قراءات نقدية

جمعة عبد الله: صعوبات الكفاح المسلح في رواية "المرفأ المفقود" (2)

لكفاح الزهاوي

يستعرض المتن الروائي عددًا من المحطات المفصلية في تاريخ العراق خلال حكم حزب البعث، كاشفًا أسلوبه البوليسي في تأسيس دولة القمع والحديد، حيث أُطلقت يد الأجهزة الأمنية لترهيب وترويع المواطنين من خلال حملات اعتقالات اتسمت بالإرهاب، استهدفت بشكل خاص أعضاء الحزب الشيوعي. هذا القمع دفع بالشباب الثوري إلى انتهاج طريق الكفاح المسلح بوصفه سبيلاً للمقاومة والصمود، ما يُبرز أن الوجدان العراقي الحي يرفض الخضوع لآلة البطش البعثية، ويتشبّث بالتحدي والرفض. كما يعكس النص عقلية النظام البعثي الشوفينية والفاشية في استهداف القومية الكردية، سواء عبر حملات التهجير القسري إلى خارج الحدود أو إلى أعماق الصحراء، وصولًا إلى استخدام الأسلحة الكيماوية، كغاز الخردل، في هجمات وحشية. الكفاح المسلح الذي خاضته فرق الأنصار لم يكن طريقًا مفروشًا بالبطولات فحسب، بل واجه معوّقات شديدة، من اشتداد الحملة العسكرية، وتلغيم الجبال والسفوح بربايا الجيش، إلى دعم المرتزقة والجحوش بالسلاح والمال لإخماد حركة الأنصار. كما غذّت السلطات الأمنية الخلافات بين الأحزاب الكردية، مؤديةً إلى اقتتال داخلي بلغ ذروته في مجزرة "بشت آشان"، التي راح ضحيتها عشرات الشباب الثوري، أولئك الذين رفعوا راية الوطن والتحرر فوق كل اعتبار، وسقطوا على أيدي زمر الحقد والعدوان. ورغم أن نضال الأنصار حمل إنجازات مشهودة، إلا أن الرواية لا تغفل عن الإخفاقات، مثل اختراق صفوف الحزب ووحدات الأنصار من قبل وكلاء الأمن، وسوء اختيار قادة الفرق ممن تنقصهم الكفاءة والخبرة. كما يسجّل النص ارتباكًا سياسيًا في تحديد أهداف الكفاح المسلح، وتعقيدًا ناتجًا عن الصراعات الكردية الداخلية، التي غذّتها السلطة المركزية دعمًا لطرفٍ على حساب آخر. لكن، ورغم هذه العوائق الهائلة، فقد أظهر الشباب الثوري صلابة لافتة، متحدّين قسوة الشتاء، والثلوج التي تغلق الطرق، والأهوال الطبيعية، حاملين روح الصمود التي تأبى الانكسار حتى في أقسى الظروف.

1- نضال:

باعتباره الشخصية الساردة، مستخدمًا ضمير المتكلم أو صوت الراوي العليم. حين اعتُقل شقيقه "حاذق"، أدرك أنه الهدف التالي، فشجّعته والدته على الهرب، لينجو بنفسه من المصير ذاته. قرر حينها التوجّه إلى كردستان للالتحاق بشقيقه الآخر "كمال"، الذي كان بدوره قد أفلت من حملة الاعتقالات.  لكي يرتب اتصاله وانضمامه الى صفوف الأنصار .  ويرتب خروجه الآمن من بغداد ( توجّهتُ إلى مكان عملي، وكنت حينها أعمل في مستشفى بعقوبة المركزي، الذي يبعد عن منزلنا ساعة تقريبًا بالسيارة. هناك طلبتُ إجازة لثلاثة أيام، اعتقدت أنها كافية للمغادرة. استعدّيت أنا وأخي قحطان لمغادرة منزلنا في بغداد دون تأخير بعد عودتي من بعقوبة." (ص229) ظلّ هاجس الهرب يُلاحقه، وسط شعور بالارتياب والحذر من نقاط التفتيش المنتشرة على الطريق، وقد شكّ به أحد الجنود بسبب رداءة الخط في دفتر الخدمة. لكن نضال تمالك نفسه وردّ بثقة ساخرة: "جان خطه مو حلو، على أساس يعدله، خطية راد يكحلها... عماها." (ص235) وصل أخيرًا إلى قرية "أحمد آروى"( برفقة مجموعة من الأنصار، ليبدأ فصلاً جديدًا في الحياة الجبلية القاسية المحاصَرة بربايا الجيش والمرتزقة، حيث عانى مع رفاقه شحّ التموين، حتى أنّ بيضتين فقط كانت توزّع على خمسين مقاتلًا! ) (ص248) جلب المياه كان مغامرة محفوفة بالمخاطر، وسط الانحدارات المكشوفة ونيران العدو، حيث تُحمَل المياه في قناني بلاستيكية على ظهور البغال. وقد استخدم نضال خبرته في التمريض لخدمة الأهالي، ما أكسبه احترامهم وتقديرهم. ورغم تهديد المرتزقة، وصعوبة الطبيعة، ظلّ الشباب يتحلّون بروح التحدي، مدركين أن كسر آلة القمع يتطلّب تضحيات، خاصة وأن العدو امتلك أدوات متطوّرة مثل مناظير الرؤية الليلية وقنّاصة يُصيبون أهدافهم من مسافات بعيدة. في مشهد بالغ التعبير، يصف الراوي اجتيازهم للمسالك المغطاة بالثلوج: "كنا حذرين بتأنٍ في خطواتنا، بسبب كثافة الثلوج المتراكمة على طول المسالك الغامضة، وانتشارها بهيئة مخيفة على المنحدرات التي يمكن أن تنهار فجأة. مضينا نقطع شوطاً كبيراً في مسيرتنا نحو القمة حتى وصلنا إليها." (ص296) ختام هذا المقطع يكشف أن الرواية لا تمجّد البطولة فحسب، بل تُجسّد تجربة التشبث بالحياة، في مواجهة آلة بطش متوحشة، وفي حضن طبيعة

2 - حازم:

يظهر "حازم" في الرواية كشخصية نضالية بارزة. خريج كلية الآداب، قسم اللغات، ومتزوج من "سهاد"، شقيقة نضال. يعمل في شركة كبيرة للإنشاءات، ويتمتع بشخصية مرحة ومحبوبة. لكنه، في خلفية حياته الاجتماعية، كان مناضلًا حقيقيًا؛ اعتُقل في انقلاب شباط الأسود 1963، ونُقل إلى سجن "نكرة السلمان" ضمن ما عُرف بـ"قطار الموت". لم يكن مجرد عضو حزبي، بل قائداً ذا خبرة عسكرية، سبق أن خدم كضابط في الجيش، وناشطًا في الحركة الطلابية، مما جعله دائمًا في مرمى المراقبة الأمنية. أُعيد اعتقاله في أواخر السبعينيات، بعد تصاعد الإرهاب في ظل الجبهة الوطنية، حيث أُعدم 31 إنسانًا بتهمة ملفّقة تتعلّق بتنظيم حزبي في صفوف الجيش. يحكي حازم عن تجربة تحقيقه القاسية: ("كانوا يعرفون كل شيء عني، حتى أدق التفاصيل عن حياتي، حركاتي، اجتماعاتي، وحتى ألوان الملابس التي أرتديها. وعندما أنكرت ما ورد في تقريرهم، أعادوني إلى الزنزانة.")  (ص115) ورغم عرض السلطات عليه تولي أي وظيفة يرغب بها، رفض ذلك بإباء، ثم غادر إلى كردستان، ومنها إلى بلغاريا. وفي عام 1982 عاد إلى الوطن والتحق بصفوف الأنصار في جبل قنديل، على سفوح بشت آشان. كلّفه الحزب بمهمة سرية إلى بغداد، لكنه تدارك الموقف سريعًا حين علم أن الأجهزة الأمنية تعرف بوجوده هناك — بسبب تغلغل عناصر الأمن في الحزب — فانسحب فورًا قبل الوقوع في الأسر. مع ذلك، سقط في هجوم مباغت نفذته قوات "أوك" (الاتحاد الوطني الكردستاني) في مجزرة بشت آشان، التي أودت بحياة عشرات الشباب. أُصيب حازم بجراح بعد نفاد عتاده، ومع أنه كان ينزف، أجهزوا عليه بوحشية. لم يكتفوا بإصابته، بل امطروه بالرصاص وهم يصرخون مبتهجين: "- فنرسله إلى الجحيم الآن، ونمزقه ببنادقنا أربًا." (ص273) وهكذا أُعدم وهو ينظر إليهم بعينين تشعّان شموخًا وثباتًا. في لحظة احتضاره، يرسم النص مشهدًا إنسانيًا غارقًا في الرمزية: "يرفع حازم رأسه، فجأة انسكب شعاع من عينيه، فسقط على شاشة الحياة، فارتسمت لوحة كبيرة تظهر عليها سهاد، وأولاده ماجد وعمر، أمام ناظريه مبتسمين، وعلى وجوههم علامات الانتظار. شدّهم الشوق إلى اللقاء ولمّ الشمل... وإذ بابتسامة عريضة تغمر وجهه."

3 - عملية الأنفال:

يرصد النص واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبها النظام البعثي بحقّ الشعب الكردي، متمثلة في الهجوم الكيماوي الذي استهدف قرى عديدة، وخاصة مدينة "حلبجة المنكوبة"، ضمن ما أُطلق عليه اسم "الأنفال" — محاولة يائسة لإضفاء صفة "مقدسة" على جريمة همجية. أسقطت الطائرات صواريخ محمّلة بغاز الخردل، لتسمّم الإنسان والحجر والشجر. لم تقتصر الجريمة على الغاز فحسب، بل توسّعت باستخدام شتى أنواع الأسلحة الفتّاكة، ترافقها عمليات تهجير واسعة. الغاز أثّر في الجهاز التنفسي، وتسبّب في حالات اختناق وعمى وتشوهات جلدية. اضطر الأهالي والأنصار للفرار صوب المناطق البعيدة أو خارج الحدود، وسط ملاحقة المرتزقة والجحوش المدعومين بأسلحة متطورة. "تم استخدام جميع أنواع الأسلحة الفتاكة، بما في ذلك الأسلحة الكيمياوية. وأطلق النظام على جريمته الشنيعة اسم الأنفال، ليُغلف بها طغيانه. شنّ هجومه الهمجي على القرى الكردية الآمنة بعد تهجير سكانها، وقتل من وقع في أَسره... في ذلك الوقت كنا ننتقل من قرية إلى أخرى، بينما الجيش ومرتزقته يتعقّبوننا." (ص308) 4 - العودة بعد الاغتراب:

بعد أن نجا "نضال" من الموت المحقق، غادر إلى "الاتحاد السوفيتي"، وأُدرج في زمالة دراسية نُسب على إثرها إلى "أوكرانيا"، حيث التقى بفتاة أوكرانية وتزوجها رغم اعتراض والدتها. رزق منها طفلين، ثم هاجر إلى إحدى دول أوروبا الغربية، وهناك مكث لسنوات طويلة حتى عاد إلى العراق، مختتمًا غربةً امتدّت لـ"سبعة وعشرين عامًا".

4 - رحلة العودة بعد الاغتراب:

لم تكن أقلّ قسوة من رحلة الغياب. فكل شيء قد تغيّر، حتى الأماكن التي كان يحتفظ بها في ذاكرته بدت له غريبة؛ بيته القديم، الطرقات، التفاصيل التي ظلت حية في وجدانه... أصبحت أشباحًا لا تشبهه. لكن الشوق الذي ظلّ حيًا في أعماقه، كان موجّهًا نحو والدته؛ تلك العاطفة الصافية التي لم تشوّهها السنوات، ولا ابتعد عنها الحنين: "منذ أن تركتُ الوطن، شعرتُ بأن الرحيل سيكون بلا عودة. لكن كان يراودني الأمل دوماً أن أعود يوماً ما، كي ألتقي والدتي التي اشتقتُ إلى حضنها كطفل رضيع... إلى لمسات أصابعها وهي تغرسها بين خصلات شعري، وتربّت على ظهري لتسكّن آلام ضياع السنين. لم يتوقّف قلب أمي عن الخفقان لحظة واحدة، وهاجس الانتظار يصرخ ألماً، معبّراً عن مدى ارتعاشها ويأسها." (ص391)

***

جمعة عبد الله – ناقد ومترجم

 

في المثقف اليوم