صحيفة المثقف

الحزب الشيوعي العراقي بين احتلالين (10)

استراتيجية وتكتيك الحزب الشيوعي: من انتكاسة إلى أخرى

بعد هزيمة ونكبة الثامن من شباط عام 1963 كثرت التكتلات والانشقاقات والميل للتطرف. وبلغ هذا الانشقاق ذروته في ظهور ما يسمى بالقيادة المركزية برئاسة عزيز الحاج. غير أن ذلك لا يعني انه الانشقاق الوحيد. فقد شهد منتصف الستينات من القرن الماضي العديد من التكتلات الحزبية. وأغلبها كان بمعنى ما انعكاسا لهزيمة 1963، وفي الوقت نفسه تعبير عن التمرد داخل الحزب نفسه. غير أن انشقاق عزيز الحاج كان ذروتها. ولعل الطابع التخريبي الأشد لهذا الانشقاق يقوم في نتائجه بعد إلقاء القبض على عزيز الحاج وانهياره وانهيار القيادة المركزية في شباط 1969.

إن هذه الصيغة الدرامية التي لا تخلو من تسخيف للعقل والضمير والإرادة، كانت في الوقت نفسه نتاجا ملازما لطبيعة التحولات التي جرت داخل الحزب نفسه بأثر هزيمة 1963. فقد ظهر أول الأمر ما يسمى بخط آب عام 1964 الانهزامي، وبالأخص ما يتعلق منه بتبرير حلّ الحزب الشيوعي والاندماج في الاتحاد الاشتراكي لعبد السلام عارف ربيب جمال عبد الناصر وشركات النفط والسفارات والمخابرات الغربية في انقلاب شباط 1963. وهي تبريرات ساذجة وسخيفة تعكس درجة الانحطاط التي انحدرت إليها قيادة الحزب الشيوعي العراقي آنذاك.

ولاحقا ظهور ما يسمى بتيار العمل الحاسم في عام 1965 بقيادة عامر عبد الله في مناقشته لتيار آب الانهزامي. غير أن "العمل الحاسم" كان بالاسم والعنوان فقط. أما في جوهره وسلوكه العملي الفعلي فقد كان ثوريا كاذبا. انه أقرب إلى اللعبة في انتقال قيادة الحزب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار دون أي تأسيس نظري وسياسي عملي لهذا الانتقال.

وبأثر هذا التيار الانهزامي جرى انتخاب عزيز محمد سكرتيرا للحزب عام 1964. ولم يكن عزيز محمد نفسه مقتنعاً بقدرته التي تؤهله لقيادة الحزب. فقد كان هو نفسه يعتبر اختياره نتيجة لأسباب توافقية بين جبناء ومهزومين! فماذا يمكن أن تكون نتائجه غير التي ظهرت لاحقاً بأثر قيادة هذا المسخ الملتحف بالكذب والخداع والمراوغة والجبن تحت غطاء التوفيق بين جبناء ومهزومين على مصير الحزب والمجتمع والعراق؟ فقد كان التيار الانهزامي بأشد الحاجة لمثل هكذا "قائد" يغطي عوراتهم المكشوفة، ومن ثم الاستمرار في سلوك الهزيمة والجريمة والغطس في وحل امتيازات بلدان المنظومة السوفيتية.

لقد استشهد فرسان الحزب مثل سلام عادل وجمال الحيدري وأمثالهم، وبقت بغال الحزب أمثال عامر عبد الله وبهاء الدين نوري وزكي خيري. فلم يكن أمامهم أفضل من عزيز محمد سكرتيراً للحزب كأفضل غطاء لعارهم وجبنهم. وكانوا يعتقدون أن بإمكانهم إزاحته لاحقاً. لكنه تبين فيما بعد، بأن هذا المسخ أكثر براعة ومراوغة ودهاء منهم!

إن كل هذه الحالة المخيبة والمريبة والمثيرة للاشمئزاز والتقزز بحاجة إلى قاموس لغوي سياسي خاص يوصف ما فيها وعليها. فقد كانت هي سلسلة من الأعمال التي يمكن ترتيبها بالشكل التالي: الانبطاح أمام عبد الكريم قاسم في تموز عام 1959 وما بعده. ثم قوة منكسرة ومهزومة في الثامن من شباط 1963. ثم خط آب لعام 1964 الانهزامي والتصفوي. ثم "العمل الحاسم" لعام 1965 الثوري الكاذب. ثم انشقاق "القيادة المركزية" في أيلول 1967؟ ثم التراجع غير المنظم بعد فشل الجبهة الوطنية عام 1979. ثم مغامرة الأنصار.

باختصار، إننا نقف أمام مواقف خيانية متتالية تجسدت لاحقا أيضا في المواقف "المصيرية" تجاه العراق بدأ من الحرب العراقية الإيرانية والحصار الأمريكي للعراق، وأخيرا العدوان الأمريكي المتكرر والمستمر من عام 1991 حتى الاحتلال عام 2003. وما بعد ذلك نقف أمام قيادة عميلة بكل ما للكلمة من معنى في موقفها من الاحتلال الأمريكي، ثم مشاركتها في الحكم الخاضع لسيطرة الاحتلال.

الجبهة الوطنية: خلل الفكر السياسي والمواقف العملية

لقد جرى الإعلان عن الجبهة الوطنية يوم السابع عشر من تموز عام 1973. بينما بدأت الحركة صوب التحالف عام 1972 عندما وافق الحزب الشيوعي على المشاركة في الوزارة. وأعطى لهذه المشاركة والتقارب قوة دفع اكبر بعد انكشاف محاولة الانقلاب التي أراد القيام بها عبد الغني الراوي. كما لعب الحزب الشيوعي ومكرم جمال الطالباني دورا في تحذير أحمد حسن البكر من الإنقلاب. كما أن الوضع عشية تموز 1973 كانت تتميز بالتعقيد والحساسية. حيث اتخذ قرار تأميم النفط وتحسين العلاقة بالاتحاد السوفيتي والاعتراف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية. وعموما إن الاتفاق على قيام الجبهة الوطنية لم يجر بمعزل عن حالة درامية وتناقضات وصراع بما في ذلك داخل الحزب. وعموما يمكننا القول، بأنه كان من الممكن رفض التحالف الجبهوي، غير انه كان من الصعب جدا رفع شعار إسقاط السلطة. إذ لم يكن لهذا الشعار مقومات مادية واجتماعية وسياسية داخلية وخارجية. غير ان الممكن الأكبر آنذاك هو تبني نهج المطالبة بإطلاق الحريات العامة، وإنهاء الفترة الانتقالية لحكم مجلس قيادة الثورة، وإجراء انتخابات لجمعية تأسيسية تقر دستور دائم للدولة.

إلا أن الفكر السياسي للحزب الشيوعي العراقي آنذاك لم يواجه هذه القضايا باعتبارها تحديات تاريخية سياسية مهمة ومصيرية. ولم تكن عنده رؤية إستراتيجية في ما يتعلق بفكرة الجبهة الوطنية وسبل تطويرها وإمكانيات هذا التطوير. فقد كانت الجبهة الوطنية، كما كشفت الأحداث لاحقا، بأنها مجرد تكتيك جديد لحزب البعث من اجل تثبيت سلطته. كما كان يلازم سياسة الحزب الشيوعي الوهم السياسي القائل، بإمكانية أن تكون الجبهة الوطنية خيارا نحو بناء الاشتراكية.

إن قبول الحزب الشيوعي بالانضمام إلى الجبهة الوطنية لم يكن معزولا أيضا عن الضغوط التي تعرض لها. إذ تشير المعطيات والوثائق، بأن عزيز محمد هو الذي كان يدفع باتجاه التحالف، لأسباب عديدة بينها دفع سوفييتي بهذا الاتجاه. ومن حيثيات اجتماعات اللجنة المركزية للحزب آنذاك يتبين دور عزيز محمد في دفع احمد باني خيلاني للتصويت لصالح التحالف مع البعث في الجولة الثانية من التصويت. فبعد إن كان التصويت في الجولة الأولى ثمانية ضد التحالف وسبعة معه، فإنه أصبح في الجولة لثانية ثمانية مع التحالف مقابل سبعة ضده. وهو مؤشر على طبيعة الاختلاف الحاد داخل الحزب بصدد الدخول في الجبهة.

لقد قامت الجبهة الوطنية بعد خمس سنوات من حكم البعث. وأصبحت خيار لابد من التفكير به وفي بدائله. منذ منتصف السبعينات ولاحقاً لم تتوفر أية إمكانية لإسقاط سلطة البعث من جانب الحزب الشيوعي. ولعل فشل القيادة المركزية تعبير صارخ بهذا الصدد. بمعنى أن الإمكانية الفعلية وآفاقها المستقبلية بالنسبة للحزب الشيوعي آنذاك كانت تقوم في العمل من اجل ترسيخ فكرة النظام الدستوري الشرعي وفكرة الانتخابات الديمقراطية. فقد كان آنذاك موجودا جيل السبعينيات من الشيوعيين، الذي يشكل العمود الفقري للحزب. كما كان توزيع ادبيات الحزب وصحيفته (طريق الشعب) ومجلته (الثقافة الجديدة) له تأثيره الواسع والكبير. وعموما يمكننا ملاحظة وجود قضية مشتركة لفترتي 1958-1963 وفترة 1968-1978 يقوم في عدم إدراك ضرورة ونتائج طرح فكرة الدولة الدستورية القانونية وشرعيتها.

أما لماذا تخلف الفكر الدستوري والفكر السياسي الدستوري في العراق، فإن الجواب عليه يقوم في أن مختلف السلطات التي تداولت على الحكم لم تهتم أو تفكر في تطوير النظام السياسي في العراق. ومن ثم العمل من اجل تهذيب السلطة وتحولها إلى سلطة في دولة دستورية، السيادة فيها للشعب قولاً وفعلاً. إذ لم يقبل عبد الكريم قاسم ولا حزب البعث بالدولة الدستورية القانونية والانتخابات. كما أهمل الشيوعيون فكرة الدولة الدستورية. وقد تكون هناك أسباب عديدة لهذا الإهمال من بينها عدم إدراك الأهمية السياسية والتحريضية والشرعية للفكر الدستوري، وكون التفكير الماركسي الطبقي التقليدي كان وراء تخلف الفكر الدستوري القانوني عند الحزب الشيوعي.

عموما، إن مجمل الأحداث السياسية ومسارها التاريخي قد أدى في نهاية المطاف إلى انهيار الجبهة الوطنية وتعرض الحزب الى كارثة جديدة لا تقل عما واجهه عام 1963. أما فكرة إن الإنسان العاقل لا يلدغ من جحر مرتين، فإنها لا تنطبق على  قادة الحزب الشيوعي. انهم بلا عقل ولا إيمان!!

إن المسار الفعلي في العراق جرى باتجاه تبيت وتقوية سلطة البعث وهيمنته شبه المطلق على كل مفاصل الوجود الفعلي للدولة. ففي البداية جرى كسب الشيوعيين وتحييدهم. ولاحقا قضى على مختلف أشكال ومستويات التمرد الكردي بعد اتفاقية الجزائر عام 1975. ولازم هذا التحول الداخلي تغيرا خارجيا في المواقف السياسية من خلال الاهتمام بالعلاقة مع فرنسا على غيرها من الدول. بينما اعطى نجاح تأميم النفط وزيادة عائدات الدولة استقلالية كبيرة في تثبيت نهج البعث وسياسته الداخلية والخارجية. ففي الداخل أخذت تجري بوتيرة قوية التحولات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية، ومن ثم اتساع القاعدة الاجتماعية للسلطة. كما كان بإمكان السلطة وأجهزتها الأمنية معرفة كل ما له علاقة بالحزب الشيوعي بما في ذلك اختراقه بواسطة العملاء والمخبرين وغيرها من الوسائل.

حركة الأنصار : انتصار الهزيمة

لقد شكلت حركة الانصار بعد عام 1980 مرحلة اضافية في زمن النكبات السياسية للحزب الشيوعي. وتركت بصماتها العميقة في كل اخاديد الوجود السياسي والأخلاقي والوطني والقومي للحزب. وقد انقسم تقييمها التاريخي والسياسي في الحزب إلى جهتين، الأولى هي من جانب قواعد الحزب وتتسم بالنقد الحاد لكل ما فيها ونتائجها. والثانية من جانب قيادات الحزب وهي على طرف نقيض من تقييم القواعد الحزبية. وفيما لو جرى اختصار ما شاهدته وسمعته من مقابلات تلفزيونية فمن الممكن وصفها وتقييمها بالشكل التالي: مقابلة لمكرم جمال الطالباني ونعثر فيها على شخصية رزينة ومحترمة. وينطبق هذا على مذكراته. عزيز محمد: مراوغ من الطراز الأول. وهذا سرّ احتفاظه بقيادة مجموعة قيادية رثة وبليدة وفاسدة وغير متجانسة. همها الأساسي كان الامتيازات الحزبية التي تتمتع بها في بلدان المنظومة السوفيتية. وهذا هو الجامع الوحيد الذي يجمعها سوية في هيئة واحدة تحت قيادته. فقد كان عزيز محمد موزع امتيازات الفساد والإفساد التي تمنح من قبل بلدان المنظومة السوفيتية. وهو امر جلي في المقابلة رغم وضوح الترتيب المسبق لها من قبل مرتزقته ومتملقيه. أما المقابلات التي قام بها كل من بهاء الدين نوري وكريم احمد وعزيز الحاج وحميد مجيد موسى فقد كانت تتصف بالبلادة والركاكة.

لقد أدى القيام بحركة الانصار (1979-1988) إلى نتائج دفع الحزب ثمنها بانهياره شبه التام. والأسباب هي على التوالي:

أولا: لقد كانت حركة الانصار مبنية على أساس وتقدير سياسي خاطىء.

وثانيا: إن موقف وعلاقة الحزب الشيوعي بالحركة الكردية المسلحة خلال اعوام 1974-1975 لم يكن يشجع أو يسمح بقيام حركة أنصار وسط حركات كردية معادية للحزب الشيوعي. وقد تكون حادثة بشتاشان في  أيار 1983 أحد مظاهرها الفاقعة. بحيث كشفت عن حقد أعمى لقومية صغيرة عمياء.

ثالثاً: الصراع الدموي بين الأجنحة الكردية المسلحة.

ومن الممكن الانطلاق والاتفاق مع الفكرة أو الاستنتاج الذي توصل إليه عزيز شريف عندما اعتبر سياسة الحزب في هذه القضية سلوكا انتحاريا، نحر كوادر الحزب وأنصاره. وبالتالي، فإن قيادة الحزب هي المسئولة عن كل ذلك.

اضافة لذلك، إن حركة الانصار لم تكن طوعية. كما أنها كانت في بداياتها أقرب إلى أوهام ثورية رومانسية (من جانب القواعد). ومع ذلك كانت إلزامية في بدايتها لإجبار القواعد "المشاكسة" للانخراط والاشتراك في معارك خاسرة بالضرورة، أي لاستهلاكها وقتلها والحصول على "شرف قيادة " "حزب الشهداء". وفي مرحلة معينة كانت تمثل نوعا من العقوبة. لهذا تحول الوهم الثوري الرومانسي بعد الهزيمة إلى خيبة أمل قاتلة.

واستمر هذا الخلل البنيوي في المؤتمر الوطني الرابع للحزب الشيوعي عام 1985. وبالأخص ما يتعلق منه بالصراع الفكري السياسي حول تقدير الوضع السياسي في العراق وحوله. فقد كان من أسباب هذه النتائج هو ضعف الحركة الاجتماعية الجماهيرية. وللالتفاف على هذا المفهوم كان لابد من حركة الانصار. بينما كان ينبغي أن تقتصر على منظمة اقليم كردستان للحزب الشيوعي. وأن لا يكون الحزب مطية لمنظمة الإقليم. وأن لا يكون فريسة الجلاليين والبرزانيين. وقد وصف عزيز شريف هذه الحالة بصورة سليمة عندما قال، بأن لحزب الشيوعي وضع رقبته بين عجلات الحركات الكردية المسلحة. فقد كانت قيادة الحزب الشيوعي في تلك المرحلة قيادة مستكردة وتتصف بقدر كبير من الصلف والانحطاط الأخلاقي والعقلي. واقترفت جريمة بشعة بحق الشيوعيين العراقيين. ونعثر على الكثير من الوقائع التي تظهر كيف وضعت رقاب الحزب وأتباعه بين عجلات الحركات الكردية المسلحة. مع انه كان شريكا لعزيز محمد في اتخاذ قرار إعادة حركة الأنصار، عندما كانا معاً في موسكو! أما النتيجة النهائية لحركة الانصار فقد كانت خسائر كبيرة، وخيبة أمل جيل الوهم الثوري الذي سار خلف قيادة غير جديرة. بمعنى سقوط الوهم القائل بإمكانية إسقاط سلطة البعث، بينما كانت هناك الكثير من الأسباب التي تجعل من هذه المهمة امرا مستحيلا آنذاك. ولعل الأسباب التي جرت الإشارة إليها كافية بهذا الصدد. بينما كانت هناك عوامل إقليمية ودولية تقف بقوة ضد التغير الجيوسياسي في المنطقة، وبالاخص بعد الثورة الإسلامية في ايران.

وقد كانت معركة بشتاشان ونتائجها السلبية القاهرة على الحزب الشيوعي قد أدت إلى انهيار حركة الأنصار والكفاح المسلح في عام 1988. وترافق ذلك مع وقف إطلاق النار في الحرب العراقية الإيرانية. ذلك يعني إن نشوء وانهيار حركة الأنصار كان مرتبطا بالحرب العراقية الإيرانية. وهناك الكثير من الشواهد التي تدل على كيفية ضغط إيران على مواقف الحزب الشيوعي. فبعد احتلال القوات الإيرانية لميناء الفاو العراقي، اصدر الحزب الشيوعي بياناً من دمشق لم تتقبله إيران. مما جرى التضييق على دخول وخروج الحزب الشيوعي إلى ومن إيران. مما اضطر قيادة الحزب الشيوعي العراقي من إصدار بيان ثاني من كردستان العراق بما يلبي الضغوط الإيرانية.

الحرب العراقية الإيرانية ونتئجها: أوهام ورغبات!

بغض النظر عن الأسباب الفعلية العلنية والمستترة وراء نشوء الحرب الإيرانية العراقية، كان ينبغي للحزب اتخاذ دعوة الوقف الفوري للحرب وحل النزاع سلمياً. والمساهمة في قيادة نضال سياسي عراقي إقليمي دولي لوقف الحرب فورا. إضافة إلى إدانة اندلاع الحرب واستمرارها، وكذلك شجب تصدير الثورة الى الخارج. والأهم من ذلك أن يجري العمل من اجل إنهاء الفترة الانتقالية وحكم مجلس قيادة الثورة، الذي طال كثيراً بصورة لا مبرر لها، أي العمل من اجل دولة دستورية قانونية، وليس الانهماك في مشروع اجنبي من حيث الجوهر وانتهازي من حيث الوسيلة، أي العمل من اجل "حركة أنصار" في منطقة موبوءة بالعداء للحزب الشيوعي وقواعده العربية.

الحرب العراقية الكويتية

كانت الحرب العراقية الكويتية استمرارا للحرب العراقية الإيرانية. إضافة إلى ما فيها من أسباب تتعلق بتاريخ العراق ورقعته الجغرافية، والأسباب الجيوسياسة لمطالبة العراق بضم الكويت. وبالقابل وجود الأسباب الجيوسياسة لمعارضة هذا الضم. فقد طالب وسعى الملك غازي بضم الكويت. بينما عارضت بريطانية آنذاك هذه السياسة، والتي انتهت بمقتل غازي. ونفس الشيئ كان الحال بالنسبة لسياسة عبد الكريم قاسم بهذا الصدد والتي انتهت بتلاقي المعارضة الكولونيالية والقومية الناصرية والسلطات التقليدية في الخليج ضدها. وانتهت هذه الأزمة بمقتل عبد الكريم قاسم أيضا. وقد لاقى صدام حسين نفس المصير بأثر محاولته ضم الكويت من جديد إلى العراق، باعتباره احد محافظاته.

لقد قام صدام حسين بغزو الكويت في الثاني من آب عام 1990. وتعرضت سياسته إلى تجميع معارضة دولية كبيرة بقيادة امريكية والتي انتهت مرحلتها الأولى في ما اطلق عليه (عاصفة الصحراء)، التي انتهت بالهزيمة العسكرية للجيش العراقي، والهزيمة السياسية للسلطة الصدامية.

لقد كانت سياسة صدام الدكتاتورية مغامرة تاريخية كبيرة، مبنية على حسابات خاطئة. فقد وقفت الدكتاتورية الصدامية آنذاك أمام خيارين، الأول: ابتزاز أنظمة الخليج على نحو دائم، وضم الكويت بصورة تدريجية من اجل إلحاقه تدريجياً بالعراق دون ضجة. والخيار الثاني هو غزو الجزيرة العربية بأجمعها. ومن ثم ربطها باليمن والأردن وفلسطين، مع ما يمكن أن يلاقيه من دعم شعبي عربي للعراق. لقد أراد صدام أن يكون بسمارك العرب، وصانع وحدة عربية بطريقة بسماركية. لكنها تعرضت للفشل. وفي عام 1991، بعد هزيمة الجيش العراقي بأثر "عاصفة الصحراء" بدأت الانتفاضة الشعبانية التي جرى القضاء عليها بسرعة.

وقد كان وراء القضاء عليها عدة أسباب وأهداف وأطراف مشاركة. فقد كان ما يسمى باجتماع "خيمة صفوان" منطلق القضاء على الانتفاضة بعد سماح الولايات المتحدة آنذاك إطلاق القوات العراقية المحتجزة من اجل قمع الانتفاضة العراقية. ومن نتائج ذلك هو إنهاك العراق دولة وشعب. ثم استمرار الحصار والعدوان الأمريكي في إنهاك وتدمير العراق إلى أن اصبح لقمة سائغة لعدوان "الصدمة والرعب" الأمريكي عام 2003. وإيران التي لم تكن مستعدة لانهيار الدولة العراقية عام 1991، بينما أصبحت اكثر استعدادا لقبول هذه النتيجة عام 2003. بينما تصرفت الأطراف الكردية المسلحة وفق التوجيهات الأمريكية عام 1991. أولا بعدم المشاركة في دخول بغداد، والشيئ نقسه ينطبق على تصرفها عام 2003 . بمعنى الاختلاف الظاهري في السلوك والاندماج الكامل بالمشروع الأمريكي. وكان لإيران هنا سلوك يتوافق مع مصالحها الخاصة. بينما ظل الأكراد مطية التوجيهات الأمريكية. وفي كلتا الحالتين دفعت الدولة العراقية والشعب العراقي ثمنا باهظا. والنتيجة الأكبر والأوسع أثرا على مصير العراق ومساره اللاحق يقوم في تعرضه لهزيمة تاريخية شاملة وجدت انعكاسها الأولى في تشديد الحصار المطلق عليه ومن ثم خنق كل ما فيه بصورة تدريجية انتهت بغزوه عام 2003. وفي كل تلك المرحلة ما بين 1991 و2003 كان الهدف المعلن لقيادة الحزب الشيوعي هو إسقاط النظام. بينما لم يملك هو أية امكانية على الاطلاق لتنفيذ هذا الشعار. وبهذا كان هذا الشعار أكثر خدمة لأطراف أجنبية أخرى. بينما كان الأمر يفترض الدفاع عن العراق عبر رفع شعار رفض الحصار والدعوة لإنهائه، والدعوة لإنهاء حكم مجلس قيادة الثورة. بينما كان سلوك قيادة الحزب يكشف عن تمازج الخيانة والغباء السياسي في قيادته، ومن ثم تبريرها وتسويقها للحرب والعدوان والحصار.

العدوان الامريكي واحتلال العراق

منذ عام 2000 بدأت مرحلة جديدة على النطاق العالمي تتطابق مع "أمركة" العالم بقوة السلاح. فبعد انهيار وزوال الاتحاد السوفيتي، أخذت الولايات المتحدة تبلور استراتيجية عدوانية تجاه العالم ككل. وهي استراتيجية أخذ بالالتزام بها الحزب الجمهوري ومنظري الاستراتيجية الأمريكية الجديدة.

وكان العراق في صلب هذه الاستراتيجية. وهي مواقف وخطط كانت موجودة ومتبلورة قبل الحادي عشر من أيلول عام 2000. وبدأت بزيارة ديك جيني نائب الرئيس الأمريكي وجورج بوش الابن للسعودية في تموز عام 2000، حيث نوقشت آنذاك فكرة احتلال العراق. وبالتالي، يمكننا القول، بأن العدوان الأمريكي على العراق كان بداية لعدوان أمريكي على العالم. وإن فشل العدوان الأمريكي في العراق كان وما يزال فشلا للعدوان الأمريكي على العالم.

لقد كان غزو العراق هدفا استراتيجيا أمريكيا هاما وخطيرا يعادل معنى "أمركة" العالم بقوة السلاح. وإذا كانت هذه الخطة لم يجر تنفيذها قبل أحداث نيويورك عام 2001 ، فإنه جرى استغلال هذه الحادثة ذريعة إضافية للغزو. وكشفت وسوف تكشف "الحرب السرية" على العراق كل حيثيات هذه الظاهرة مع مرور الزمن. فقد كان هناك تحضيرا سياسيا وعسكريا لغزو العراق. وتكشف مراسلات توني بلير مع جورج بوش الأهداف الحقيقية من غزو واحتلال العراق. فوفقاً لتوني بلير فإن الهدف الحقيقي من غزو واحتلال العراق هو إقامة نظام عالمي جديد بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي. وتوظيف هجمات الحادي عشر من أيلول لعام 2001 لهذا الهدف. في حين نرى لاحقا اعتراف توني بلير المبكر بالمأزق العراقي. وطالب بإجراءات فورية لمواجهة هذا المأزق الذي لم يكن متوقعاً له نفسه ولجورج بوش الابن.

وقد شاركت في الحرب مختلف القوى العالمية (أمريكا وبريطانيا) والإقليمية (السعودية والإمارات وقطر والبحرين والكويت و"إسرائيل") والمحلية الداخلية العراقية. ولكل مصالحه وغاياته. لكن النتيجة الأساسية لكل ذلك هو دفع العراق ثمن المغامرة الصدامية والدكتاتورية البعثية، وتحلل المجتمع، وارتزاق الأحزاب "العراقية" وخياناتها. ولعل دور المؤتمر الوطني العراقي واحمد الحلبي في غزو واحتلال العراق نموذجا لدور الخونة واللصوص والانتهازية في الحرب السرية والعلنية ضد العراق. فقد كانت كمية الخيانة في "النخب السياسية" هائلا جدا. وتعرض الكثير منهم لاغتيالات بعد بلوغ الولايات المتحدة مآربها الأولية في الغزو. إذ جرى قتل عبد المجيد الخويي ومحمد باقر الحكيم. وكان عبد المجيد الخوئي عميلا للمخابرات الأمريكية وفقاً لمقابلة مع احمد الجلبي.كما كان لمحمد باقر الحكيم علاقات مع الدوائر الإيرانية المختلفة. وما بعد احتلال العراق كان الدور السري لإيران يفوق الدور الأمريكي.(يتبع....).

 

يوسف محمد طه

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم