صحيفة المثقف

العطاءُ سرُّ الخلود.. الى أوتونابيشتم الباحثِ عن سحرِ الخلود

من منا لا ينزع الى الخلود.. من منا لا يبحث عن طريقٍ ما  لم يسلكْه أحدٌ غيره كي يخلدَ، وأجمل المعاني التي ندركها تلك التي نسلك دروبَها لوحدنا دون دال ومدلول، والمعادن الثمينة وجودُها نادر، وحيازُها صعب، كذلك المعاني الجميلة ليست سهلةَ المنال.

الأماكن مثل البشر لديها توق لتظفر بالمعاني الجميلة لكن طريقة التعبير لديها مختلفة عنا، هي تفرض علينا ذلك، وتستحِثَّ خطانا على بحثِ المعاني فيها، وكأنها تحمل إحساسَنا. ومن تلك المعاني نزعة الخلود. الجمادات لها إحساس لا ندركه نحن، يدعم كلامي هذا:

أولا: القرآن الكريم

بقوله: (تسبّحُ له السمواتُ السبعُ والأرضُ ومن فيهن وإن من شيءٍ الاّ يسبحُ بحمدِهِ ولكن لا تفقهون تسبيحَهم). (الإسراء - 44).

و(كل قد علم صلاته وتسبيحه). (النور - 41).

و (وإنَّ منها لما يهبطُ من خشيةِ الله).(البقرة – 74).

ثانيا: علم الفيزياء

أثبتَ هذه الحقيقةَ بكل يقين، أن كلَّ الجمادات فيها من الإحساس ما لا يدركه أي أحد. هو إحساس خاص بها غير إحساس الكائنات الحية الناطقة الأخرى.

علماء الفيزياء الكوريون (حدّدوا موطنَ الإحساس في بعضِ قطعِ الجماد، وتخاطبوا معها بأنواعٍ

من الأشعة التي تحركها، وتبين لهم أن للجمادِ مواطنَ إحساس وذاكرة؛ يمكن التعامل معها بصورة علمية، فقد أكّدَ مشاهدون رأوا ذلك حقيقة حيث وضعوا أمامهم قطعةَ حديد مطوية، ثم سحبوها حتى أصبحت سلكاً مستقيماً من الحديد، ثم أرسلوا اليها أشعةً من جهاز صغير يشبه القلم؛ فعادت الى حالتها الأولى(الحلزونية)، وقالوا لقد أجريت على هذه القطعة دراسات مركزة حتى وصلنا الى موطن الإحساس فيها؛ فأصبحنا نخاطب هذا الموطن بالأشعة.

وفي علم الفيزياء تنص نظرية الذرة على أن كل مادة تحتوي على ذرات صغيرة جدا لا ترى بالعين المجردة، وكل ذرة تحتوي على ألكترونات تدور حول النواة، وتتكون النواة من البروتونات والنيوترونات، وتتحكم حركة الألكترونات من حيث سرعتِها واتجاهِها بحسب الطاقة التي تسلط عليها، وبذلك فإن كلَّ الأجسام بما في ذلك الجمادات تتحرك على مستوى الذرة. والذرة تتأثر بالطاقة التي تسلط عليها، والطاقة هنا هي الأحاسيس الإيجابية أو السلبية التي ينقلها الإنسان الى هذا الجماد. وكما نعلم ان  الجمادات حولنا كثيرة لا نحصيها، والماء من أكثر الجمادات أو(العناصر) التي تشعر بالبشر، وتتفاعل مع مشاعرِنا وحالتِنا النفسية السلبية أو الايجابية، كذلك الجدران تتأثر بالمشاعر على المدى الطويل ولها ذاكرة، وتخزن الطاقة الايجابية أو السلبية) (وليد سليمان. جريدة الرأي، السبت 2/4/2001، حقل أبواب).

الماء يتأثر وتتغير جزيئاته بشكل جميل جدا، خصوصا مع الموسيقى الهادئة، (وجعلنا من الماء كل شيء حي)(الأنبياء – 30).

هذه الآية الكريمة لا تشير الى الماء كونه مصدر الحياة فحسب بل إن الماء يتأثر بمزاج الانسان فهو يعي ويفهم ويتأثر!!!

لقد بحث العالم الياباني سمارا ايموتو في مجال الطاقة السلبية على الانسان فجنّد نفسه وبحث في علم البلوريات وهو علم قائم بذاته وحقل من حقول علم الجيولوجيا (علم الأرض ودراستها) وقال: “إذا تم توجيه كلام أو أفكار شخص ما الى قطيرات  ماء قبل تجمدها فإن أشكال بلورات الماء  ستكون إما جميلة أو بشعة اعتمادا على كلام أو وأفكار ذلك الشخص ما إذا كانت إيجابية أو سلبية. ويقول ايموتو: إن هذا يمكن أن يحدث بإلصاق كلمات مكتوبة أو موسيقى أو صلوات الى جانب وعاء ماء.  فتجارب ايموتو على بلورات الماء كانت عبارة عن تعريض الماء في الزجاجات لكلمات أو صور أو موسيقى ثم تجميده، وفحص النتائج الجمالية للبلورات الناتجة باستخدام التصوير الميكروسكوبي، ووجد ان الماء يتأثر بالكلام الطيب وبذكر الله تعالى عند التسمية عليه وبأسماء الله الحسنى، وليخرج على العالم بكتاب يقع في خمسة مجلدات أسماه (رسالة من الماء Message from Water). ذكر فيها الأعاجيب وكيف يتغير تركيب الماء البلوري لكل اسم من أسماء الله الحسنى، وعند ألاذان، وعند التسمية عليه وقراءة القرآن”. (موقع دنيا الوطن- 18/7/2012).

الماء والأرض توجد محاكاة بينهما فالأرض تتأثر بمجرد نزول الماء عليها. يقول تبارك وتعالى تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت: 39]. هنا يحصل اقتران بين نزول الماء وإحياء الأرض. في ضوء ما ذكرنا يمكننا أن نستنتج أن الماء يحمل قوة إحياء للأرض.

"إن الماء يسبب اهتزاز الأرض وقد ثبت علمياً أن اختلاط جزيئات الماء مع جزيئات التراب يسبب الاهتزاز لهذه الجزيئات لأن الماء يحوي طاقة عالية، يقول تعالى: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الحج: 5-6].

من هنا يمكننا القول: "بما أن الماء يحمل الحياة للنبات، ويحمل الحياة لكل خلية من خلايا جسدنا، وكذلك فإن الأرض كما أنها تهتز بنزول الماء عليها فإن خلايا الجسد تتأثر وتهتز بدخول الماء فيها، ومن الممكن أن يتأثر الماء بالاهتزازات الصوتية (فالصوت هو موجات أو اهتزازات ميكانيكية تنتقل عبر الهواء وتنتقل عبر الماء بسرعة أكبر بكثير!) إذاً من الممكن أن الماء بعد قراءة القرآن عليه أن يصبح أكثر قدرة على الشفاء، وهل نجرب كما جرب بعض علماء الغرب الذين تناولوا هذا الكتاب – رسالة من الماء -  بريّ مزروعاتهم بمياه قالوا لها كلمات طيبة فشاهدوا كثرتها وازدياد خيرها."(موقع دنيا الوطن، 18/7/2012).

وفي الماء المسلط عليه طاقة ايجابية كقراءة الأسماء الحسنى وذكر الله وما شابه يكون فيه  شفاء للجسد، وخلايا الجسد حاجتها ماسة مباشرة اليه، لذلك لا عجب حينما نسمع بأن ماء مقدساً في مكان ما يتشافى فيه الناس حين يتناولونه، أو يغتسلون به.

وفي ضوء ما تقدم ذكره، تتبين لدينا حقيقة وهي؛ حينما نلج أماكن العبادة يحدث لدينا شعور الطمأنينة والسكينة والخشوع والجلال المعنوي، وهي معان احتوتها الطاقة الإيجابية المسلطة على فضاء تلك الأماكن المقدسة بشكل يومي؛ فتشربتها جدرانها بسبب كثرة ذكر الله فيها فَسادَها ذلك الفضاء القدسي.

ميتافيزيقا المكان

(ميتا) مصطلحٌ يطلق على ال(ماوراء)، (فيزيقا) تعني (الوجود المادي)، وإذا اجتمعتا صارتا(ميتافيزيقا) وتعني (ماوراء الوجود المادي)، يعني الغيبي. وأيضا تعني خارج الحواس والشعور، أو اللاشعور.

"ميتافيزيقا(Metaphysics) تعني ما بعد الطبيعة، أو علم ما بعد الطبيعة، وهو الفلسفة الأولى في مراتب الفلسفات، وهو علم الربوبية، والعلم بالموجود بما هو موجود. والعلم الإلهي الذي مجاله البحث في الموجود المطلق، والحقيقة المطلقة لا الحقيقة النسبية، والبحث في المبادئ الكلية والعلل الأولى، وأحوال الموجودات التي لا تفتقر في وجودها الى المادة، والوجود الواجب، وآلته الحدس المباشر وليس الاستدلال والتحصيل والنظر العقلي. وهو أعم وأعلى من سائر العلوم، لأنه العلم بالمبادئ التي تستخدمها سائر العلوم. وغرض علم الميتافيزيقا الاطلاع على الحقيقة المطلقة لا الحقيقة النسبية، واستخلاص المعارف القبلية والمجردة الخارجة عن نطاق التجربة، والنفاذ الى الوجود الحقيقي خلف كل تجربة، والبحث عن حقائق الأشياء وأصولها. وقد تنقسم الميتافيزيقا لذلك الى ميتافيزيقا عامة أو علم الوجود بما هو موجود، وميتافيزيقا خاصة هي علم الموجودات، ونظرية الكون وحقيقة المادة ". (المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، د. عبد المنعم الحفني، القاهرة: مكتبة مدبولي، ط3، 2000، ص859).

ميتافيزيقا المكان تعني غيبيةَ ولاشعوريةَ المكان. المكانُ فيه بعدان مادي ومعنوي، يعني نحياه في الشعور واللاشعور، بالجسدِ والروح. الجسدُ يمثل الجانب المادي، والروحُ تمثل الجانب المعنوي؛ فالجسد غير الروح. حين نعقل أشياءَ فهذا معناه أننا نُدخِلها في حيّزِها المادي العقلي؛ فنخضعها للتصور والجدل والدليل والبرهان، لكن حين نحسُّها بالروح؛ فهذا معناه أنها خارج عن عالم الشهود وعن العقل، وهي في حيّز المعنى الذي نعيشُه بشعورٍ متجرد عن الحواس وهو ليس بحاجة لدليلٍ وبرهان؛ ويعتمد بشكل كلي على إحساسِنا الداخلي بالأشياء. مثلا حينما نريد تأليف قصيدة شعر فإن أبيات القصيدة سوف نُخضِعُها لعالمِ الخيال لأن الشعرَ يحوم فيه، وحين نكملها بخيالِنا وإحساسِنا الداخلي، تولد بهيئة أبياتٍ مكتوبةٍ متجسدةٍ أمامنا على الورق، فوجودُها في عالم المعنى والخيال غير وجودها على عالم الورق والكتاب المحسوس والمرئي أمامنا، وهذا الذي أقصده بالفرق بين الوجود المادي والوجود المعنوي للشيء.

نحن نحيى في أكوانٍ عدة، ولعل أهمها إثنان هما:

الأول: المنزل أو السكن: وهو أولُ كونٍ يضمنا بين كفّيه الكريمتين، وننبسط بين بُعدَيْه المادي والمعنوي:

1- المادي: وينبسط في إمتدادين هما:

أ- أفقي يشمل كل احتياجاتِنا المادية اللازمة لتكوينِنا الجسدي، وهي ممتدة ومنبسطة مع وجودنا فيه. دور المنزل هنا هو دور الفاعل.

ب - عمودي، وهو المتمثل بالسعي والحركة بقوةٍ لنيلِ أمانينا بجدٍ ومثابرةٍ واجتهاد، في ظله. دورنا هنا هو دور الفاعل.

2- والمعنوي أيضا ينبسط في امتدادين هما:

أ- أفقي: يشمل كلَ احتياجاتِنا المعنوية متمثلاً بمعاني الدفء، والحب، والسكينة، والطمأنينة، والأمان، نستقيها من معينه المنبسط والممتد معنا ما دمنا بين أحضانه؛ فهو المهد الأول الذي يضمنا، وأيضا دورُ المنزل هنا دورُ الفاعل.

ب – عمودي: ويمثل المنهلَ الخالد الذي نرتشف منه صفوَ المعاني التي نلبث نحملها على امتداد أعمارِنا حتى في لا شعورِنا. دورنا هنا هو دورُ الفاعل.

لذا فحين نسمع أحياناً أن بعضَ الناس يولدون ويموتون في نفس المنزل، ومن بعدهم يسكنه الأبناءُ والأحفادُ لا نستغرب ذلك؛ لأن المنزلَ ألهمهم قيماً ومعانيَ صارت متأصلةً حتى في زواياه، وأركانِه، وأجوائِه، وفضائِه، وهوائِه؛ فالمنزل لم يعد بناءً صامتاً من الحجر والجدران والحديد وغيره، بل صار سكناً يعبق بالمعاني التي اندكت في شخوصهم، ففيه يجدون لذّتَها وعذوبتَها، ولا يمكنهم أن يبرحوها، ولبثوا في منزلهم يتوارثون استنشاق معانيه العبقة جيلاً عن جيل.

الثاني: البيئة أو المكان: وهو الذي نتحرك فيه، ويضم المنازلَ ومساكنَ الآخرين النظيرة لمسكنِنا، والطبيعةَ وكلَ صور الحياة الأخرى. وهي مثيلة السكن بالضبط لا فرق، ففيها جانبان؛ هما:

1- المادي:  وينبسط في امتدادين هما:

أ- أفقي: وهو الحسي متمثلاً بكل ما تضم طبيعة المكان من أشياءَ مرئيةٍ، نستمتع ونتلذذ بها، وطبعا حسب طبيعتِه كأن يكون غنياً، فإن كان غنياً نرتع بخيراتِه ونعيمِه وخصبِه وما احتوت طبيعتُه من كنوز، وإن كان فقيرا فسيكون له أثرا سلبيا على نفوسنا يرافقنا حتى في المستقبل البعيد. ودور المكان هنا دور الفاعل.

ب- عمودي: ويشمل وظيفتنا المادية وعطاؤنا في العمل والسعي لبناء المكان والسعي لإستجلاء أكمل وأجمل صورة له ويعتمد هذا على إخلاصنا في العمل والجد، وكل بحسبه واختصاصه. دورنا هنا دور الفاعل.

2-المعنوي: وينبسط في امتدادين هما:

أ- أفقي: وهو معين القيم النقية الذي يستبطنه المكان،  فترتشف منه أرواحُنا، فنستشعرُ لذةَ المعاني التي تضفيها علينا الحياة في طبيعته، التي  لها دورٌ كبير في خلقِ طبيعة شخوصنا. دور المكان هنا دور الفاعل.

ب- عمودي: روح المكان المعطاءة هي منجمنا الأول والدائم الذي منه نستلهم المعانيَ الجميلة التي تسند أرواحَنا وتلبث متكّأَنا على امتداد أيامِنا. فإذا كانت الطبيعةُ غنيةً بكل ما احتوته بين كفيها الكريمتين فستكون هي الفيصل في خلقِ أبعاد شخوصنا على مختلف الأصعدة، وأما إذا كان فقيراً فهذا سينعكس قطعاً على رسم معالم شخوصنا كاملة وعلى المدى البعيد. دورنا هنا دور الفاعل.

يحضرُ في ذهني مثالٌ  ذكرته بنت الشاطئ في إحدى مؤلفاتها عن النبي ابراهيم (ع)، وللأسف لم أعثر على المصدر، قرأته قبل عشرين عاما، وهو - كما قيل وقرأناه وربما لم يقرأْه بعضٌ في الروايات التاريخية - أن الأسباطَ الذين تحدث عنهم القرآن الكريم والممتدين من أبناء النبي يعقوب بن إبراهيم (ع)، كان موطنُهم الأول هو مكة المكرمة، لكنهم حينما غادروا مكةَ وتفرّقوا في الأرضِ أخذوا معهم حجارةً من البيتِ الحرام لتمكثَ ذكرى من مكةَ موطنِهم الحبيب، ومن البيتِ الحرام الذي هو ملهمهم الروحي والمعنوي، وقد تكاثروا فيما بعد، ومكث الحنينُ منهم لمكة جارفاً وحاراً للحدّ الذي قدّسوا الحجارة، وأخذوا يضعونها في الوسط ويدورون حولها أينما حلوا ويتمتمون بأورادٍ خاصة شبيهةٍ بأورادِنا التي نرددها حين الطواف حول البيت الحرام، على امتداد أعمارِهم من جيل الى جيل، وحتى بعد أن افتقدوا تلك الحجارة أخذوا أحجاراً وانتهوا بنحتِها على شكل أصنام، فصنعوها أصناماً تحمل أسماء بشرية، ومكثوا يدورون حولها في أي مكان يحلون فيه. وهكذا نشأت عبادةُ الأصنام خارج مكة، وهي بالأصل تقديسٌ لأرضِ مكةَ وحبُ المكانِ والوطنِ الملهم حتى جاء الإسلامُ فحطّمَها.

الأهوارُ شهدت رحلةَ البحثِ عن  الخلود

منطقة شاء الله لها أن تكونَ قبل التاريخ، لم تطرقْ أبواب التاريخ. التاريخ طرق أبوابَها؛ كانت هي  ثم كان التاريخ.

كانت الأهوار، وكانت الجزائر(الجبايش) التي تعانق الهور بعنقها المزدان بعِقْدِ أحجار نفيسة: الماء، الغرين، البردي والقصب، النخيل؛ هذه الرباعية رسمت لها نقشاً جميلاً على خارطة الأرض، حتى أُطلق عليها في العهد القديم ب(جنات عدن)، ثم أطلق القرآن الكريم عليها وعلى مثيلاتِها بقوله (وجعلنا فيها جنات من نخيلٍ وأعنابٍ وفجرنا فيها من العيونِ ليأكلوا من ثمرِه وما عملته أيديهم..).

إبن الأهوار، طفق يبحث عن سحر الخلود وبحث عنه في النهر، لأن لا وجودَ لغير النهر حواليه، فكما أن الحياةَ جاريةٌ فيه كجريان الماء؛ فبحثه عن الخلود كذلك أراده من الطبيعة المحيطة، ومن الماء الكريم تحديداً، فظنّ أن الطبيعة تجود عليه بكرمِها؛ فتخلّده بنعيمِها الذي لاينضب. فهو لايكلّفُ نفسَه بالسعي الطويل والبحثِ والتنقيب، لكون الحياة غنيةً حواليه، وفيها تراكمٌ هائلٌ لذلك نزعة الميل للخلود عنده عالية، لأن خيرَ الأرض متدفقٌ على الدوام. والخلودُ هو مفهومٌ ميتافيزيقي استقاه "أوتونابيشتم" (نوح) كما تقول بعض الروايات التاريخية، من مفهوم خلودِ الإله، وذلك بعد خوضِه تجربةِ الطوفان العظيم، الذي أقرّ بعده بأن الخلودَ للإله فقط، بعد أن غرق كل ما على الأرض ولم يبق سوى هو وزوجته، ومن على سفينته، وقصّ قصتَه على "كلكامش"، بعد أن رآه حزيناً على صديقِه الفقيد " أنكيدو".

كان "أوتونابيشتم" يبحث عن خلودٍ مادي للجسد، كما ورد في ملحمة كلكامش، الذي أفقده الموتُ صديقَه الحميم "أنكيدو" بعد دخولهما غابة الأشجار وقتلا حارس الغابة "خومبابا"،  الذي أثار مقتلُه غضبَ إلهة الماء"أنليل" وبمقتله شاعت شهرةُ كلكامش البطل؛ فتحاول الآلهة"عشتار" التقرب منه بغرض الزواج، لكن "كلكامش" يرفض العرضَ، فتشعر الآلهة"عشتار" بالإهانة، وتغضب غضباً شديداً؛ فتطلب من والدها"آنو" إله السماء أن ينتقم لكبريائِها؛ فيقوم "آنو" بإرسالِ ثورٍ مقدسٍ من السماء؛ لكن "أنكيدو" يتمكن من الإمساك بقرنِ الثور ويقوم "كلكامش" بالإجهاز عليه وقتله، بعد مقتلِ الثور المقدس تعقد الآلهة اجتماعاً؛ للنظر في كيفية معاقبة "كلكامش" و"أنكيدو" لقتلهما مخلوقاً مقدساً؛ فيقرر الآلهة على قتل "أنكيدو"؛ لأنه كان من البشر؛ أما "كلكامش" فكان يسري في عروقِه دمُ الآلهة من جانب والدته التي هي إلهٌ خالد، ووالده بشرٌ فانٍ، وتُنزل الآلهة مرضا أصاب "أنكيدو" الصديقِ الحميم لكلكامش فيموت بعد فترة. موت "أنكيدو" أغرق "كلكامش" في حزن عميق عليه، وفكر بطريقة ما تبقيه خالدا، لأنه كان  خائفا من الموت في قرارة نفسه؛ فبدأ "كلكامش" في رحلة البحث عن الخلود وعليه أن يجد الإنسان الوحيد الذي وصل الى تحقيقِ الخلود وكان أسمه"أوتونابيشتم"، وأثناء بحثه عنه يلتقي بإحدى الإلهات واسمها (سيدوري)، فتقوم بتقديمِ مجموعةٍ من النصائح لكلكامش ليقى خالد، والتي تتلخص بأن يستمتعَ بما تبقى له من الحياة بدلا من أين يقضيها في البحث عن الخلود؛ ويحاول أن يكون سعيدا، لكن "كلكامش" كان مصراً على سعيه في الوصول الى "أوتونابيشتم"؛ لمعرفة سر الخلود؛ فتقوم (سيدوري) بإرسال كلكامش الى الطوّاف (أورشنبي)؛ ليساعده في عبور بحر الأموات (البحرين) حاليا، ليصل الى "أوتونابيشتم" الإنسان الوحيد الذي استطاع بلوغ الخلود، وعندما يجده يبدأ الأخير بسرد قصة الطوفان العظيم الذي حدث بأمر الآلهة، وقصة الطوفان هنا شبيهة جداً بقصة طوفان(نوح)، وقد نجا "أوتونابيشتم" وزوجته من الطوفان، وقررت الآلهة منحهم الخلود. تشعر زوجته بالشفقةِ على "كلكامش"؛ فتدله على عشبٍ سحري تحت البحر بإمكانه إرجاع الشباب الى "كلكامش" بعد أن فشل مسعاه في الخلود؛ فيغوص "كلكامش" في أعماق البحر في أرض الخلود، ويتمكن من اقتلاع العشب السحري. وبعد حصول "كلكامش"على العشب السحري يقرر أن يأخذه الى أورك؛ ولكن في طريق عودته وعندما كان يغتسل في النهر سرقت العشب إحدى الأفاعي وتناولته؛ فرجع "كلكامش" الى أورك خالي اليدين، وفي طريق العودة يشاهد السورَ العظيم الذي بناه حول أورك؛ فيفكر في قرارةِ نفسه أن عملاً ضخماً كهذا السور هو أفضل طريقة ليخلدَ أسمَه. (ملحمة كلكامش. طه باقر. مكتبة النور).

وقيل أن "كلكامش" بعث" أتونابيشتم" للبحث عن الخلود؛ فطفق يبحث عنه في نبتةٍ أُبلغ عنها أنها في قاع النهر، ولما استخرجها منه؛ جاء يعدو مسرعاً فرحاً لصديقِه بمحاذاة النهر، وفي الأثناء خرجت حية منه، وأكلت النبتة التي بيده؛ فعاد الى صديقه "كلكامش"، مستسلماً يائساً معلناً أن لاخلودَ للجسدِ المادي.

الماء ..الكنز العظيم

الماء ألماس الأحجار الكريمة، هذا المخلوق الغني المغتني، الذي أعطى للحياة معنىً على بقعة من بقاع الأرض تعانق الهور، والهور روح الحياة فيها؛ فاحتضن الأرض، والسماء، والحياة، والطبيعة، والناس، وكل شيء.

اتخذها السومريون موطناً لهم، وما كانوا مخطئين؛ حيث الماء شرط بزوغ فجر الحضارة. هو الشريان الأبهر لقلب الحياة هنا؛ منه تتفرع شرايين تتخلل الحياة وتدخل بجزيئاتِها وذراتِها، وهو عاملُ خيرٍ، وخصبٍ، ونماءٍ، وعطاءٍ للأرض، وللإنسان.

الماءُ كائن حي يهبُ الحياةَ لكل شيء (وجعلنا من الماء كل شيء حي). الماء حين يغطي ثلاثةَ أرباع الأرض في هذه المنطقة، يعني يتغلغل في أعماق حياة الناس المادية، والمعنوية هنا.

على الصعيد المادي، الماءُ أغنى الأرضَ، وفجّرَها ينابيعَ (فسالتْ أوديةٌ بقدرها)، فانفجرت بخيراتِها، بنخيلِها، وأشجارِها، وثمرِها، وزرعِها، وينعِها، وكل شيء. والخيرُ هنا متدفقٌ مادام الماءُ  متدفقاً بالكرم والعطاء للحياة، فتمتلىء نفوسُ الناس، وحين تمتلىءُ النفوسُ ينبثق العطاءُ، والعطاءُ هنا هو ضربٌ من ضروبِ الكرم الذي هو في الواقع الكرم المستمد من الماء، نسميه – الكرم المائي- لا يقف، أو يتوقف عند أحد، أو محطة... هو متدفق على الدوام، مثالنا هنا هو: قوةُ دفعِ الماء المتدفق بالتساوي على بستانِ نخيلٍ يمثل العطاء، والعطاء الدفّاق هنا أن كلَّ نخلةٍ ستعطي ثمارَها لوجود الحياة المستديمة المستمدة من الماء، فالكرم خرج من كونه بشرياً بحتاً صار كرماً مائياً بحتاً، والكرم البشري هنا خرج من كونِه صفةً للشخصية الى أصلٍ فيها.

الماءُ عاملُ أساسٍ لاستقرار الإنسانِ لذلك لا يمكن لأي حضارة أن تقوم ما لم يوجدْ الماء. والأرضُ كريمةٌ بالأساس فصنعت الطبيعة الساحرة الغنية.

ميتافيزيقا الجبايش

طبيعةٌ ضُمَّت بين كفّي الجبايش بكل ما تملك من غنىً وثراءٍ مادي مستمدٍ من الماء، أغنى الأرضَ والسماءَ والهواءَ والناس؛ ومعنويٌ مستلهمٌ من طبيعتِها التي تستدعي ساكنَها للتأملِ والصمتِ والسكينة، فتهدّئ النفسَ والأعصابَ وتدخل بشكل مباشر في خلقِ الشخصية، لأنها تتغلغل بالعمقِ فيها كما يتغلغل الماءُ في عمق الحياة الذي يتخلل حتى زوايا المنازل.

على الصعيد المعنوي؛ جغرافية المكان لها أبلغ الأثر في تكوين الشخصية. يمكث البعدُ المعنوي لطبيعتها ثاوياً في أعماق ساكنِها حتى على امتداد حياته المستقبلية. الماء الذي احتوى حياةَ أهلِ الأهوار المادية  هو أيضا احتوى حياتَهم المعنوية، إذ تتجسّدُ فيهم دماثةُ الأخلاق، وأصالةُ القيم والتقاليد، وجمالُ، ودفءُ، وكرمُ النفوس، وهدوءُ الطباع، فالماء حسب علم النفس له أبلغ الأثر في تهدئةِ النفوس وسكينتِها. وانعكس كل ذلك على طبيعة العلاقات الاجتماعية، وسلوكيات الناسِ وأخلاقِهم.

في زيارتي لمدن الأهوار وتحديدا لمنطقة (الجبايش) لمحتُ الهدوءَ والطمأنينةَ على محيا أهلها؛ رغم الظلم والمحن والآلام التي لحقت بأرواحِهم المحبةِ لأرضِهم الكريمة، وطبيعتِهم الغنية والثرية بما اختصها اللهُ دون غيرها. المكانُ الذي تولد فيه وتنشأ فيه يبقى ماكثاً حضوره في وعيِك وفي لاوعيِك.

قناةُ الحرة في حوارها معه، عبّر الأديب الراحل(فهد الأسدي) عن ميتافيزيقا الجبايش قائلا: "ما زلت مشدوداً الى ذلك المكان، ما زلت مشدوداً الى العجينةِ التي أُقتطعتُ منها حتى في كتابتي، لأن جوَّ الجبايش وجوَّ الهور كان يشدني فيها، وما زلتُ في قصصي الكثيرة وحتى أساطيري أبحث عن الأساطير السومرية القديمة، لأني أجد فيها كل ما يشدني". فمن الهور وطبيعتِه الموحية استلهم الأديب الراحل روحَ الأدبِ والأسطورةِ والقصةِ، وضلت مهيمنةً على إحساسِه حتى آخر يومٍ من حياته؛ فلا عجب أن تلدَ طبيعةُ الجبايش قامةً مثل الأديب(فهد الأسدي) الذي وُصف  بأنه(ماركيز، وديستوفيسكي العراق) –حسب وصف النقاد والأدباء له -، وهو بالفعل يحمل هذا  الوصف بلا منازع.

الجبايش فضائي الميتافيزيقي الموحي لروحي بالحبِ، والدفءِ، والصدقِ، وضوءِ الأمل الذي استمدّتُه من شمسِها الصافية، التي علّمتني الصدقَ والإخلاصَ في كل محطات مسيرتي الطويلة، ومنها انطلقتُ لرسم خارطة حياتي التي نقشتُها على صفحةِ عمري وتلوّنت بألوان الجبايش وهي الأصل، وأخرى دخيلة عليها وهي الفرع لتنوع الحياةِ والظروفِ المفروضةِ التي لا دخلَ لإرادتي فيها.

أتمنى لو كنت متحررةً من كل مسؤولياتي لاخترتُ الجبايش محطةً أقضي فيها ماتبقى من سنيّ حياتي، حيث الهدوء، والاسترخاء، والدفء الذي استبطنته على مدار السنين متجلياً لمّا يزل فيها، إضافة الى النهرِ، والهورِ الموحي بالمعنى والجمال، والمضائفَ والصرائفَ المتبقية فيها، فضلا على نظافتها المريحة للنفس، وكل ما فيها يبعث فيك الراحة، والطمأنينة، واستجلاء الجمال الذي  يعتمد أيضا على روحك الباحثة عنه (كنْ جميلا ترَ الوجودَ جميلا).

حبي للشمس واهتمامي بها منذ طفولتي ربما حَمَلَني على اختراقِ الأشياء والمواقفَ والأمورِ بحدّةٍ، مزيحةً الغمامة التي تعترضني؛ وأنتزعُ منها نقطةَ ضوءٍ، تزيحُ عني أيةَ حالةِ يأسٍ في مسيرة حياتي الملَّونة بألوانٍ شتى.

(الإيمان ...أن ترى النورَ داخل قلبك حتى لو أن عينيك لا ترى إلاّ الظلام).

(ليسطعَ النورُ في أعماقِك يجب أن يحترقَ شيءٌ فيك).

(لو زالَ منك الأنا لاحَ لك من أنا) (جلال الدين الرومي).

وهذه الحالة رافقتني على امتداد أيام عمري حتى استطعت إنجاز الكثير، بالاعتماد على نقطة ضوء الأمل في قاعِ نفسي، حتى ولو كنتُ في أحلك الظروف.

إن من يرَ القبحَ في كل شيء لايرى الاّ نفسَه، وهي حالة مستوحاة من نرجسية حادة ينطوي عليها صاحبها.

ربما لأني ولدتُ فيها وعشتُ طفولتي، مكثتْ الجبايش حافرةً في وجداني وذاكرتي. السكنُ في الأماكن الملهمة يجعلك تبدع إذا كنت كاتباً أو أديباً أو...

بفضلِ عصرِ انفجار المعلومة؛ ضُمَّ العالمُ اليوم في قرية واحدة، فلا  البعد يُقصيه ولا القرب يُدنيه. عالم النت طوى المسافات والزمان والمكان. المدنُ الصغرى ملهمةٌ لكبارِ السن أكثر من المدن الكبرى التي تلتهم العمرَ، وتأكُلُه بالخلسةِ والخفاءِ كما يأكلُ السوسُ الخشب.

الأماكن ملهمةٌ، روحُها الخاصة تهبُنا معانيَ وقيماً مضيئةً، فيما اذا تجاوزنا عالمَ التشاؤمِ والضبابيةِ الذي يغشي حياةَ بعضٍ منا، فيحجبُه عن إدراكِ أنقى المعاني وأجملِها.

(هل تعرف ما أنتَ؟ أنتَ مخطوطةٌ إلهية، أنتَ مرآةٌ تعكس الوجهَ النبيل. هذا الكون ليس خارجك. أنظر داخل نفسك كل ما تود أن تكون عليه موجودٌ فيك بالفعل).

(مادام قلبك قد تعلم إشعال الشموع.. فإن الشمس لا تجرؤ على إحراقه)(جلال الدين الرومي).

 

بقلم: إنتزال الجبوري

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم