ما في باله.. لاتظنه سهلا.. لعلك لم تفهمه لا في اللقاء الذي سبق الهرب ولا في لقائكما عند الضريح بعد سنوات من اغترابك.. إنه حقا يرثي لإقبال التي التقاها لقاء عابرا وفهمت منه أنه سوف يأتيها ربما لو تكررت لقاءاته معها لكان يمكن أن يحدث معها ماحدث لنادية.. كل شيء قد تغير فَلِمَ التردد؟سيزور المحلة القديمة مطمئنا ويسأل عن نجاة ربما داهم مسلحون بيته بعد افتضاح الأمر فأجهضتها لحظة الرعب، ولعلها حقا أخت رجال تشبثت بحملها وربما ابنه الآن او ابنته في سن الثانية عشرة..

كل شيء جائز.. . الحياة تكون لها قيمة حين نقتل شخصا وننقذ آخر وقد تكون لها قيمة حين يُقتل الإثنان.. أو يعيشان كلاهما.. معادلة صعبة نجد أنفسنا وسط دوامتها من حيث لاندري.. مثل الأشرطة القديمة ذاتاللونينالأبيض والاسود فحسب!

 وقد ودّ من أعماقه أن تكون نادية أعرضتْ عن فكرة الإجهاض.. إن عثر عليها سيهرب وطفله معها إلى بلدان الأمان فلديه مال من شاكر ومن بيع المحل يكفيه لمثل تلك المغامرة.

الهرب شيء جميل بحد ذاته لكنه سيدخل بعض التعديلات على خطته..

لِمِ لا مادام هو الذي يباشر خطة الهرب!

لكنه غير أيّ شيء.. .

ولن يعدل.. لن يصبح أكرم، ولا ضرورة أن يقفز إلى شخص آخر. يتقمصه كي يرجع إلى نادر بعد أن يستقر في مكان آخر.

لايريد أن يرسم حياته الآخرون مثلما رسم حياتك !

 هكذا حدث نفسه..

قبل أن يلتقيك كان يتوجس من الماضي والمستقبل.اللحظة الراهنة تستهويه فلا يفكر بما يمكن أن يكون.

لا يتأمل..

والآن أخذ يعيد حساباته.

للمرة الأولى يشعر أن هذا الكون اللانهائيّ المرعب المخيف أصبح أليفا مثل النسيم.. فهبط من سيارة الأجرة في كراج االحافلات الخارجي.. وقصد إحدى السيارات الصغيرة ثم لحق مناديا يصيح:

حدود نقل خارجي..

حدود.. .حدود..

فتعجل باتجاه الحافلة ودلف وهو يفكر بعوالم جديدة اختارها لنفسه من دون تدخل الآخرين غير أنه في تلك اللحظة -لحظة العودة إلى نقطة الهرب الأولى التي بدأ منها قبل سنوات- أيقن تماما أنك حركت الرماد الذي احتوى جمرات روحه لا لست وحدك الذي حرك الرماد بل ابتسام معك وإقبال لكن لاتنتظره قط. فإنك لن تراه بعد اليوم !

انس تماما لقاءكما الأخير!

انتهت

 

قصي عسكر

..........................

كتبت عام 2005

وقتها التقيت صديقا قديما في لندن خريج كلية تمريض بغداد. وهو جار لنا في التنومة بيتهم خامس بيت عن بيتنا، وقد هرب إلى لبنان بداية ثمانييات القرن الماضي وعمل في إحدى المنظمات. أخبرني أنهم أحضروا له محكوما بالإعدام ليسحب من دمه ففعل ذلك ثم خدر الحارس وجعل المحكوم يهرب ثم هرب هو لقناعته أن هذا الشخص بريء.

هذا ما سمعته منه، أما التفاصيل فهي من خيالي.وقد كان أمامي مخططان الأول أن أجعل الممرض يغوي زوجة المحكوم السابق اي أنه أنقذه وبعد سنوات طعنه! أو أجعله بعد أن يلتقيا يقاوم أي جموح فيغير رأيه بعد اللقاء ويعرض عن الهجرة ليبحث عن صديقته التي تركها حاملا ذات يوم.

أذكر القاريء الكريم بأخلاق الرواية الروسية العظيمة التي كنت أدمن قراءتها منذ المرحلة الابتدائية الصف السادس الابتدائي التي بدأت برواية الأم ثم من حقي وأنا الهارب أن أرسم صورة نقية للاجيء العراقي زمن السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.

تحياتي لكم جميعا.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم