صحيفة المثقف

الشاعرة التي ترسم في نهاية السطر قمرا

1142 لودي الحدادقراءة في ديوان: نفحات من جليد ونار للشاعرة اللبنانية لودي الحداد.

هكذا تصرح الشاعرة لودي الحداد عن مغزى الكتابة الشعرية قائلة:

"اكتب لأسكب أشواقي على دفاتر الأيام علها تصلك ..اكتب وألون على الرياح علها تلفح وجهك ..اكتب لأموت بين ثنايا الأحرف علني أولد في قصائدك ..اكتب واكتب ..ويقيني نزف وشغف وموج مزبد على شواطئك.."

المجموعة الشعرية نفحات من جليد ونار هي التجربة الثانية للشاعرة لودي الحداد، بعد ديوانها الأول "كؤوس الأحلام" الصادر سنة 2017"، ويقع ديوانها "نفحات من جليد ونار " في مائة وست وعشرين صفحة من الحجم المتوسط ، ويحتوي على أربع وخمسين قصيدة.

وأشعر أنني لا أقف إزاء القصائد إلا إذا أدهشتني وحركتني ارتكازاتها وحركت في داخلي ارتباطا بين اللغة الشاعرية وبين انزياحاتها الفاعلة، ولا أتذكر من القائل: "أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه"، فإذا ما عشتُ أنا في النص؛ فإن قلمي يخرج عن طوعي ولا أدري كيف يسوح . ذلك ما يشدني إلى قصائد لودي الحداد الوارفة الظلال. وفي اعتقادي أن الشعر ضروري ضرورة الماء والهواء ..

لا ملجأ لنا إلا الشعر نتعلم فيه الصدق والخير والجمال ونستعيد علاقتنا الحميمة بالأرض والسماء، والنهر والشجر، والسحاب والمطر. لأن الشعر وعي كامل، واتصال كامل، واستغراق حميم للعواطف السامية .

في الشعر تجتمع اللغات والثقافات كما تجتمع في الحب الأعراق والأنساب والديانات والمذاهب وفيهما معا، في الشعر نرى الإنسان في أجمل صورة وأكملها نرى الإنسان كله، والدين كله، والوجود كله

أسئلة أخرى تتداعى في أذهاننا ؛ لمن تكتب الشاعرة، ومتى تكتب، وعلام تكتب؟ ما جدوى أن يكتب الشعراء الشعر في زمن الحرائق، والتخاذل والإبادة الجماعية والجموع الهاربة من الموت في جهات الأرض الأربع والهجرات السرية والعلنية إلى المجهول ؟ في زمن يحن فيه إلى لحظة سعادة غامرة لحظة فرح كهذه اللحظة ..إن الشاعرة تكتب لمن له قلب وعقل وإحساس ..هي لا تختار اللحظة التي تكتب فيها بل اللحظة هي التي تختارها لتقتنصها تائهة بين دروب اللغة محلقة بأجنحة الخيال لتولد القصيدة ..هي تكتب عن كل شيء ربما عن شيء لم يلتفت إليه الإنسان العادي وقد تكلّم طائرا أو فراشة أو بحرا أو وردة ..

الشعر حصان نافر في ثنايا المخيلة،وبحر الأشواق عصي على كل ضرورة، فهو برق، وبئر أسرار، ونبع جمال غريب هو الضرورة المقيمة في لغزها العصي والشعر كوكب الكلمات السابح في كونه الشخصي يغامر في الوصول إليه عشاق مسحورون مسكونون بالكلمات مثل الشاعرة لودي الحداد .

عنونت الشاعرة قصيدتها الأولى بـ "أمي" تلك الأم التي حظيت بإهداء الديوان ومن غير الأم أولى بهذه الهدية المطرزة بحروف تنبع من ماء القلب؟ وهي عبارة عن مناجاة شعرية ، افتتحتها الشاعرة بالإبحار عميقا في عاطفة الأمومة التواقة للحب وللحنان والدعاء ونور الإنسانية ؛ فرارا من كل ما ينغص ويكدر صفو الحياة الغريبة والمتناقضة والغامضة في النفس البشرية، ليس في مجال عظمتها العارمة، أو خذلانها الرهيب، بل في مجال تلك الصراعات الصغيرة الأكثر إثارة ضمن إيمان عميق بأن هذه الصراعات جديرة بالاهتمام والتفهم والتقدير، لا تفضي إلى سكينة أو معنى، وتُلحِقُ هذه

ويمرُّ الإنسان أحيانا من أبوابٍ لا يعرفها، أو هي لا تعرفه، وكذلك مفاتيح تلك الأبواب قد تكون في يد أديب أو فيلسوفٍ يبحث عن الحكمة ليُشيّدها دربا جميلا يسيرا لمن يريد السير فيه؛ ليجد أسمه بارزا أينما سار في ذلك الدرب، والشاعر في يده مفتاح لبوابة واحدة على الأقل.

و تتدفق القصيدة لدى الشاعرة فتغوص عميقا في الذات الأنثوية عندما تقف أمام نفسها وتبوح بما لديها من أشواق جياشة ملونة بمشاعر إنسانية نبيلة ومعطرة بالذكرى الجميلة حين يتحد الأنا مع ال(أنت) مسترجعة رحيق الطفولة ينصهر الشوق والحنين جراء البعد والرحيل وتتوالى أوراق السنين هناك تكون ولادة الإنسان ..تقول في قصيدة : انصهار وولادة :

أنا أنت ..

رحيق الطفولة

وشوق ثائر يتصاعد

مع تنهدات الأنين

وأنت أنا ...

أطياف حلم

يناجي اليقظة ويعزف

على أوتار الحنين .

كيف لا نندهش حالمين ونحن نسمع من شاعرة أو نقرأ لها قصائد رائعة وقد اكتنزت بالأصوات والصور والرؤى والأفراح والأتراح والأحلام والأشواق والحنين ؟ وكيف نكون بإزاء قصيدة خرجت من رحم الحنين ، تنتقل بنا نحو عوالم الجمال وفيض العاطفة هي صوت كمان وحيد ليس إلا..نسمعه في شرفة نائية حالمة مفعمة بالشوق والأنين والحنين .. ولست أدري لماذا ينتابني شعور بالسكينة ووالراحة وكأنني في حلم جميل كلما دخلت محراب شعر لودي الحداد؟ لعل ذلك يعزى لاختيار ألفاظ قصائدها الأنيقة وصورها الأخاذة ..

تقول في قصيدة حبر السنين:

أما أنا ...

فأذكرك بحبر السنين

وأرسم وجهك

في نهاية السطر..قمر ..

والشاعرة وفية باقية على العهد ومهجتها سلسبيل من الود فياضا على روابي الشوق ولن تتبدل ولن تتغير لأبدا عكس ما قاله علي بن أبي طالب :

ولا خير في ود امرئ متلون ...إذا ما الريح مالت مال حيث تميل .

تقول في قصيدتها "العهد":

لن أخون العهد وأتغير

مهجتي سلسبيل من الود

يفيض على روابي الشوق

فتتدلى العناقيد

تروي الصحاري لتسكر ...

ولعل الشاعرة تهيم بنا في غياهب الخيال الذي تتراءى منه خيوط الأمل لتنطلق من حلمها مكسرة جدر الكبرياء وصهيل رياح الرغبة وهدير الموج وصخب البحر ونقاء المطر لتحلق بنا نحو سماوات النور ومواطن الجمال ..إنه تدفق شلال سلسبيل نابع من جليد ونار ..

 وقد تبدو للقارئ أن القصائد صغيرة في حجمها لكن حين تأملها تجد أنها عميقة كبيرة في نوعيتها والعبرة بالكيف والنوع لا بالكم والطول ..إنها قصائد يجتمع فيها جمال المبنى وجمال المعنى وتتجلى فيها المشاعر الإنسانية النبيلة فيمتزج لديك الفرح بالحزن والشوق بالحنين والسلام وكأن روحك ترتدي لباسا من نور معطرا بعطر سحري ينبع روابي الجمال وأنفاس الربوات وصليل الصبوات ..من نفحات جليد ونار..أخال أنها قبسات نورانية وجدانية نفخت فيها الشاعرة لودي الحداد من روحها الشاعرية التي تنادينا هامسة :

 أنا ابنة الريح

 حفيدة الشمس

 في جداولي ينبض الإنسان

 أنا الدمع حين يعتصر

 والغضب حين يتوهج ويهدر ..

هنيئا لك شاعرتنا لودي على هذا المنجز الشعري الجميل "نفحات من جليد ونار" ..المولود الثاني الذي خرج إلى الوجود ليرى النور ولعلها "الولادة العسيرة كما قال محمود درويش حين سئل عن ميلاد القصيدة..وأنا جد مسرور وفخور أن كان لي شرف في تقديم قراءة انطباعية للديوان وأنا على يقين من أنك ستثري خزانتنا الشعرية العربية بكنوز ونفائس أخرى في مقبلات الأيام .

 

بقلم ذ.عبد العزيز أبو شيار

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم