صحيفة المثقف

المقامة الحَفْليّة

منير لطفيأخبرنا أبُقراط بن قحطان، قال:

في مدينة المنصورة، بعوْن الله منصورة، وعلى ضفاف النّيل، حيث أُسر (لويس)، في سابع حملةٍ صليبيّة، على الدّيار المصريّة؛ أُسِرْتُ في الطبّ سبعًا شدادا، إلى أن كَتب الله لي فرَجًا وفرَحا؛ فقلتُ كما يقول الصائمون التُّقاة: ذهب الظمأ وابتلّت العروق وثبَت الأجرُ إن شاء الله، وردّدتُ وِرد المحرَّرين مِن سجن الطّغاة: ذهب الأسْر وبقي الأجْر إن شاء الله. وجريًا على العُرف المتَّبع، لابدّ من حفلٍ معتبَر، يُضرب له يومٌ معلوم، يُدعى فيه المقرّبون، وعنه لا يَستقْدمون ولا يَستأْخِرون، إذ يُزفّ فيه الخِرّيج زفَّ العريس، ويُعمَّد تعميد الطفل في الكَنيس.

ولمّا دنا اليوم الموعود، وأنا عنه لاهٍ مشغول؛ إذْ بالهاتف  يجلْجل، وصوت صديقي يزمْجر: أنت هنا والسوق ينادي، هلمّ إلى النّعالِ، وعليك بالطلْيان، وعن البِذلة لا تسأل، بريطانيا هي الأفضل، وربْطة العنق اللطيفة، فرنسيّة أنيقة، والساعة السويسريّة، أُوميجا هي القويّة، قلت: ولِم كلّ هذا أيّها المخبول؟ قال: والله إنّك لبُهلول، لا تفهم (البروتوكول)، للحفل زيّ رسميّ، فلا تكن كالبدويّ. قلت وبكَم ذاك يا حضَريّ؟ قال: سبعة آلاف لا تَزيد، ولكن بعد التخفيض. هممتُ بالعويل والصياح، ونطْح الرأْس بالجدار، ولطْم الخدود وشقّ الثياب، قلتُ –هازِلا غير جادّ- اسمح لي بسؤال ثالث: بخصوص السراويل والجوارب، أيّ الدول تُحابي؟ قال: الهند ولا تُجادل، فالإيمان قولٌ وعمَل، لا قولٌ وجدَل! فحسْبنْتُ وحوْقلْت، وفي نفْسي أَسْررْت، أن أعتزلهم وما إليه يدْعون، وأَدَعهم في غيّهم يعمهون..فالمجد للبسطاء، هم حقًّا السعداء. والويْل للمبذِّرين، إخوان الشياطين.

وفي صباح يوم الحفْل، وقبل أن يلوح الفجْر، بَكَّر ساكِنةُ المدينة، وتَنادَوْا ليوم الزِّينة، كما تَأنّق كلُّ خِرِّيج، وبدا كعُمر الشريف، أمّا أنا فغلّقْتُ بابي، وأسلمتُ للنّوم عناني. وعلى وقْع جلَبةٍ ولغَط، وضجيجٍ كمُعترَك، قمتُ فزِعًا للباب، خشْية الدّهْم والاقتحام، وإذْ بي أمام مَن؟ خمِّن وأَمعِن الظنّ؟ رهطٌ مِن الأهْل، ظعنوا من النجْع، خصّيصا إلى الحفْل، بعد أن هاتَفهم الصّديق الصَّدوق، ودعاهم للمثول، في الموعد المضروب، ثمّ حثّهم على الإبكار، قبل أن يغصّ المكان، ويصبح كالمُزدَحم، لا موضِع فيه لقدَم. يا لها مِن نائبة! لم تكن في المخيّلة! أهكذا تكون الزّمالة؟! خديعة وخيانة؟! رُغتُ إلى الأصدقاء، كالغريق وسط الطوفان، أشحذ مِن هذا القميصَ والبنطال، ومن ذاك الحذاءَ والسروال، وكَم كانوا خبثاء، حين عرضوا (السِّشوار)! فصلْعتي بادية، كبدْرِ ليلةٍ داجية! وهكذا تدبّرتُ أمري، حتى لا يُفتضَح رهْطي، وكما قال الشاعر الأسَد، سيّد بني أسَد:

"لعَمْري لرهطُ المرءِ خيرُ بقيّةٍ،،،عليه وإن عالُوا به كلَّ مَركَبِ"

يقول أبُقراط:

وبينما نسير سويّة، نتطارح السّلام والتحيّة، حاصروني كالسّوار، وحدَبوا عليّ كالصِّغار؛ فتمسح أمّي على رأسي، ويطوّق عمّي كتفي، ويضع خالي منديلا في جيْبي، ويطبع أبي قبلةً على خدّي، فرِحين والسبب لا أدري؟ بل وَدّوا لو حملوني على الأعناق، وهتفوا كما يهتف الثوّار، بالروح بالدم نفديك يا أبُقراط!

وما إن بلغْنا مَرْبَع الحفل، حتى فرّق بيننا الأمن، بداعِي الضبْط والربْط، فاحتلّ الضيوف المؤخّرة، وعلْية القوم المقدّمة، بينما قلّدونا الوشاح، وصفّونا كالضبّاط، وأمرونا بالمضيّ، في نظامٍ ورُقيّ، إلى مقاعدنا المرصوصة، حسْب درجاتنا المرصودة. وما إن اقتعدتُ مقعدي، كطبيبٍ ألمعيّ، نال أعلى الدّرَج، وحاز مرتبة الشّرَف، حتى نُوديتُ بصوتٍ جهير، أن احضر فورا إزاء النقيب، لتلقين الخرِّيجين قَسَم الطبيب، فسال منّي العرق، وتعثّر منّي القدَم، وكدتُ يُغمَى علَيّ، لولا نعمة العَلِيّ، فشرعْتُ أتلوه بتحمُّس، ويُعيده الخرِّيجون بتلهُّف، تُؤازرنا الموسيقى العسكريّة، كأنّنا في موقعة حربيّة، حتى تشقَّقت من حناجرنا السقوف، والتهبَت من التصفيق الكفوف.

يقول ابن قحطان:

وبعدما صافحَنا الأعيان، وتَحصَّلنا على الشهادات، والدّروع والأُعْطيات، انفضّ الجمهور، وتَعالت أصوات الحضور، أين البطّ والحمام؟ والحلوى والشّرْبات؟ أليس هذا باحتفال؟! أنغْدو بِطانا ونرُوح خِماصا؟! ففهمتُ ما يرومون، ورجوْتهم الهدوء، ثمّ دلفتُ بهم إلى مطعم في الجوار، وقلت انتَقُوا ما لذّ وطاب، فالكرم والجُود، لازمٌ في ابن الأصول. وبدلًا من تَناوُل الفول والطعميّة، والعرقسوس والمهلّبيّة، إذْ بهم يطلبون الدجاج مشْويّا! واللحم كبابا حَلَبيّا! بل واشترطوا العصائر طازجة! والتورتة في الشوكولاتة غارقة! فسال على الخدّ دمعي، واستنفدْتُ كلّ مُدَّخَري، بل ورهَن المطعمُ الدّرع، حتى أُوفِّي الدَّين، فوافقتُ غير نادم، وانصرفتُ جِدُّ واجم. ولمّا كنتُ خالي الوفاض، وأشهرْتُ لِتوّي الإفلاس، حذّرتُهم من التاكسي، وأوْصيتهم بالمشْي، إذْ ما أهلَك العباد، إلّا ترك المشْي على الأقدام؛ فقدّروا نصْحي، وقبّلوا رأسي، قبل أن يمضوا في هناءة، شاكرين فاره الضيافة، ووعدوا بتعليق اللافتات، في القرى والبَلْدات، حتى يعمّ اسمي الوجود، وأَشتهِر كمجدي يعقوب.

***

بقلم د. منير لطفي

طبيب وكاتب -  مصر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم