صحيفة المثقف

تشابالا

محمود سعيدمدينة صغيرة يلفظون اسمها "جابالا، بـ ج معطشة، كأختها العراقية "جا شلون"، في وسط المكسيك، لا يتجاوز سكانها مع القرى المحيطة بها عشرة آلاف نسمة. من حسن حظي أنني زرتها، في شهر تموز الماضي، بالرغم من أنني لم أصدق الدعاية التي جذبتني تماماً، قلت إنها مبالغة. كل ما أعرفه ان الجو في المكسيك ساخن صيفاً، لكني غامرت، وهكذا وجدت نفسي في البيت الذي استأجرته، وكان أكبر من أن يضمني وحدي، لذا توجست من الملل، لكن الوقت انقضى على أفضل مما أتوقع.

كنا في العراق نعاني من احتباس المطر كثيرا، ونادراً ما تدر السماء بكرمها المتلألئ على قدر ما نتمنى، فأحيانا تنقطع المطر سنتين أو أكثر، وأحياناً تهطل وتفيض وتضر وتخلق فيضانات مدمرة، لكني لحظت في تشابالا مطراً يوميا ينهمر بين الساعة السادسة والنصف مساءً حتى التاسعة، لا يدوم أكثر من نصف ساعة، فإن زاد اتخذ هيئة المداعبة، فهو طلّ، يصفع الوجوه لحيظات ثم ينسحب خجلاً بسرعة، ليكرر ملاطفته بين حين وآخر، حتى إذ حلت التاسعة صفا الجو، وهبت نسائم رائعة جففت الماء والبلل، فكأن لا وجود للمطر قبل ذلك.

كلما كانت المطر تطل بقبلها الخفيفة أتذكر ما جاء في التراث "إن أريد خير بلد أُمطر ليلاً وصُحّى  نهاراً". فلاح تشابالا لا يحتاج لري زرعه مطلقاً، فما يتلقاه من منح السماء كاف لزرعه ويزيد، كل ما يهمه أن يقتلع النبتات الطفيلية من بين الزرع، وينظفه تماماً، ولما كانت شوارع المدينة الصغيرة مبلطة بآجر وأحجار طبيعية، مختلفة الأحجام، فالأرض مليئة بمثل هذه النباتات التي تبرز في  الفراغات، وهذا ما يسلي بعض السكان الذين يدأبون بقلعها من أمام بيوتهم.

ما تجود به ارض تشابالا من خير وفيرلا يصدق، فقد رأيت في هذه المدينة من الفواكه عشرة أمثال ما رأيت في الهند. المعروف أن الهند بلد المانكو "العنبة". لكنه بالتأكيد يحسّ بالخجل والصغار أن رأى شقيقه في تشابالا، ربما يزيد وزن الواحدة هنا على نصف كيلو، أما النوع الصغير الذي بحجم العنبة الهندي فيباع بأكياس نايلون لا بالوزن، ربما كل عشر وحدات بعشرة بنسات. كل ما نعرفه من فاكهة موجود عندهم: موز، عنب، برقوق، خوخ، رمان، شليك، كرز، أجاص، تفاح الخ، إضافة الى أنواع لم ارها في العراق، ولا أعرف أسماءها، لحظت بعضها في ماليزيا وتايلند لكنها متوافرة هنا، وبكثرة تفقد المرء رغبته بتذوقها، وحتى بمعرفة أسمائها، أما جوز الهند عندهم فذو حجم هائل، ولا أبالغ إن قلت أن حجمه بين ضعف أو ثلاثة أضعاف حجمه في دول شرق آسيا والهند، وهذا هو أحد معاني مصداقية الخير الذي يتوافر في المطر الدائم ليلاً.

عندما صرفت العملة التي معي، كان بقربي، لحسن الحظ، من يستطيع فك مغاليق اللغة، فيترجم لي، إذ رأيت تشابها بين عملة فرنسا وعملة المكسيك، فعلى وجه العملة الورقية رجال لا علاقة لهم بالسلطة، عرفت بعدئذ أنهم شعراء، أدباء، أو فنانون، قسم منهم معاصرون، وهذا يعني أنهم يقدرون الفن، ولست بحاجة إلى دليل لتكتشف ذلك، فأي بيت في هذه المدينة الصغيرة حديث وقديم مصبوغ بلون ما، يختلف عن اللون البيت  الذي قبله، أو يماثله، لن تر آجرّ بيت من دون صبغ مطلقاً. ولما كان البناء يمتد إلى جبل متواضع في إحد أضلاعها، فقد سرت الألوان الى الجبل، الذي استحالت شوارعه إلى درائج كمدينة عمّان، لكنها هنا مصبوغة بألوان عدة، تجذب الأنظار بصورها المختلفة.

لكلاب الهند وعي يوحدها، ففي كل ركن من مدينة نيودلهي "مثلا" كلابه الخاصة التي لا تسمح لكلب آخر من حي آخر المرور في شوارعها، فتراها تنبح جميعاً بصوت موحد، لتهاجم، أو ترحب، أو تتسكع، بينما كلاب تشابالا قليلة لا تتجاوز عشرة كلاب، وهي مؤدبة رزينة ذوات خلق جم، فلا تكاد تسمع لها صوت مطلقاً، وكل واحد منها، ينحدر من سلالة تختلف عن غيرها، سلالات غالية الثمن في أسواق أمريكا وأوربا، أرخصها يباع بما لا يقل عن ٥٠٠ دولار، ولو كانت هذه الكلاب في مدينة أمريكية، لما بقي واحد منها بالشوارع ساعة واحدة، لتبناها  أحدهم حالاً، معززة مكرمة، واشبعها حناناً وإلفة. 

من ملاحظاتي أن الأهالي هنا لا يحبون الاحتفاظ بالكلاب، فلم ارَ مواطناً مع كلب قط، من يحوي كلباً سائح فقط. إذن من اين جاءت كلاب  الشوارع؟ بعد التفكير حدست أن السواح، لحظة سفرهم افتقدوا كلابهم، فلم يروها، وتخلوا عنها لظروف اضطرارية، وهكذا انساب في الشارع نحو عشرة كلاب، تجمعت معظمها في الساحة الرئيسة أمام قيصرية المطاعم وباعة الخضار، والتي تقع على الشارع الرئيس "مادورو" قرب الميناء، على البحيرة، تأكل مما تضعه السيدة كارمن أمام عتبتها، أو مما يجود به رواد عربات الطعام في الشارع  الرئيس "مادورو"، ثم تستلم للنوم ليلاً تحت أشجار الساحة.

مع كل هذا الجمال، لن ترَ في الشوارع أي قطة، يبدو ان المدينة كانت تخلو من الكلاب والقطط، حتى جاء السياح، فعرفت الكلاب، لكنها لم تعرف القطط، ثم قادني حسن الحظ إلى السيدة كارمن وهي خمسينية تضع كل يوم طاسة مليئة بطعام صناعي للكلاب، قرب عتبتها، مع طاسة أخرى مملوءة بالماء، دعتني للدخول إلى بيتها، عندها قطتان لا واحدة، وحصلت عليهما من سياح لا تدري لماذا اضطروا لتركهما حين رحلوا.

سألتها إن كانت تعرف السيدة رولا، هزت رأسها، ابتسمت "نعم".  بيت رولا على بعد عشرة امتار من بيتي، وقد تبنت أربعة كلاب من أجمل السلالات، أحدها "فالنتينو" ليس جميلاً كاسمه حسب، بل هو أجمل كلب في تشابالا كلها، رولا فقيرة جداً تعيش من بيع خبز تجلبه من المخبز يومياً صباحاً، وتضعه في سلة أمام بيتها، وما تربحه تأكله وتطعم الكلاب منه.

كلاب تشابالا ينطبق عليها المثل: "عزيز قوم ذل". حينما يراك أحد هاته الكلاب، ينظر إلى عينيك بتركيز واضح، لعله يسأل نفسه هل رآك يوما ما مع سيده، أو في أيام عزه؟ ثم يسحب نظره وطيف ألم يبدو واضحاً في عينيه، مع شعور بالاستسلام لقدر ظالم فرض نفسه عليه.

 

محمود سعيد

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم