نصوص أدبية

ناجي ظاهر: زهّير المغارة

كانت مغارتنا معتمة مطبقة في ظلامها، عندما دخلها من جانبها اليساري، وكانت تلك المرّة الاولى التي أرى فيها وافدًا زهيرًا مُنورًا يدخل مغارتنا المقدّسة الملعونة. كان نوره ينبعث من كلّ خطوة يطبعها على أرض المغارة. وكان يمضي بخطى ثابتة، كأنما هو واثق من أنّه جاء بشيء جديد، يُشبه الحقيقة، غير أن ما حدث هو أن أحدًا لم يلتفت إليه، كما توقّع.. على ما بدا من حركاته وسكناته.. الموزونة في كلّ حركة ونأمة, يومها حاولت أنا الغريب المُهجّر الفتيّ عاشق القصص الابدي، أن أقترب منه لعلّه يروي لي قصته، إلا أنه لم يلتفت إليّ.. وواصل طريقه.. ليدور دورة ودورة وأخرى في مغارتنا المُظلمة، ولينسحب، ربّما لأن أحدًا لم يلتفت إليه، كما ينسحب كبار الرجال وعظماؤهم، بهدوء وصمت.. انسحب من نفس الجهة اليسارية التي دخل منها.

دخوله المفاجئ وخرجه المتخفّي من مغارتنا، أثار فضولي لمعرفة المزيد عنه، فتابعته على الدعسة شاعرًا أنني أعيش لحظة تاريخية لن تتكرّر في عمري المحدود بين الستين والسبعين، أما هو فقد سار في طريقه.. وسرت أنا وراءه متكتمًا حذرًا.. مَن يعلم فقد يحدث بيني وبينه إذا ما رآني أمشي وراءه ما لا تُحمد عقباه، أضف إلى هذا شعور بأنني لا أضمن أن يتقبّلني في عالمه "الزهّير"، أنا المهجر ابن المهجر.. أحد سكان المغارة السادرة في غيّها وضلالها؟، هل خشيت أن يعتبرني جاسوسًا يتقصّى أمره ليقتله بعدها معتمو المغارة؟ أم سيراني صديقًا محتملًا.. بما أن شيئًا غير مضمون. عليّ أن أتخفّى لأعرف.. أرى وأسمع.

سار أمامي وسرت وراءه.. كان الطريق ممتدًا طويلًا. الغريب أنه لم يتعب ولم يتوقّف عن الانطلاق نحو هدفه. أما أنا فقد حملتني قدماي بقوة حبّ الاستطلاع والمعرفة، وواصلت السير مُستمدًا قوتي واندفاعتي منه هو.. لا من سواه، فقد حفزتني خطواته المُشعة الواثقة، على مواصلة متابعته واقتفاء أثره.

عندما وصل مغارة مُنيرة هناك في راس الجبل الاشمّ، كان لا بدّ من أن أتوقّف.. هناك بالقُرب منها لأرى ماذا بإمكاني أن أفعل لمواصلة عيش تلك القصة المُدهشة المُثيرة ومُعايشتها. وكان لا بدّ لي من أن أقف قريبًا جدًا من مدخل تلك المغارة، لاستمع إلى ما ينبعث منها من صوت أو أو حسّ وحركة.

صوت نسائي: قمحة والا شعيرة؟

صوته الهادئ: لا قمحة ولا شعيرة..

صوت نسائي: ألم يرك أحد؟

صوته: لا أعرف.. ربّما لا أعرف.

صوت نسائي حنون: إلى متى ستحاول؟

صوته بثقة: إلى أن يراني سكّان المغارة.. يجب أن يروني لأروي لهم قصتي.. الأمل لا ينتهي.. يجب علىّ المحاولة لأحظى بشرفها.. ثم مّن يعلم قد يستمع إليّ شخص وآخر.. حتى تستمع إلىّ الملايين.

بعد هذه الكلمات لم أستمع إلى المزيد.. انتظرت أن أستمع إلا أن الصمت خيّم على المكان كأنما هو هالة من النور المُصرّ على ملء الفراغ.

عندما عدت إلى مغارتنا، كان الجمعُ نائمًا، وكان الليلُ مُخيّمًا كعادته.. وضعت رأسي على حجر انتظرني هناك في أقصى المغارة، ونمت.. رأيت فيما يرى النائم ذلك الرجل المُنير.. كان يتردّد على مغارتنا بين الفترة والاخرى، مُصرًا على أن يراه أهلها غير أن أحدًا لم يلتفت إليه، فدخوله بالنسبة لهم لا يختلف كثيرًا عن خروجه.. الامر سيّان في نظرهم..

استسلمت لذلك الحلم الجميل. واسلمت عيني للوسن الهابط من سمائه السابعة.. استسلمت برغبة ومحبة، فأنا الوحيد الذي رآه، وأنا الوحيد الذي سمع صوته وهو يُعبّر عن إصراره على رواية قصته الخاصة للأهل في مغارتنا المُظلمة. استيقظت بعد يوم أو بعض يوم.. على جلبة وضجة تدُّب في المغارة.. تدُّب بصخب وعنف.. وكان أول ما ظهر منه.. من رجل النور، قدماه. اهتزت المغارة. فظهر وجهه، كان شيخًا مُسنًا.. بلغ من العمر عتيًا. دار دورة وأخرى.. دار في كلّ أرجاء المغارة.. كان واثقًا من خُطاه المتعبة هذه المرّة.. غيرًا عن أي مرّة سابقة.. دار أربعين دورة وأنا أرقبه.. وأعد خطواته المُحكمة.. وعندما تعب على ما بدا.. خرج من ذات الجهة المغاريّة. شعور قوي استفزني لئلا أفوّت تلك اللحظة التاريخية. قفزت وراءه حيث جلس ينتظرني خارج المغارة.. لأجد نفسي قُبالته وبين يديه.

توجّه إليّ مبتسمًا وشرع يحكي بثقة واتزان إنسان حقيقي.. قال: اسمع يا صديق.. إياك أن تظن أنني لا أرى. لقد رأيتك منذ أول مرّة دخلت فيها المغارة وبعد أن اقتفيت أثري. قال وتابع قبل أن يمكّنني من طرح السؤال الابدي كيف. ثم إنني رأيتك خلال تردّداتي المتواصلة على المغارة. فتحت فمي لأسأله عن سبب عدم تحدّثه إليّ. غير أنه قاطعني قائلّا: أعترف أنني دخلت المغارة كلّ هذه المرّات لأروي قصتي.. إلا أن أحدًا لم يرني.. وربّما لم يشأ أن يستمع إليّ.. لا أعرف السبب.. أما وقد رأيتني أنت.. فإنني سأروي قصتي كاملةً لك.. مَن يعلم فقد يرى سكّان مغارتك ما رأيته أنت.. وقد يستمعون إليها.. منّي في هذه السن المُتقدّمة.. وراح يروي قصته .. لم تكن غريبة عن قصتي.. بل كانت هي.

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم