قراءة في كتاب

محمد الشاوي: هشام بومداسة باحثا سوسيولوجيا في الدِّرَازةِ الوَزَّانية

اختار هشام بومداسة لمؤلَّفه الجديد موضوعًا مثيرًا للاهتمام وجديرًا بالتأمل، وهو: "إثنوغرافيا الدِّرازة الوَزَّانية؛ نحو دراسة سوسيوثقافية للتركيبة الاجتماعية للحرفة – حكاية حرفة تقليدية". ويقع الكتاب في 326 صفحة، وصدر عن دار القرويين للنشر والتوزيع بالقنيطرة سنة 2025.

ومما لا شك فيه أن هذا الإصدار يُعَدّ فريدًا من نوعه؛ إذ يفتح أمام القارئ المغربي والعربي نافذةً متميزة للتعرّف على حرفة الدِّرازة الوزَّانية (نسبةً إلى مدينة وزّان الواقعة في الشمال الغربي من المملكة المغربية)، وعلى تركيبتها الاجتماعية والثقافية التي تستدعي التأمل والبحث.

وقد انخرط هشام بومداسة في هذا العمل البحثي الميداني المتميّز من خلال محطتين رئيسيتين:

الأولى، عندما أنجزه خلال سنوات دراسته الجامعية بشعبة علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، تحت إشراف عالِم الاجتماع المغربي الدكتور المختار الهراس.

أما الثانية، فتمثلت في تطوير معطيات البحث بما يتلاءم مع المتغيرات الجديدة، من خلال إضافة مقابلات، ووثائق، وبيانات تخدم الموضوع، بما يُتيح تقديم إضافة نوعية للبحث العلمي، يمكن تأطيرها ضمن مجال سوسيولوجيا الهامش. وهو مجال يتقاطع فيه المحلي الوزاني مع البعد الوطني، ليحيلنا إلى سياق الحرف والفنون المغربية، من خلال حرفة الدِّرازة الضاربة بجذورها في عمق التاريخ والحضارة المغربيتين.

ذلك أن العمل الدِّرازي يطرح علينا عدة قضايا وتساؤلات تخص الحرفة وتفصل حد القول في أبعادها الاجتماعية والثقافية؛ ثُمَّ يحضر فاعلوها ومنتجوها من منظور "تقسيم العمل الاجتماعي" والأدوار والمهام... تلكم التي عالجها عالِم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم في إحدى أعماله الخالدة التي تخص علاقة الفرد بالمجتمع. فتقسيم العمل ليس ظاهرة اقتصادية فحسب، بل إن له جذورٌ أخلاقيةٌ مهنية، وقواعد اجتماعية تساهم في تماسك المجتمع وتنظيمه وتطوره، لكي لا يتفكك. ولعل هذا ما استطاع هشام بومداسة أن يتبيَّنه في بحثه، حيث أكد لنا أن حرفة الدِّرازة تستدعي تضافر جهود الباحثين  ـ على اختلاف مجالاتهم وتخصصاتهم- إلى التفكير، والبحث، والتأريخ، من أجل صيانة هذا الموروث الثقافي والحضاري. وهذا ما دعا إليه جلالة الملك محمد السادس بمناسبة الدورة 17 للجنة الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي التابع لليونسكو سنة 2022، في قوله: "ولا تفوتنا الفرصة هنا، للتذكير بأنه من أجل رفع التحديات العديدة التي تواجه الحفاظ على الموروث الثقافي؛ يتعين على الجميع دعم كافة الجهود المبذولة في مجال النهوض بالبحوث العلمية، وتشجيع الباحثين والمهتمين بحماية مكتسباتنا التراثية".

فكيف أنتج الدَّرْزِيُّ الوَزَّاني عمله؟ وكيف لأهل وزّان عامة، ولساكنة حي "القَشْرِيين" خاصة، هذا الاهتمام النوعي العريق، المتوارث أبًا عن جد، وجيلًا بعد جيل؟ وكيف استطاع الدَّرَّازُون الوَزَّانيون أنفسهم أن يبلغوا هذا المستوى الرفيع من الإجادة الفنية والمهنية، الذي خوّلهم التربع على مراتب مُشرّفة، ترقى بالمحلّي إلى مصافّ العالَمي في فنّي الدِّرازة والنِّساجة؟

إنهم يُنتجون، بمرمّاتهم العتيقة، منتوجاتٍ في غاية الجمال والإتقان، عرفتهم بها أوروبا، فهل يُعقل أن يخفى ذلك على المغاربة؟

ثم إن الأجانب يستمتعون بآثارهم الحِرفية، وينبهرون أشد الانبهار بطرائق الإنتاج وتقنيات التدوير التي تُجسّد فنية نادرة، تكشف عن أسرار هذه المهنة وخباياها الدفينة، التي لا يعرفها إلا من يزاولها، أو من غاص في دهاليزها من الدارسين والباحثين المهتمين بها، وهم قلائل يُعدّون على رؤوس الأصابع.

وها أنا ذا أرى أحد دَرْزِيِّي وزّان وكأنه يهمّ بالخروج من كتاب هشام بومداسة، يُلوّح لي من الأفق البعيد من داخل "المْرَمَّة" التي يشتغل فيها، وهو يخاطب طيف محبوبته بنغمات مغربية عذبة من ألحان المبدع عبد القادر الراشدي، وكلمات فتح الله المغاري، مردّدًا بصوت المطربة سميرة بنسعيد:

"يْمْكْنْ فَايْتْلِي شُوفْتْكْ... فَايْتْلِي شُوفْتْكْ...

صُورْتْكْ مْرْسُومَة فِي العِينْ يَا عِينْ... يَا عِينْ...!!".

لقد كان هاجسُ الباحث هشام بومداسة، في فتوحاته الدِّرازية وحفرياته في مجال هذه الحِرفة، هو العملُ على تحصينها، وتوثيقها، وإعادة البحث فيما تُختصّ به من قيمة علمية، ينبغي على الباحثين العناية بها وتأطيرها ضمن سياقها المهني والاجتماعي المشترك. وكان انشغاله بهذه المهنة من زاوية بحثية أكاديمية يقتضي الوقوف على تقنياتها ومعدّاتها وطقوسها، وكذلك على الروابط والعلاقات الناظمة لعمل الدِّرَّاز، بدءًا من مرحلة "الوجود بالقوة" إلى مرحلة "الوجود بالفعل"، حسب التحديد الأرسطي.

يقول هشام بومداسة: "إن بعض رهانات هذه الحِرفة لا يمكن النظر إليها وهي منفصلة عن نسيجها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والمهني، بل يُنظر إليها وهي منغمسة ومنصهرة، بشكل مندمج، في نسيجها الحامل لمنطلقات وتوجيهات وقيم ووعي جمعي بالمدينة والقرى المجاورة لها، بكل فضاءاتها العائلية، وركيزة دور المرأة فيها، والحسّ العملي لدى الدِّرَّاز القائم على صناعة منتوجاتها، وأدوار الدّْلَّالْ، وتدخُّل الخياط، وضَنانة التاجر، بالتقسيط والجملة، من أجل نشرها وتسويقها وتثبيت قيمتها... وهو الوعي الجمعي الذي يرسم أهمية العلاقة والقيم المتجذّرة والثابتة في كلٍّ من التركيبة الاجتماعية للحِرفة من جهة، والتركيبة الاجتماعية لمجتمع المدينة من جهةٍ ثانية".(ص: 11).

ويبقى الرهان الأساس الذي حمله هشام بومداسة على عاتقه ـ كما تقدم ذكر ذلك ـ هو حفظ الذاكرة الجماعية للحرفة بكل تفاصيلها ومراحلها وأدوارها. وقد توسل تقنية المقابلة نصف موجهة التي باشرها مع الفاعلين المتدخلين في الحرفة، إلى جانب تحليل المعطيات وتحديد المتغيرات داخل الإطار الإجرائي والميداني للبحث. وإيمانًا منه بأن الباحث السوسيولوجي هو جزء لا يتجزأ من الظاهرة المدروسة، فمن الصعب عليه الاستقلال كليًا عن مجتمعه الذي هو موضوع دراسته، لذا من الضروري المشاركة والتفاعل مع المزاولين للحرفة والانخراط معهم في جو يملأه التواصل والحوار البناء والهادف الذي يخدم أهداف البحث ومقاصده العلمية.

وهذا لن يتحقق إلا بمقاربة شبه متكاملة تُعنى بالتركيبة الاجتماعية للحرفة؛ وهي المقاربة التي اختارها الباحث، إذ تجمع بين البعد الإثنوغرافي والبعد السوسيوثقافي. وهنا يحضر التاريخ الاجتماعي للحرفة في ثنايا هذه المقاربة، ليتكامل البعد الإثنوغرافي مع الميكروسوسيولوجي عن طريق التنقيب والكشف عن المضمر والمسكوت عنه والخفي، بالتساؤل والنقد، من أجل إعادة طرح مسألة الموضوعية والأمانة العلمية برؤية معاصرة لنا، تقف على ماضي الحرفة الذي ما فتئ يتجدّد بين الفينة والأخرى مع الرواد الدَّرَّزِيِّين داخل مختبراتهم التقليدية التي أنتجوا فيها أبهى وأرقى ما يمكن إنتاجه، ومع الخلف الذي جاء بعدهم. فهل استطاع هؤلاء المحافظة على ذلك، أم إن ضرورة العصر تقتضي التجديد والتغيير وفق المتطلبات الجديدة للتحديث التقني للحرفة؟

وفي سياق تساؤل تفرضه خصوصيات البحث والمقاربة، يقول بومداسة مخاطبًا القارئ:  "هل يحق لنا أن ندعي هذا المقصد الاستراتيجي، ونحن لم نُحقق البدايات الأولى والضرورية في الوصف والملاحظة وجمع المعلومات، ومتابعة ومساءلة التاريخ، والنظر إلى موضوعنا باعتباره يستقل ويتميّز بتاريخه وبنمطه التداولي ومثيلاته في مجالات اجتماعية محددة، ترى ضالتها في مرجعيات نظرية، وأخرى وصفية وتاريخية ولسانية فيلولوجية بل وميدانية تتطلب تاريخًا مهمًا من البحث والمساءلة". (ص: 18).

إنه، إذن، موضوعٌ يُقربنا من ميكروسوسيولوجيا الدِّرازة الوزّانية، تلك التي جعلت الباحث هشام بومداسة يُدلي بدلوه في بئرٍ عميقة، أخرج لنا منها قضايا متشابكة ومترابطة، لعل أبرزها: تاريخ النساجة بالمغرب، وسؤال التاريخ الاجتماعي والثقافي المغربي ومكانته داخل الفضاء العربي، وسيميولوجيا تسمية المجال، وتحول الدلالة من "الوزن" إلى "الوزّان"، ومؤشرات الصناعة التقليدية في المدينة، والدلالات الاجتماعية لمفهوم المجال وأدواره، إلى جانب الإطار التاريخي لمدينة وزّان، ومجالها الجغرافي، وتركيبتها السكانية، ووضعها الاقتصادي كما تعكسه دينامية الصناعة التقليدية والتجارة.

ثم ينتقل الباحث إلى تحليل محددات الاستهلاك في سوق الغْزْل، والتقسيم الزمني لهذا السوق، وشخصية "الصْنايكي" أو قابض الرسومات، وعارضات الصوف، وآليات شراء المادة الخام، قبل أن يتناول بالدراسة العمليات الأساس في الدِّرازة، وأنواع "المْرامَّات"، وآلات النسيج والدِّرازة، وحركية تجارة "الخَرْقَة" من خلال الفاعلين وطقوس "الدّْلاَّلة"، ونماذج الخِرَق الصوفية الدِّرازة الوزّانية، فضلًا عن وثائق ومراسلات توثق لطلبيات "الخرق الوزّانية" من طرف القصر الملكي العامر بالرباط.

ومن أجل ذلك، أكّد الباحث في خلاصة الكتاب أن عمله البحثي الميداني يروم وضع القارئ أمام أحد الجوانب الأساس في المقاربة الإثنوغرافية، تلك التي تتفاعل، بالضرورة، مع التاريخ واستراتيجية المكان. وقد تمكّن البحث من سبر أغوار عدد من الثوابت المرتبطة بمهنة الدِّرازة، من زاوية معرفية وثقافية اجتماعية، على الرغم من التغيرات التي شهدتها هذه الحرفة، خاصةً على مستوى تركيبتها الاجتماعية، وعلى صعيد التسويق والمعاملات التجارية والبيعية والشرائية؛ حيث أبدى الفاعلون الحرفيون قدرةً على التأقلم مع المتغيرات التقنية، والتحولات في الذوق والتنظيم، المرتبطة بسياق التاريخ الراهن.

ومن أجل مواكبة هذه التحولات، اتجه الحرفيون إلى تأسيس تكتلات مهنية هدفها تسويق المنتوج وفق الطلبات والأسواق التي تضمن استيعابه، لكن هذا التوجه ظل محدودًا وضعيفًا مقارنة بالماضي، لاسيما في ظل مغادرة عدد كبير من الحرفيين الميدان، إضافة إلى غياب "الدّْلّاَلْ" والمرأة، التي كانت تشكّل سابقًا إحدى الركائز الأساس في الترويج لهذه الحرفة...

وفي ختام الكتاب، يطرح الباحث هشام بومداسة سؤالًا جوهريًا حول إمكانية استطراد موضوعات بحثية أخرى تُضاف إلى الدِّرازة الوزّانية، فتُؤسس بذلك إثنوغرافيا جديدة تستقصي مهنًا أخرى مثل: الخراطة، والدباغة، والخرازة، والخياطة... قائلاً: "أوَليس هذا إعلانًا منفتحًا عن استهلالِ ورشٍ دراسيٍّ قابلٍ لأن يكونَ مشروعًا مؤهلاً للدراسةِ، والتفكير، والتحليل، والتنزيل، والتفعيل؟"

وعليه، يمكن القول إن كتاب الأستاذ والباحث هشام بومداسة يُعدّ إصدارًا فريدًا في موضوعه، يفتح شهية القارئ العربي للقراءة والتأمل، والغوص في عوالم حكاية الحرفة التقليدية؛ حيث يجد القارئ متعةً وتشويقًا وغرابةً وطرافة... في تلاقٍ بين المحلي الهامشي السوسيولوجي، والإثنوغرافي، والأنثروبولوجي، والتاريخي.

وهكذا كانت دومًا الأعمال النوعية الكبرى، تنهل من المحلي لترتقي إلى العالَمي والكوني.

ألم يكن نجيب محفوظ، الأديب الكبير، مسكونًا بمحليته المصرية، بحي "الجمالية" في قلب "القاهرة" معشوقته، دافعًا بها نحو العالَمية؟ بل وقبله بكثير، ألم يكن روبندرونات طاغور، الشاعر الهندي العظيم، منقادًا بنفس النزوع من "كُلْكَتَّة" البنغالية، مسقط رأسه، إلى رحاب العالمية؟ وهذا الشاعر المجدِّد في القصيدة العربية الحديثة، جبار الذهن، بدر شاكر السيّاب، أما كان مأخوذًا بمحليته العراقية، بقرية "جيكور"، حتى صار كل عاشقٍ للشعر يعرفها، ويحب السيّاب من خلالها؟

أفلا تكون إذن هي نفس العدوى الجميلة التي أصابت ابن مدينة وزّان، هشام بومداسة؟ بلى! ودليل ذلك أنه اتجه بالمحلي الحرفي المغربي عمومًا، والوزّاني خصوصًا، نحو معانقة أفق رحب للبحث والدراسة، حيث تتشابك أخلاقيات حرفة الدِّرازة مع أدب الحكي الشعبي، وتتواشج الثقافة المحلية الموروثة مع أسس ومناهج البحث السوسيولوجي المعاصر.

أما بعد، لستُ أدري: أيعنيني حقًّا وصدقًا، ويعني صديقي هشام بومداسة، أن نعرف رأي الجيل الجديد في كتاب: "إثنوغرافيا الدِّرازة الوزّانية؛ نحو دراسة سوسيوثقافية للتركيبة الاجتماعية للحرفة – حكاية حرفة تقليدية".

أليس من المهم جدًا أن يعرف هذا الجيل جهد الدَّرازين وعملهم الفني والوطني الدؤوب، وما أحدثه هذا الجهد من أثر تاريخي بالغ الأهمية في حياتنا نحن المغاربة؟ لأن الحرفة لا تكتمل قيمتها إلا بما تتركه في نفوس الحرفيين والمهتمين من ذوق فني وجمال حضاري يصعب أن يُنسى ذكره أو أن يُبعد عن مكونات هويتنا المغربية. فمن حق الجيل الجديد أن يُؤسّس لنفسه رأيًا ومعرفةً تخصّ هذا المجال وغيره من مجالات الحِرف والفنون الوطنية. ولذلك، فليس من اليسير على باحثٍ يسكنه حبُّ مدينته، ومسقط رأسه وزّان العامرة والعالِمة، أن يُقدّم لهذا الجيل عملًا توثيقيًا وبحثًا علميًا يستحقّ الثناء والتقدير.

كما أنّه ليس من الهيّن أن يعرف هذا الباحث رأي القرّاء وأهل الاختصاص في عمله؛ لأن هذا الرأي لا يتجلّى واضحًا وخالصًا من تأثير العواطف والمشاعر والأحاسيس، ومن ظروف القراءة، وسياقات التلقّي... إلّا حين يُودَع هذا العمل في ذمّة التاريخ فعلًا. وهنا يصير ماضي الدِّرازة الوَزّانية موضوعًا يحفظه حاضرُنا ويصونه للأجيال اللاحقة، بكلّ ما يحمله من معانٍ ودلالات إنسانية، وقيم حضارية مشتركة تخصّ هذه الحرفة.

***

بقلم: د. محمد الشاوي

في المثقف اليوم