صحيفة المثقف

الحزب الشيوعي العراقي بين احتلالين (11)

الشخصية السياسية العراقية والحزب الشيوعي

إن إحدى القضايا المهمة بالنسبة لفهم مجرى الصراع السياسي وما آل إليه العراق الجمهوري تقوم في فهم ما يمكن دعوته بالتكوين السياسي للشخصيات التي لعبت دورا مفصليا في تاريخ الدولة العراقية ما بعد ثورة تموز عام 1958. والمقصود بذلك التكوين السياسي لعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف واحمد حسن البكر وصدام حسين وأثرهم السياسي في العراق.

فالانطباع العام المترتب على تأمل وتحليل ودراسة ونقد تاريخهم السياسي في قيادة الدولة يكشف عن أن أياً منهم لم يتسم بخيال سياسي خصب، أو مهارة سياسية لمواجهة إشكاليات العراق المختلفة. والشيئ الوحيد الذي ميز صدام حسين عنهم هو جعله للإرهاب والعنف والغدر السمة الجوهرية للفكرة السياسية. وإذا كان عبد الكريم قاسم يتحمل مسئولية أساسية في نكسة الثورة وتأسيس الجمهورية، فإن صدام حسين بحكم دمويته واستهتاره مسئول عن جرائم وكوارث كبرى حلت بالعراق. وعموما يمكننا القول، بأن كل من عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف واحمد حسن البكر وصدام حسين يتحملون وبأقدار مختلفة مسئولية تاريخية تجاه العراق وما جرى فيه بما في ذلك لحد الآن.

وفيما يخص تاريخ الحزب الشيوعي ضمن هذا السياق، فإن مرحلة الدكتاتورية الصدامية هي الأكثر تأثير وعنفا ودموية وتمزيقا وتخريبا للنشاط السياسي والاجتماعي العراقي بشكل عام وللحزب الشيوعي بشكل خاص.

فقد أدى تخريب وتهديم الجبهة الوطنية إلى انفراد حزب البعث، أو بصورة أدق الدكتاتورية الصدامية للانفراد المطلق بالسلطة. حينذاك تحولت مهمة القضاء الكامل والتام للحزب الشيوعي إلى الشغل الشاغل أو الهمّ والغاية السياسية للدكتاتورية. إذ لم يبق في الواقع غيره ممن يحتوي على إمكانية المعارضة للسلطة الدكتاتورية الآخذة في التوسع والتعمق. فحزب البعث لم يكن حزبا سياسيا بالمعنى الدقيق للكلمة، بل أقرب ما يكون إلى تركيبة أمنية ووظيفية، أو حزب في جيب صدام حسين، أو مجرد أوراق يمكن سحبها والإملاء عليها ورميها في سلة المهملات.

ففي فترة الحملة الشرسة لتصفية الحزب الشيوعي العراقي بعد عام 1978 حتى أواخر آب من عام 1979 كانت قيادة الداخل تتكون من باقر ابراهيم وعبد الرزاق الصافي وماجد عبد الرضا وعبد السلام الناصري وجاسم الحلوائي ومكرم جمال الطالباني وعايدة ياسين. حينذاك كانت بعض بقايا القيادة الحزبية تأمل في استمرار التحالف الجبهوي، بينما كانت قيادة حزب البعث تصر على تصفية الحزب الشيوعي انطلاقا من اعتقادهم بأن الوضع بات ملائماً وممكناً للقيام بهذه المهمة. وقد كان ذلك أحد الأخطاء الإستراتيجية الهائلة والمدمرة والمميتة لحزب البعث نفسه والعراق بشكل عام.

حينذاك ظهر للمرة الأولى في آذار 1978 تشكيل مركز الخارج للحزب الشيوعي في دمشق، والذي ضم كل من زكي خيري وكريم احمد ومهدي عبد الكريم وفخري كريم. حينذاك جرى اتخاذ القرار بالعودة الإجبارية لأعضاء وكوادر وقيادات الحزب إلى شمال العراق. ومن ثم التبني الرسمي لأسلوب الكفاح المسلح عام 1981. وقبول جيل من الشيوعيين بالوهم الثوري. وكان أحد أسباب ذلك هو عدم شعور قيادة الحزب بالمسؤولية تجاه قاعدة الحزب. وهذه معضلة ومرض تاريخي في قيادة الحزب الشيوعي العراقي. وهناك أسباب أخرى عديدة ومختلفة لهذه المأساة المتكررة في حياة وتاريخ الحزب.

أما تقييم تلك الحالة والمرحلة فالاختلاف فيها كبير ومتنوع. فبالنسبة لباقر ابراهيم يعتبرها حالة لا خيانة فيها. ويصفها بأنها اجتهاد. ومن ثم هو معرض للخطأ والصواب. بينما لا حقيقة في اجتهاد قيادة الحزب. إذ لا اجتهاد فيها وعندها. فمواقفها وتقديرها السياسي عادة ما تنبع من مكامن أخرى لا علاقة لها بالاجتهاد. وفي أغلبها تتسم بطابع خياني تجاه مبادئ النضال الحقيقي، ومليئة بالأبعاد الأنانية والشخصية والفردية. وقد اشار باقر ابراهيم نفسه بهذا الخصوص (وهذا لا يلغي كون تقييمه هو دفاع ذاتي عن نفسه أيضاً)، الى الزمالات الدراسية والعلاج لأعضاء قيادة الحزب وأبنائهم. وكأن بقية أعضاء الحزب وكوادره مجرد خدم لهم! ففي اجتماعات اللجنة المركزية لعام 1981 قاد الحملة الانتخابية في كل مراحلها عضو للجنة المركزية وهو فخري كريم. وهذا يحصل لأول مرة في تاريخ الحزب، كما ينقل لنا باقر ابراهيم. والمقصود بذلك ان فخري كريم قد قاد الأعضاء القادة للحزب الشيوعي. الأمر الذي يشير إلى أي مدى كانت حالة الانحطاط الذي بلغته قيادة الحزب آنذاك. ووفقاً لباقر ابراهيم، فإن عدد غير قليل من الذين رسموا سياسة الحزب خلال فترة التحالف الجبهوي قد انقلب على نحو غير متوازن.

بينما يعتبر عدنان عباس في مذكراته أن سبب انكسار الحزب في تاريخه هو نتاج الدور التخريبي أو نهج المغامرة الذي وسم قادة منذ وقت مبكر. ويشير بهذا الخصوص إلى انه في حال عدم رفع شعار التوجه إلى كردستان لكان ذلك ضربة قاصمة لتكريد الحزب الشيوعي. فقد وفرت العودة الإجبارية لكردستان فرصة ذهبية لتكريد الحزب الشيوعي. وفعلاً جرت تغيرات كبيرة على هذا الطريق والمسعى والهدف. لكن طريقها مسدود في نهاية المطاف. وعلى طريق هذا النهج التخريبي يسرد عدنان عباس القضايا التالية: لقد أصبحت عقلية التمييز القومي وتقليص دور القادة والكوادر العربية تدريجيا نهجاً ثابتاً في الهيئات القيادية وفي مقدمتهم عزيز محمد ويعاونه في ذلك فخري كريم. وقد سرد عدنان عباس سيرة هذا النهج التمييزي بتوسع. فهو يعتبر الاجتماعات الاعتيادية الستة التي جرت للجنة المركزية بين تموز 1979 وتشرين الثاني من عام 1985 عبارة عن دسائس لا غير. كذلك هو الحال مع المؤتمر الرابع للحزب. ونفس الشيئي ينطبق على الاجتماع الطارئ الذي عقد بعد مجزرة بشتاشان. ويعترف عدنان عباس بأن مواجهة هذا النهج التخريبي لم تكن بالمستوى المطلوب. وبعد المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي أصبح باقر ابراهيم وعدنان عباس خارج قيادة لجنة التنظيم المركزي، وخارج قيادة تنظيم الداخل. وأصبحت لجنة التنظيم المركزي وقيادة تنظيم الداخل تحت قيادة كردية خالصة بقيادة عمر الشيخ وإشراف عزيز محمد.

ففي أوائل 1990 نزل عمر الشيخ مع جلال الدباغ وعادل حبة وعدد كبير من لجنة التنظيم المركزي إلى بغداد استعدادا وتحسبا لتطورات محتملة حسب تقديرات عزيز محمد. وكانت جميع الأوكار الحزبية لهؤلاء يقوم بها عناصر متعاونة مع الأمن العراقي. وسكنوا في بيوت كانت قد نصبت فيها أجهزة تنصت، تسجل وتنقل كل ما يدور فيها. وكانت الأحاديث التي تجري بين عمر الشيخ وجلال الدباغ باللغة الكردية. مما يستدعي ترجمتها للغة العربية من قبل مترجم كردي. علماً إن جلال الدباغ أكثر الأكراد كرهاً للكادر العربي في الحزب الشيوعي. لذلك يمكن طرح السؤال عن الاسباب القائمة وراء ارساله للعمل في تنظيمات بغداد؟ وما هي الأهداف القائمة وراء ذلك؟ وقد قال المترجم الكردي لاحقا، بأنه شعر باحتقار شديد تجاه نفسه. مما دعاه للسفر إلى دهوك ولقاء مسعود برزاني. وأخبره بأنه يريد اطلاع الحزب الشيوعي العراقي لما يجري لكوادره في بغداد. على إثر ذلك اتصل مسعود البرزاني بعزيز محمد وأخبره بما يجري في بغداد. وبأثر ذلك بعث عزيز محمد حميد مجيد موسى إلى دهوك لمقابلة المترجم الكردي الذي اخبره بكل التفاصيل وكذلك بالبواعث التي دفعته للاعتراف بما يبوح به حالياً. بعد ذلك تم سحب عمر الشيخ وبقية الكوادر الحزبية من بغداد وفق خطة معينة. وكان ذلك في أواخر 1992. أما لماذا انتظر الأمن العراقي كل هذه الفترة، فإنه وفقاً للرفيق الذي روى لي هذه التفاصيل، تقوم في أن الأمن العراقي كان يريد استدراج المزيد والمزيد من الكوادر إلى بغداد. ومن ثم يضرب ضربته القاضية. هذه الواقعة تعكس غباء وسذاجة وأوهام القيادات الكردية، التي كانت تعتقد أن بإمكانها قيادة العراق من خلال العمل السياسي والتنظيمي لعمل عصابة كردية داخل الحزب الشيوعي العراقي. وإن هذه الواقعة جرى طمسها لأنها تكشف حقائق عديدة عن الكيفية التي جرت فيها ومن خلالها التطورات التنظيمية داخل لجنة التنظيم المركزي. وما هي أهداف هذه التغيرات التنظيمية والتي تستهدف تكريد الحزب الشيوعي لأغراض كردية. لقد اعتقد عزيز محمد أن قيادة الحزب باتت تحت سيطرته دون منازع. ولجنة التنظيم المركزية تحت إشرافه المباشر والقوي. وكذلك تنظيمات بغداد والفرات الأوسط والمنطقة الجنوبية!

ان توظيف الحزب الشيوعي العراقي لأهداف كردية بات حلم عزيز محمد. وقد كان ذلك احد الأسباب الأساسية لإشكاليات الحزب الشيوعي العراقي. لاسيما وان احدى الامور الجلية بالنسبة لمن يمتلك القدر الضئيل من العقل تقوم في أن التكريد تؤدي بالضرورة إلى إعاقة تطور الحزب وتقدمه، إضافة إلى إضعافه البنيوي ومن ثم القضاء عليه. من هنا المأزق التاريخي للحزب. ومع ذلك ما زالت باقية لحد الآن فكرة التكريد في ادبيات الحزب الشيوعي العراقي، بالرغم من اختفاء رموزه. بل نرى ذلك أيضا في ما يسمى بالحزب الشيوعي الكردستاني الذي هو اشد قومية من الأحزاب الكردية القومية نفسها! الأمر الذي يستلزم من الحزب الشيوعي العراقي التخلص النهائي من التكريد أشخاصاً وأفكار. إن أخطر ما بقى من التكريد في الحزب الشيوعي هي أفكار التكريد.

إن هذه القضية التي يجري أحيانا الإشارة إليها في مذكرات قادة الحزب تبقى إلى جانب غيرها مجرد سرد وإشارات لا تحليل فيها للأسباب والنتائج. وينطبق هذا على كافة المذكرات دون استثناء، كما لو إنها حكايات وروايات للمتعة. والاستثناء النسبي الوحيد هو ما جاء في كتاب عزيز سباهي (عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي). لكنها تبقى مع ذلك ضعيفة جداً.

في مذكرات ثابت حبيب العاني صفحات من السيرة الذاتية. لكن ما هي القيمة التاريخية لمذكرات العاني؟ وما هي أهم الوقائع والأحداث التي تناولتها المذكرات؟ ما هي إضافاتها لتاريخ العراق؟ هل هي تمثل قراءة جديدة لتاريخ العراق؟ مذكرات ثابت حبيب العاني تتجاهل الفترة من 1980 وما بعدها. بينما هي الفترة التي شهدت الدور التخريبي الكبير لعزيز محمد. لذلك لا غرابة أن تنشر مذكرات العاني من قبل دار الرواد التابعة للحزب. إن مذكرات ثابت حبيب العاني جداً محدودة. وهي مبتسرة جداً لأسباب تتعلق بثابت حبيب العاني أو بعائلته. إلا أن المذكرات تذكر أن الوفاة حالت دون استكمالها كما ينبغي. كما انه يتناول فيها قضية التكتل الرباعي بصورة تبريرية. بل تقترب من نفي وجود تكتل رباعي! وهذا ما يثير الاستغراب ويضعف مصداقية مذكرات ثابت حبيب العاني. فقد سبق لسلام عادل وأن اتهم العاني بدعم التكتل الرباعي. وهو ما يذكره العاني نفسه في مذكراته. إلا انه يستغرب هذا الاتهام! ويتسائل: لماذا لم يستخدم الحزب الشيوعي العراقي قوته الهائلة في الجيش في مواجهة الانقلابين، أو استلام السلطة بعد بروز فردية قاسم في الحكم؟ ويجيب العاني على تساؤله بالنقاط التالية:

- النقص الوحيد هو التوجه السياسي للحزب

- عدم تطبيق الخطة التي قدمت من قبل اللجنة العسكرية لقيادة الحزب

- الصراع السياسي الحاد داخل قيادة الحزب.

وفي مذكرات عزيز الحاج (حدث بين النهرين) يبرز السؤال المتعلق بالقيمة التاريخية لمذكراته؟ وما هي أهم الوقائع والأحداث التي تناولتها؟ وما هي إضافاتها لتاريخ العراق؟ هل هي تمثل قراءة جديدة لتاريخ العراق؟ إن مذكرات عزيز الحاج (حدث بين النهرين) هي خلاصة مذكراته المختلفة ولا تمتلك أية قيمة فكرية أو سياسية. وهذا امر طبيعي أو نتيجة منطقية، لأنها مثلت مذكرات شخص يبحث عن تبريرات ومسوغات لجبنه وخيانته.

أما (مذكرات النصير) لفيصل عبد السادة الفوادي (مسيرة الجمال والنضال) فتمثل مسيرة عامل مكافح ومناضل في الحزب الشيوعي وحركة الانصار. وفيها نعثر على الوهم الثوري والتحدي الثوري للقمع والإرهاب. وهي أفضل المذكرات التي قرأتها عن حركة الانصار. وتعكس جوانب عديدة ومتنوعة عن حركة وحياة الانصار.

أما مذكرات عدنان اللبان (وشم ذاكرة الانصار) والنصير سلام فواز العبيدي (ذكرياتي عن حياة الانصار. وجهة نظر كردي) ومذكرات القادة الآخرين للحزب الشيوعي وكذلك عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي لعزيز سباهي لا تخرج عن هذا الاطار. واستعراضهم هو مجرد تكرار. ومن الممكن اضافة العشرات بل المئات من الذكريات والمقابلات التلفيزيونية واللقاءات الصحفية حول تاريخ الحزب ككل، إلا أن أغلبها، إن لم يكن جميعها أقرب إلى السرديات والحكايات "الجميلة" والملطفة لما كان يجري من أحداث دامية وقاسية. كما أن أغلبها يتصف بالتبرير والمراوغة. وتخلو جميعها من الرؤية النقدية التاريخية السياسية والأخلاقية العميقة لما جرى، كما أنها جميعها تخلو من فكرة البدائل. دعك عما في بعضها من اكاذيب. واكتفي هنا بحادثة واحدة لأنها تخصني، ومن ثم فإن الحكم فيها يقترب من اليقين الذي لا مجال للشك فيه. ففي مقابلة من قسمين مع حسان عاكف اجراها معه حميد عبد الله، نعثر فيها على كذب حسان عاكف فيما يتعلق بالمؤتمر الرابع للحزب الشيوعي العراقي الذي عقد عام 1985 في شمال العراق. وكنت أحد المندوبين الأكثر بروزا في المؤتمر. وهو أمر يتعلق بتاريخي السياسي وإمكانياتي الفكرية والعملية وبالاخص بملاحظاتي على وثائق المؤتمر. وكنت حينذاك في الثانية والثلاثين من العمر. والمقصود بكذب حسان عاكف هنا هو قوله عما جرى فيما يتعلق بتخويل عزيز محمد باختيار عشرة أعضاء للجنة المركزية ومعايير اختيارهم. وهي معايير لم تكن تنطبق عليه. وبحضور المندوبين الذين اعتبروا ان أول من تنطبق عليه هذه المعايير هو أنا. لكنني كنت قد اتخذت قراراً بيني وبين نفسي في اليوم الثالث للمؤتمر بالاستقالة من الحزب. ووراء ذاك كانت هناك أسباب عديدة. إلا أن الذي فّجر هذا القرار في نفسي في الليلة الثالثة من المؤتمر، حيث كانت تعقد جلسات المؤتمر ليلاً لأسباب أمنية، هو مقاطعة كلمتي في المؤتمر من قبل عبد الرزاق الصافي الذي كان يعرف النقاط التي كنت اريد قولها والدفاع عنها، رغم انه لم يكن رئيسا للجلسة، بل عمر الشيخ وهو شخصية صامتة كالصنم يصعب فهم كيفية حديثه أو كلامه في اجتماعات اللجنة المركزية، وكيف يمكن أن يكون عضوا في المكتب السياسي للحزب. وهذه من غرائب وعجائب القيادة في الحزب الشيوعي العراقي.

كما لم يكن عزيز سباهي أمينا في نقل مقابلاته مع باقر إبراهيم. وهذا يطعن في مصداقية كتابه (عقود من تأريخ الحزب الشيوعي). إن غربلة مختلف المقابلات التلفزيونية والصحفية وكذلك الذكريات الشخصية وصولاً للحقيقة هو جهد مضني لكنه ضروري. من مجموع كل مذكرات قادة الحزب ومقابلاتهم الصحفية والتلفزيونية يصل المرء إلى استنتاج يقول، بأن قيادة الحزب لم تكن فاقدة للكفاءة فقط، بل وغارقة في الذاتية والدسائس. وهو السبب الأساسي في كوارث الحزب.

إشكالية القادة والقاعدة

إن كل هزائم الحزب كما تكشف ملابساتها ومجرياتها الواقعية تشير إلى أن السبب الأساسي هو في نوعية القيادة السياسية للحزب. كما أنها تكشف في الوقت نفسه عن أن قواعد الحزب الشيوعي أكثر وعيا وجرأة وإخلاصا ومبدئية وتضحية وتفاني من هذه القيادات الجبانة والانهزامية والفاسدة. إذ لم تتعدى جرأتها في الأغلب وحميتها العنيفة سوى في تسابقا وأبنائها للحصول على امتيازات زهيدة كانت تمنحها بلدان المنظومة السوفيتية.

تختلف قواعد الحزب الشيوعي اختلافا تاماً وجذرياً عن قياداتها. وهذا بحد ذاته مفارقة غريبة. وإذا كان قاموس الجبن بمختلف مفرداته حليف قيادة الحزب ااشيوعي، فإن مفردات قاموس التضحية والإخلاص حليف قواعده. وإذا كانت قواعد الحزب تستحق الاحترام والتقدير والتبجيل، فإن قادته تستحق الازدراء والاحتقار.

كل ذلك يدفع بدوره مهمة إعادة تقييم الشخصيات القيادية في الحزب لما فيه من أهمية بالنسبة للمستقبل من جهة، ولفكرة القيادة السياسية وأسلوب تطويرها من خلال النقد والإطاحة بالفاشلين وتعريضهم للنقد والمحاكمة السياسية والأخلاقية من جهة أخرى.

تقييم الشخصيات القيادية الحزبية

تجدر الإشارة هنا إلى أن المقصود بالشخصية هو مجرد الاشارة للشخص وليس بمعناها الفكري والثقافي، وذلك لأن الأغلبية المطلقة من قيادات الحزب على امتداد تاريخه ولحد الآن هم بمعايير اللغة الدارجة والمعروفة أقرب إلى الإمعات. بل انهم في الواقع اتعس وأرذل. وسوف اكتفي بنماذج "شهيرة" من اجل توضيح الفكرة أولا وقبل كل شيئ وبالأخص ما يتعلق بجانبها الأخلاقي. أما الحكم السياسي فهو واضح على مثال مجريات التاريخ الفعلي ونتائجه الكارثية.

عزيز محمد. لقد تبين فيما بعد بأنه لم يكن بسيطا وساذجا وسهلا، أي على عكس ما توقع زكي خيري وبهاء الدين نوري وعامر عبد الله، الذين اعتقدوا أن بإمكانهم إزاحته لاحقاً بعد انتخابه في اجتماع براغ 1964. لقد اظهر قدر من البراعة في المؤامرة والمغامرة أكثر منهم. وكانت "براعته" في الأغلب محصورة بالسكر والنساء. الأمر الذي مكّن فخري كريم من توريطه في قضية ما يعرف "أم عرفان" في دمشق. كما عرف عن عزيز محمد دفاعه القوي عن فخري كريم في سرقات دار الرواد.

زكي خيري. لا يمكن الثقة بكافة تقديراته العملية والسياسية. ومن حيث الواقع هو  "مثقف" أبله.

عبد الرزاق الصافي. أقرب ما يكون إلى كاتب عرائض ساذج. أدى دور موظف عند قادة الحزب السذج بالمعنى المعرفي والدهاة بالمعنى الحزبي الضيق.

كاظم حبيب: مهرج متقلب ويتسم بقدر كبير من الرعونة. ويكفي المرء استعراض ما كتبه قبل مرحلة الجبهة الوطنية وفي مجراها وبعدها وفي ومرحلة "الأنصار" والمرحلة اللاحقة ولحد الآن ليعرف ذلك. وغير معروف السبب وراء ما يقال بحرق كتبه من جانب عبد الرزاق الصافي، الذي استلم إعلام الحزب الشيوعي منه خلال فترة حركة الأنصار في شمال العراق.

فخري كريم. وهو نموذج للنذالة والسفالة والانحطاط الأخلاقي والسياسي والنزعة النفعية. كما انه نموذج للمراوغة والاصطياد الدائم "للقادة" السذج في الحزب.

حمبد مجيد موسى. من أهم صفاته كونه لئيم وأناني وجبان. كما انه انبطاحي من "الدرجة الأولى" أمام الأكراد. والانبطاح صفة ملازمة له من أيام صباه.

عزيز الحاج. هو نموذج للخيانة. وكشفت الأحداث الأخيرة والإعلام عن عورته وكل ما فيها من أوساخ.

إن هذه النماذج القيادية وكثير غيرها تكفي بحد ذاتها لتسليط الضوء على ما كان يجري وكيف جرى ولماذا جرى من هزائم مستمرة بحيث أدت في نهاية المطاف إلى ضمور إحدى أهم القوى السياسية الاجتماعية في العراق الحديث والمعاصر.

 

يوسف محمد طه

.......................

ملاحظة: هذه هي الحلقة الأخيرة مما استطعت تنقيحه وتحضيره للنشر. وقد نفذت وصية المؤلف، عندما كتب هذا الكتاب أو سعى لكتابته بطريقة أخرى، لكن المرض وأعراض الموت قد حالت دون ذلك. وقد صادف أن نشرت أول حلقاته في يوم وفاته. وبهذا أكون قد مددت حياته لعشرة أيام إضافية على صفحات (المثقف)! وهذا اقل ما كان بإمكاني تقديمه له. وبقي أن انجز تنقيح وتدقيق وتحقيق ما تركه لي كوصية أيضا كتابه (العقل والطبيعة). وهو ما سأقوم به بالتأكيد كل ما تسمح به ظروفي. وتوفي قبل فترة احد طلبتي الموهوبين في مجال الصحافة. وترك عندي عدد مما كتبه وما نشره مما لم ينشر على صفحات المواقع الالكترونية. وسوف احيي ذكراه بها قريبا لكي تكون في متداول من يهتم بالقضايا التي كتبها.

 (ميثم الجنابي)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم