نصوص أدبية

زهير ياسين شليبه: مسودَن العراق

صديقي العزيز!

أنت تعلم أنا لا أكتب الرسائلَ لشخص آخر غيرك! إسمك محفور في قلبي، بل في كلّ القلوب! ومدوّن في أعماق الأعماق!

أجلسُ أمام منضدتي، أنقرُ عليها بإصبعي متطلعاً إلى هاتفي متوقعاً رنينه في أي لحظة! أنتظرُ مكالمةً هاتفيةً. لن تأتيني هذه المحادثةُ بالتأكيد من أخ أو صديق أو قريب أو حبيب. هؤلاء الأصدقاء والأحبة تبخروا، لم يعد لهم وجود. ولا من الأهل، إنهم بعيدون كما لو أن سور الصين العظيم يفصلني عنهم. متى سأجتازه؟ هذه أمنية محالة كما تبدو لي بعد غربة طويلة، بدأت تقارب الثلاثين.

عُمر وتعدّى الثلاثين! ومع ذلك لستُ متشائماً، كما يبدو لبعضهم! هذه هي الحقيقة. لكني قلق، مشوّش، مشغول دوماً! أتصفّحُ أكواماً من الأوراق المبعثرة أمامي، ثم أتركها لأقلّب أفكاري، أقرأها واحدةً تلو الأخرى حتى أنتهي ببلادي، بتُّ أخشى عليها من نفسها أكثر من أي شيء. كم هي كثيرة المرات، التي ملأت الدموع فيها مآقي عينيّ، كم مرة من المرات، راودتني فيها أفكارٌ سوداويةٌ وحالات ونوبات هستيرية، وكثيراً ما كنت أمنّي نفسي قائلا لها: "العراق ليس سهلاً، فرس جامح لا يُروّض، مثل العراقيين الإنفعاليين، الطافحين بالمشاعر والأحاسيس كفيضانات دجلة والفرات، يا ترى ماذا سيكون مستقبله لو تخلص من المسودنين والرعناء".

هل يمكنك أن تتصور عراقاً بدون جنون أو"مسودنلغية"؟ بالتأكيد أنه سيكون صورة نورانية لجمال أخاذ ليس له نظير، بهاء من نوع السمو الجمالي! العراقيون حالمون، زاخرون بكل شيء متدفق، تلقائي، عفوي، وقد يصممون المدن الفاضلة ويسنّون قانون الضمان الإجتماعي ويستقبلون اللاجئين والمضطهدين من كل العالم، ويؤسسون العالم الطوباوي ويعيدون أمجاد الفلاسفة المشّائين والمفكرين الباطنيين والصوفيين وينشرون سياحة الفكر، لا أحد يتركهم يعملون ذلك، هذا أمر مستحيل، سيُحرمون من بلادهم الجميلة وسيبقى الأطباء والمحللون النفسانيون هنا يستقبلون العراقيين الهاربين من الحروب والأزمات، وأنا أترجم لهم! "مصائب قوم عند قوم فوائد"!

أحد المرضى العراقيين قال لي قبل عدة سنين: "العراق يحتاج إلى ثمانية عشر مليون طبيباً نفسانياً، بعد فترة، زادَ شخص آخر الرقم: إلى إثنين وعشرين مليوناً، وأصرَّ ثالث قبل عدة أيام وبعصبية: على خمسة وعشرين مليونا، قالها صارخاً في أذني، لم يكن بعيداً عن مكتب عملي، إنتبهن له زميلاتي وزملائي الهادئون:

- أخي أنت واهم إذا كنت تعتقد أن العراقيين يصير براسهم خير، هذوله كلهم مسودنين، صدقني هذا مخبلنا موجود في كل شخص عراقي! أنت إنسان متفائل وما شفت العراق، طلعت منه في عزّه وعشت مع الأوربيين الأوادم، أنت أصلا مو عراقي، بس والله أحلف بربي ووجداني! أقول الحق أنت إنسان شريف، تركت العراق من بداية سرطان المسودِنين، أنت عملياً تنبأت بمستقبله وهربتَ منه، لو كنتَ دنيَّ النفسِ وتركض وراء المال لقاء أيّ عمل لبقيت في العراق، كان ممكن أن تتملق وتتزلّف وتتخشخش، لكنك ما سوّيت هذا الشيء لأنك أصيل، العراقيون إذا ما تجلدهم يجلدنوك، هذه حقيقة لازم تعرفها وتتذكرها، ودير بالك تغلط وترجع للعراق، خليك هنا معزّزاً مكرّماً بعيداً عنه إذا كنتَ فعلاً تحبه، راح تشتاق لصورته الوردية، هذا أفضل لك.

أتذكّر أني مقتُّ كلامَ هذا اللاجىء العراقي، لم أحقد عليه طبعاً، بل ضايقتني سوداويته وتعبتُ من إصراره على الزعيق، ألمحتُ له أن يكفَّ عن ذلك، دون جدوى، لم أستسغ النبرة، أجل، لم أعد أطيق الإصغاء إليه، صعب وقاسٍ للغاية، ملىء بالتشاؤمية وجلد الذات، لكني لا أشك بصدقه وحبه لبلده الدامي. يتكلم من حرقة قلبه! أكثر ما يثير شفقتي: المظاهر والإدعاء والتشدق والخطابة والتهور!

لا أزال أجلس منتظراً الإتصال الهاتفي! قرأت في مفكرتي: ترجمة هاتفية للدكتور النفساني نيلس من مركز اللاجئين، حجزني، نسيت كتابة تفصيلات عنها في مفكرتي اليومية، لا رقم هاتفه ولا إسم الشخص ولا العنوان الكامل. هيّا يا نيلس، أنت تسأل ونحن نترجم! وتمتمتُ بين نفسي: أنت تسأل والحزب يجيب!

صديقي العزيز

أجلسُ وعيناي تتلصصان بين الأوراق بحثاً عن رسالة كتبتها لك قبل مدة بدموع عينيّ. كان المفروض أن أبعثها إليك ولم أستطع أن أعرف مصيرها لتشتتي وإنشغالاتي الكثيرة. أجلسُ متوقعاً تلك الترجمة الهاتفية وأفكر بالرسالة الضائعة. في الحقيقة أن حال الترقّب طال وإنشغلتُ في البحث عنها. المهم ما في الأمر الآن ليس إنتظار المكالمة الهاتفية فحسب، بل رسالة مفقودة تعبتُ في كتابتها، بالأحرى تأليفها، والشيء الآخر الذي قد يكون أكثر أهمية بالنسبة لي، وأقل للآخرين هو: لماذا وكيف تختفي المكاتبات والأوراق والوثائق من مكتبي وفي بيتنا. هذا أمرٌ غريبٌ، بل إنه خطير للغاية. هذه موضوعة هي الأخطر إستأثرت بكلّ فكري في الآونة الأخيرة، وأنا مشغول بالعراق ومستقبله، مهموم به.

إذا كانت الرسالة تضيعُ، تختفي من مكتبي فلا عتب على الآخرين المتهالكين على بلاد الرافدين، هؤلاء سيستبيحونه، سيسرقونه وسيخفون كل شيء منه، سيغدو خراباً يباباً!

سبقَ لي وكتبتُ لك رسالةً منمقةً جميلةً مليئةً بالمعلومات، لكنها ضاعتْ! أين؟ لا أدري. وبدأت أشكك، ولا أعلم إن كان المكتوب قد يكون فُقد فعلاً أم أني بعثته لك بالبريد العادي أو ببريد الأحلام، أما الإليكتروني أو ما يسمى بالإيميل فأنا اعلم أنك لا تتعامل به. لكني على أية حال لا أتذكر بأني حقاً أرسلتُها لك، أقصدُ في الحقيقة والواقع، قد يكون حدث ذلك في أحلام اليقظة والخيال والمنامات، أو مع الحمامات، حمام الزاجل مثلاً، لِمَ لا؟ كل شيء ممكن في هذه الدنيا! وأنا كثيراً ما أخلط بينها كلها.

طبعا ثرتُ لضياعِ الوثيقةِ، أو نقلها وإختفائها أو إخفائها أو فقدانها أو سرقتها أو بالأحرى وئدها، أو حتى إجهاضها قبل ولادتها، خرجتُ عن طوري، عقدتُ العزمَ على أن أتخذ إجراءاتٍ كثيرةً: منها التنديد والتهديد والوعيد والخ من أمورٍ يعرفُ ربعي بأنها مجرد بالونات هوائية فارغة أو زوابع في فنجان، كما يقولون.

نصحني إبننا الصغير بأن أكتبَ الرسالة مرةً ثانية وأنهي المشكلة! يا سلام! يقصد طبعا أن أعيد كتابتها. زجرتُه ممازحاً على طريقة أي مسودَن عراقي قائلاً:

- أسكتْ لك! هذه مو فكرتك، هذا إلهام من السيدة إلهام!

إبتسم الطفل ببراءةٍ متفرساً بوجهي، قلتُ له بودٍّ:

- أنت سمعتها من أمك السيدة إلهام!

والدتُه إلهام كثيراً ما يحلو لها أن تُردّد بأنها تتصرف بإلهام، وأنها إسمٌ على مسمّى! تتصور أن الإلهام في غاية السهولة والتفاهة. تُفكرُ بالإلهام دوماً، وأنه أسلوب حياتها! كما تصرّح نهاراً مساءاً، همساً وجهاراً، إنه مجرد إدّعاء! وتتحدث عنه كأنها موهوبة حقاً بة، لكنها تحلُّ كلَّ أمورها وقضايانا و"مصائبها" المتتالية هاتفيّاً، ولَمْ تكتبْ كلمةً واحدةً في حياتها! وعندما تُضطر لكتابة رسالة تلجأ لحضرة جنابنا، تضغط علينا لتنفيذها باللحظة رغم إنشغالاتنا الكثيرة المعروفة للقاصي قبل الداني! هذه هي إلهام! كيف لها إذن أن تشعر بصعوبة التأليف ومعاناته؟ بينما أنا أعتبرُها، أقصدُ إعادة الكتابة في غاية المسؤولية، بل الخطورة كونها توهمنا وتوقعنا في المفسدة والتزوير والتزييف والمطبّات. ولولا خوفي من تهويل الآخرين وإتهامهم إياي بالمبالغة والتهور، لقلتُ: إنها أمر مستحيلٌ، وأصعب من إعادة كتابة تاريخٍ أراد مسودَن العراق أن يدونه حسب أهوائه من جديد، ويغيّر قوانين البلد بجرّة قلم ..

هناك أمر مهم، بل خطير للغاية تذكّرتُه الآن كما أعتقد وأتصور وأتخيّل أو بالأحرى أتوّهم، ولا أريد أن أجهره أو أفشيَه وأعلنَه على الملأ، بل أهمسُ به إليك وحدك، وهو أني أعدتُ كتابةَ الرسالة! أجل، تعبتُ وأنهكتُ ومللتُ من البحث عن الوثيقة الأصل، هذا هو الواقع، أخيراً يئستُ، كتبتُ لك رسالةً ثانيةً، نسخةً أخرى لكنها هي أيضاً تبخرت مثلما تضيع أهم الأشياء وأجملها في حياتنا! قسمه! فُقدتْ كما تضيع القوانين وتفاصيل التاريخ اليومي والأرواح كقطرة في المحيطات.

لا أدري إن كنتَ تتفقَ معي في خطورة هذا الأمر أم تعتبره تافهاً. إزدادت شكوكي وظنوني، وقلقي لما يمكن أن يحدثَ، وأنه سيكون الزوبعة، العاصفة، الإعصار، القيامة أو أي أمر كبير، ضخم، عظيم، مهول، هائل، أكبر من الديناصورات وآلهات العصور الأسطورية، إنها قضية عصية ومرعبة ستجرف كلّ شيء معها: رسائلي المسروقة والتالفة والمجهولة والمفقودة وغير المكتوبة وغير الضائعة، أموالي المنقولة وغير المنقولة، أسمائي وكلماتي، كلها يمكن أن تذهب سدىً، أدراج الرياح الغربية العاتية، إلا حبي وكياني، بل كل الجغرافية والتاريخ العراقيين، إلا دجلة والفرات. هذه هي المرة الأولى التي تجاوزت فيها شكوكي المحظورات، شملت أموراً كثيرة، لكن ليس كلها والحمد لله.

صرتُ أشكُ في نفسي وفي الذين يتحركون حولي! بدأت أشعر أني حسن النية أكثر من اللازم، وأن الماء يجري من بين رجليّ، وأن العالم من حولي يغلي، وإلا فلماذا تضيعُ الرسائلُ والوثائقُ وتختفي ويتغير التاريخ، بل يتبعثرُ هنا وهناك.

هذه هي الرسالة الثانية التي أكتبها لأرسلها إليك وتختفي في فترة قصيرة للغاية من بين جميع أوراقي. الطامةُ الكبرى هي أني لا أعرف بالضبط هل كتبتُها حقا أم أن ذلك ضرب من الخيال، وإذا كنتُ فعلاً قد دوّنتها فهل تُلفت أو إنمحت؟ أو قد أكون حقّاً أرسلتُها إليك وقد تكون أصلاً إستلمتَها وقرأتها بإمعان وأنعمتَ التفكير بها، وتسخر مني الآن عندما تقرأ وساوسي هذه، وحزني على ضياعها.

كلُّ شيء جائز في هذه الدنيا! ولا أدري إن كنتُ قد قمتُ بكل هذه الأمور في الحلم وليس في الحقيقة. هل تم كلُّ شيء في خيالي؟ يتهيأ لي أني قمتُ بكلِّ هذا حقّاً. هل ترى وجه الخطورة؟ إضطربت علىَّ الأمور كما يختلط الحابل بالنابل. أنا خائفٌ من إعلان مثل هذه الهواجس لعائلتي وأصدقائي، سيسيئون الظن بي، سيعتبرونها مجرد تكهّنات ويتهكّمون بي. قد يعدّوني مخرفاً أو في طريقي نحو ذلك، وقد يتصورونني مدمناً أو معتوها متخلفاً عقلياً ومهلوساً. تصوَّر!

رنَّ الهاتف. لا بد أنه الدكتور النفساني نيلس!

- أهلاً نيلس،

- ……

- ستتصل فيما بعد؟ عندما سيفيقُ المريض من النوم؟ طيب!

الحمد لله. إتصلَّ الدكتورُ النفساني، أخبرني بأن "مُراجِعَنا أو مريضنا أو زبوننا"، لا يزال نائماً، لم يأتِ حتى الآن. وعدَني الدكتور نيلس بأن يتصل بي حال قدوم المريض إلى عيادته، إنها تقع في نفس البناية. تمنىّ لي أيضا بأن أستمتع بهذا الوقت. إنه دكتور نفساني ويعرف قيمة الزمن والبشر، كان يقول لي في أوقات الإنتظار:

- أنا أتألمّ وأعاني من تأنيب الضمير في كلّ مرة أعالج فيها بالذات مريضاً نفسياً عراقياً، أحسُّ بأن إنسان الميسابوتاميا، بلاد النهرين إلى هذه الدرجة مهان يئنُّ تحت الحصار.

أخبرته مرةً ساخراً بأن أحد المرضى النفسيين العراقيين من المتعالجين عنده قال لي: الإنسان العراقي مسودَن! وترجمت له الكلمة حرفياً، ومعناها مجنون! لم أكرر عليه ما سمعتُ مراراً وتكراراً من طالبي اللجوء العصبيين: العراقي مجنون، حساس، أرعن، قصير النظر، عصبي، متعصب، إنفعالي، بل مسودَن وزدت عليها قليلا من بهاراتي قائلاً: ألف مسودَن، والعباس أبو رأس الحار مشوّر به! ولا علاقة لهذا المسودَن لا بالتاريخ الميسابوتامي ولا جغرافيته، هذا إنسان من طينة أخرى.

قلت للدكتور نيلس:

- العراقي فنان! شاعر! ملهم! تشكيلي! متذمر، مشاكس ومحتج! حصان جامح صعب المراس والترويض، ثور هائج! لايحب الموت بدون مغامرات الحرب والقتال!

طبعا كنتُ حزيناً وأمزح قليلاً، وكان نيلس يدرك ذلك جيداً، حاول أن يوقفني عند حدّي. الدكتور النفساني نيلس هذا يدرس التاريخ الرافِديني في الجامعة ويعمل صباحاً مساءاً، المرضى العراقيون يقولون عنه:

- هذا مخبّل لازم يتعالج!

"صرّح" أحد العراقيين من المراجعين المدمنين على الأطباء النفسانيين:

- العراقيون فظيعون، ليس لديهم حلول وسط، سألتهم: مخبّل مرة واحدة؟ على الأقل قولوا عنه مثلاً: إنه يعاني، مرهق، مُتعبْ، منهك، مفلّش، مريض نفسياً!

الدكتور نيلس سمع رأيهم عنه من أحد مرضاه العراقيين، قالَ له ذلك في إحدى جلسات العلاج كما لو يرمي الطينَة بوجهه، وما كان عليَّ إلا ترجمة ما يقوله، طبعاًلم يبالِ الدكتور لكلامه، أو إنه قد يكون تظاهر بذلك كأي محترف، ردَّ عليه مبتسماً بهدوء:

- هذا أمر ممكن، أنا أحضر جلسات مع مشرف كي لا أتمرض نفسياً، كلنا بشر بحاجة لذلك بسبب ضغط العمل!

المهم، أتذكر في وقتها أن نيلس قال مستفسراً:

- مسودَن؟ السومريون القدامى إعتبروا السواد إشارة إلى الجنون! والعراقيون سومريون!

إستفسرتُ منه ساخراً:

- هل تشمل هذه الكلمة كلّ العراقيين: الآثوريين، العرب، الكُرد، التركمان، المسلمين، المسيحيين، الصابئة، اليزيديين الزرادشتيين العلياللاهيين؟

أجابني نيلس مبتسماً:

- يالها من خلطة! كل سكان ما بين النهرين مجانين "مسودنين" بما فيهم أنت، بل أنت أولهم!

وغرقنا في الضحك.

طبعاً فرحتُ. سُعدتُ ليس لأن العراقيين "مسودنون" من الأصل، يعني قبل دخول العرب والمسلمين، وهذا أمر يمكن الإفتخار به، نحن عراقيون أقدم الناس في المسودَنة أو السَودَنَة، ولنا إذن الأسبقية في الجنون، وباع كبير في الفنون، والفنون جنون! لكني إرتحتُ أيضا، المريض النفسي العراقي، المفترَض أن أترجمَ له الآن لا يزال ينعم بالنوم العميق، يغطُّ فيه، عسى ولعلّه يتخلص من الإكتئاب والإحباط وضعف الذاكرة وعدم التركيز والفلاش باك وكلّ الأعراض النفسية.

وابتهجتُ، بالتأكيد سأستمر في التفكير وأواصلُ البحثَ عن الرسالة الضائعة والتطلع قليلاً إلى مزهرية مليئة بالورود الحمراء الجميلة المتناسقة مع لون الستائر. أضفتْ هذه الزهور الحمراء بعض التفاؤل على نفسي، إلا أني والحق يقالُ حزنتُ كثيراً ليس على الرسالة، بل ضياع عمري، إنه إحساس مقيت وقاتل تمكن مني في الآونة الأخيرة. حاولتُ مراراً وتكراراً التخلص منه، وأن أقنع نفسي بأن لا علاقة لإختفاء الرسالة بحاضري وبنوباتي السوداوية احياناً وتقلباتي المزاجية، وتاريخ حياتي السابق ومستقبلي! لكن دون جدوى!

قد أكون غير دقيق وغير صادقٍ بخصوص هذه الرسالة، لكن شعوراً بالضمور والقنوط والإنتهاء قد غمرني وأخذ مأخذه مني! يا إلهي!

وقد أكون سجّلتها في الحلم متوهماً أني أبدعتها في "الحقيقة والواقع" كما كان يحلو لمعلمنا أن يقول. لا أدري في حقيقة الأمر ماذا أقولُ لك وكيف اشرحُ لك الأمرَ، قد أكون حقاً صغتها وأرسلتها إليك، لكني فقدتُها في المنام، وإذا حدث وأن المكتوب لم يصلك فمعنى ذلك أن حلمي قد تحقق وأن أجهزة بريدنا هنا المعروفة في هذه الجزيرة بالسرعة والتنظيم والدقّة خاضعةٌ لأحلامي، وهذا أمر خطير لا بد من بحثه مع الأخصائيين النفسانيين بمن فيهم الدكتور نيلس.

بهذه الطريقة قد تتدخل أحلامي في مجريات أمور أكثر خطورة، تهز العالم. أجل، وقد أنشرها بعنوان: "عشرة أحلام هزّت العالم"! سيتضايق الصحفي الراحل جون ريد، سيفضحني، سيقول لي:

- إنك سرقتَ عنوان كتابي الشهير!

وسأريحه وأرضيه وأجلب له الهدوء والسكينة في لحده:

- نَم قرير العين يا جون ريد! إنها مجرد توارد خواطر! لم أسرق أفكارك! لم أخن أمانتك! لستُ من هذا الصنف!

ومن الممكن أن تكون لأحلامي تأثيرات إيجابية كبيرة على العرب والبشرية. فماذا لو أني كنت قد حلمتُ بأني تكلمت إلى مسودن كبير آخر يتحكم في الكون، إنه الرئيس (ك) وأقنعته بأن يرفع الحصار عن العراقيين ويتركهم لشؤونهم، ويحلّون مشاكلهم بأنفسهم فأهل مكة أدرى بشعوبها، ويكفّ عن إيذائهم، وعليه أن يضغط على "زميله" مسودَن العراق، ويخبره بأن البيريسترويكا العراقية هي الحل الأمثل له، وأنه سيضمن له المشاركة بإنتخابات نزيهة، أو رحيله هو وعياله إلى جزيرة يشتريها ويمتلكها ويحكمها حكماً أبدياً على هواه ومذاقه ومزاجه، وقد تسنح له فرصة الحصول على العلاج النفساني عند الدكتور نيلس، وطبعاً سأترجم له بأفضل الطرق، وسيكتب مذكراتِه عن كل بطولاته وانكساراته، عندها سيستخلص العراقيون العبر والتجارب من حياتهم الماضية وسينعمون بوجود مسودنهم على قيد الحياة حتى في عصر إنعتاقهم منه وسيكون عبرة للأجيال. كم تمنيت لو لم يُقتل الملك "المفدّى" ولا الزعيم الأوحد "ئاسم" العراق كما سمّاه باني السد العالي، على الأقل كنا سنعرف من قسّم البلد حقاً؟ وماهي اسرار الحكم! ونتعلّم من أخطائنا!

وإذا رفض مسودنُنا هذا الطلب، فسأتحدّث مع مسودنهم عبر حرمه المصون، إنها أم وتفهم معنى الحنان، عسى ولعلها تستطيع إقناع زوجها الأستاذ الجامعي "المهذب" بأن يكف عن تجويع أطفال العراق وقصفه، ولا يطبق السيناريو الروماني عليه ويتخلص منه بدمويةٍ لا تليق بالديمقراطية، كما فعلوا مع معتوه رومانيا وزوجته، لا، لا، لن أنصحة بتكرار هذه الجريمة البشعة أمام أعين الناس، لو كان الأمر بيدي طبعاً، ولن أشي بمسودننا لأنه مهما يكن عراقي من دمنا ولحمنا، ولا أريد أن أتّهم بالخيانة، بينما يتحول هو إلى بطل تاريخي قومي قتلَه الكاوبوي، ستحتفي بذكرى تصفيته الأجيال القادمة، وستؤدي إلى إقتتال الأخوة بين مؤيديه ومعارضيه. يا للهول!

أما المسودَنون أولاد أعمامنا، فهؤلاء أيضا ورثوا سودَنَتَهُم من السبي البابلي، إنهم من نفس الطينة، ولابد أن جنود نبوخذ نصر إستباحوا نساءَهم الجميلات، وعلى السيد (ك) أن يفهم بأن الفلسطينيين بشر من نار، عماليق وجبال لا تهزها الرياح! يستحقون نفس الإهتمام، وإلا ستحل عليه لعنة الآلهة، وليُقنعَ أو ليجبرَ باراك على التراجع عن التهديدات، وإعطائهم حقوقهم! قد نتخلص جميعاً من كل أنواع المسودَنين ومشتقاتهم، وبياناتهم الرنانة.

هذا حلمٌ مستحيلٌ، مثل الحلم العربي، لا يمكن إنجازه لا في الحقيقة ولا في الخيال، ولا في رأسي المثقل بالهموم، المضغوط كعلبة معدنية مطعجة مرمية في النفايات. حلمٌ مستحيلٌ! اقصدُ أن يتدخلَ السيد ك لصالح  العراقيين، والعرب وحتى اليهود وكل الشرق أوسطيين، ويخلصنا! خلاص، كفى! لكن ماذا سيفعل (ك) و في عالم بلا مسودنين يحكمون هنا وهناك؟ ماذا سيعملون بلا مجانين يسممون "آخرَهم بكأس الأول" كما يقول جرير؟ اعتقد انها ستكون كارثة، عليه وزملائه اللاحقين أن يديروا إداراتهم بلا رُعناء وغوغاء وجبناء ومشعوذين، وقد يعانون من البطالة وأزمة دعاية لإنتخاباتهم كل أربع سنوات، وقد يُضطرون إلى إعادة تصنيع مسودنين جُدد وتدويرهم، وإنتاجهم بجودة أعلى لتصديرهم من جديد إلى آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، بل إيطاليا، وأوروبا أيضا.

نعم، أنا غير متفائل، سوداوي، متشائم، كئيب، محبط، قانط، مدحور، مقهور، منخور، بل يائس ومنهار، لكني مع ذلك لستُ مهزوماً، وإنتبه، أنا لا أتفوّه بهذه المفردات من باب الضعف والخنوع والكبرياء والإدعاء والتبجح. هذه هي الحقيقة، أنا إنسان عُوراقي كما يقول أحد الأصدقاء الأردنيين، شهم! أبيّ كريم! غيور! صاحب نخوة! مكابر، عنود، جرىء، طموح من جماعة " أحلامنا تزن الجبالَ رزانة ويفوقُ جاهلُنا فعالَ الجُهّلِ"، لكني والحق يقال، والحكي بيننا "هَمْ شويّة مسودَن!" والجيران كانوا يصيحون عليّ في طفولتي: مسودَن والله مسودَن والعباس مشوّر به!**

إذن هناك إحتمالان بشكل عام وباختصار شديد: الأول: إني لا أزال أعاني من "المسودنلغية" المخفية في شخصيتي. وإني رأيت نفسي في المنام جالساً أكتب رسالةً إليك. أي إنها مجرد رؤيا لا أكثر ولا أقل! وأنا أصلاً لم أكتب لك يا صديقي العزيز رسالة. وإذا كان الأمر حقاً كذلك فعلىَّ أيضا أن أتصلَّ بالدكتور النفساني وأشرح له الفكرة، إنه حدثٌ في غاية الخطورة، وهي حالةٌ غير مسبوقةٍ، لم تحدث في حياتي أن تتهيأ لي أمور لم أقم بها إطلاقاً، هذا شيء لا يمكن أن أقبَلَه أنا على نفسي.

الاحتمال الثاني: هو إني فعلا كتبتُ الرسالة وأرسلتها لك في الحقيقة والواقع المعاش لا في الحلم ولا في الخيال، وهذا حدث سعيد ومفرح بالنسبة لي، إنه يعني قبل كلِّ شيء أنك ستستلم الرسالة فعلاً وعن حق وحقيق كما كنا نقول. لكني أشعر مع ذلك بالمرارة والحزن والخوف من مستقبل حالتي النفسية. أنا قريب من حالة الشكوكية من الدرجة العالية، المرضية والتردد وضعف الذاكرة، والإحساس بكل الإلتباسات والملابسات الإنسانية، وهذا يتطلب العلاج السريع، أنا قريبٌ من الهاوية بل أنا على شفاها!

في حقيقة الأمر، لا تدخل هذه القضايا في صلب موضوعي. المهم هنا الآن هو أن أحاولَ كتابة القصيدة، عفواً أعني الرسالة. إعادة كتابة التاريخ كما يكرر مسودَن العراق! هنا بيت القصيد! وهنا تكمن خطورة الموقف وجديته!

رنَّ الهاتف من جديد!

- نعم، هذا أنا

- .........

- أوكي نيلس، أوكي، لن يأتي مريضنا الحالي اليوم… طيب، دعنا نرى!

إذن، بإختصار، عليَّ أن أستغلَّ الوقتَ وأعيد تدوين التاريخ. أعيد تأليف ما أبدعتُه في الرسالة الزائلة البائدة التالفة المفقودة المسروقة أو المصادرة كالأموال المنقولة! عليَّ بإختصار وبالعربي الفصيح أن أكتبَ لك رسالةً أخرى كما أوحى لي أو أمرني إبني الصغير "الكلاوچي" نقلاً عن أمه سيدة الإبداع والإقناع إلهام. ***

لكن ماذا إذا فضحتْ الرسالةُ الثانية تلفيقاً كتبتُه في نظيرتها البائدة؟ ألم يقولوا الكذب "المصفّط" المنمّق أحسن من الصدق المخربط؟ كيف سيكون موقفي عندها أمامك؟ أنا، والحكي بيننا ألفِّقُ في بعض المرات! وعندما أنسى نفسي تتغير روايتي للأحداث! يعني أضع بعض التوابل والبهارات على سردياتي مبالغاً في تصويرها، ليس لدرجة التهويل. لكني مع ذلك منزعجٌ، بل قلقٌ من أي سوء فهم يعطي إنطباعاً سيئاً عن حضرة جنابنا! ولا أريد أن أبدو كذاباً أو مزوراً للقص والسرد والحكايات ولا ملفقاً حقيقياً للتاريخ!

معاذ الله من منافستي لمسودَني العراق والعرب في تضخيم إدعاءات البطولة والإنتصارات، هذه هي أشغالهم، لن أقطع أرزاقهم وما أنا إلا مجرد إنسان موتوووور، كما يقولون عنّي، أتدخل في كلّ صغيرة وكبيرة، شاردة وواردة، أناقش وأتفلسف بدون مقابل، لكني لا أبحث في الجِيَفِ ولستُ من جماعة: إن لم تنفع فَضُرْ ! ومَن لم يدفعْ لك إهجِهِ أو إشتمه!

بل إني أحسدُ، لا، لا، العياذ بالله، أنا أغبطُ ولا أضربُ بالعين، عيني أصلاً لا تصيبُ ابدأً، عيني شبعانه ولهذا باردة! أغبطُ الأخيارَ، وأحياناً "أغبطُ" بعضَهم لقدرتهم على تزوير التاريخ، بينما لا أقوى أنا حتى على الكذب الأبيض.

إنه مصابٌ جللٌ! أمرٌ مهولٌ! يزوّرُ المسودنون التاريخَ وينسبونه لأنفسهم! يا إلهي أي تلفيق هذا! أي تزييف وفبركة هذا؟ يا الهي!

نعم، هذه هي الحقيقة ولا بد لي من المصارحة قبل المصالحة كما يقال في هذه الأيام! ألم يقلْ الشاعر: أكذبُه أصدقُه؟ إذن لِمَ هذا الانزعاج مسبقا من التلفيق؟

رنَّ الهاتف مرةً أخرى! يا إلهي، عليّ أن اترك إعادة كتابة الرسالة وأكفَّ عن التفكير بأي أمر آخر غير الترجمة للمريض المعاني!

- هذا أنا، مرة أخرى ... ها قد ظهرَ مريضنا، صحيح تأخرنا ولم يبقَ إلا القليل من الوقت المحجوز ...

- آه، طيب، طيب، لا مانع لدي من الترجمة. من حسن حظك أنا لم أستلمْ حجزاً جديداً. أنا حاضر للترجمة، دعني أتحدث إليه….

***

كما ترى يا صديقي فأنا قد أدخل في معمعةٍ لا تختلف كثيراً عن تزوير الحقائق والتاريخ أحياناً، بل أخطر منها، قد أُضطر لترجمة مبالغاتِ متمارضٍ مهووسٍ، حاذقٍ ومحترفٍ لا يبالي بكلِّ ما يمتُّ بصلةٍ بروح الإنسان وأحاسيسه وثقافته وتقاليده، أو معاناةِ مريضٍ صادقٍ حقيقيٍّ من بلاد النهرين الطافحين بالحب والإنفعالات والنار والدمار، يحمل على كتفيه جبالاً من الهموم وتذرفُ عيناه أنهاراً من الدموع تكفي لسقي الصحراء الكبرى كلها بينما يتبجح الأدعياء المسودَنون بإحتفالات النصر وأعياد ميلادهم!

***

زهير ياسين شليبه

أيلول 2000

..................

* كلمة مسودَن من اللهجة العراقية تعني: مجنون، تُقال بشيء من السخرية.

** مشوّر أو يُشوّر: يعاقب، من اللهجة العراقية، تُقال عن الأولياء الصالحين والأئمة.

*** كلاوچي، (كلاوتشي): من اللهجة العراقية تعني محتال، تُقال أيضاً بأريحية وعن شخص يتظاهر بالتودد.

 

في نصوص اليوم