صحيفة المثقف

العقل الاجرائي والجسد

علي محمد اليوسفتوطئة: افكار هذه المقالة مستوحاة من مصدر كتاب الفيلسوف الامريكي ريتشارد رورتي بعنوان (الفلسفة ومرآة الطبيعة) كما معلن عنه في هوامش الاقتباسات، الا أني فوجئت بأن الفصلين الاول والثاني من الكتاب لا يطرحان أفكارا فلسفية وأنما هي آراء طبية تخصصية في علم وظائف الاعضاء والجهاز العصبي، وتتحدث باسلوب تخصصي معقد عن افتراضات مقارنة لكوكب آخر يسكنه أناس لا عقول طبيعية لهم كعقول أهل الارض... وعمد المؤلف أجراء مقارنات غاية في التعقيد الفسلجي الوظائفي في علم وظائف الاعضاء في تدعيم وجهة نظره في فرضية المقارنة التي أقترحها للتدليل على صحة ما يريده.

ما وجدته في الكتاب المصدر أحتجاب الآراء الفلسفية تماما من الحضور في متون الفصلين الاولين من المحتويات، مما يجعل الباحث عن الفلسفة بعيدا جدا عما يتحدث عنه الكتاب على أنه فلسفة معاصرة وليس كتابا في علم وظائف الاعضاء والجهاز العصبي وعلم النفس الطبي التخصصي الدقيق.. لذا وجدت نفسي ملزما كي أقدم مقالة فلسفية للقاريء أن أخرج على الكثير من آراء رورتي في علم وظائف الاعضاء متوخيا البحث بين ثنايا فصلي الكتاب عن قطوعات وشذرات فلسفية تعينني عرضها ومناقشتها بحجاج منطقي فلسفي مفهوم واضح..

وأستشهد على ما سبق لي ذكره بمثالين:

- الاول هل بأمكاننا أعتبار ماهو فيزيائي لا يكون بالضرورة الادراكية عقليا؟؟ الجواب الذي عثرت عليه في فلسفة رورتي أن هذه بديهة لا يمكننا مناقشة التسليم بها ولا مجال في مناقشة تخطئتها أو التحفظ في تعميمها على جميع الظواهر الفيزيائية بدءا من ظواهر المادة وليس انتهاءا بظواهرالسديم الكوني، وهذا برأيي قطع يقيني غير سليم تماما...فكل متعين فيزيائيا يكون متاحا أدراكه عقليا باستثناء بعض الظواهر الفيزيائية التي تخص فيزياء الكون والقوانين العامة الذي تحكمه.

- المثال الثاني الذي لا يقل أستعصاءا على قبول التسليم به هو في أعتبار رورتي أحاسيس طبائع الجسم الداخلية النفسية المزاجية مثل الالم والحزن والسعادة والبكاء والجوع والعطش والجنس أنما هي محض أستثارات لألياف عصبية وليست أستثارات عقلية ولا تعني أستجابة الدماغ لها في وجوب الردود الاجرائية عليها وأشباعها غريزيا ماديا..

لما ذكرته وغيره لا يحضرني كثير أستوجب مني التنبيه أن ما تحويه المقالة من أفكار هي من وحي الفصلين الاوليين من كتاب رورتي لكن ليس بالضرورة الالتزام بما ورد فيهما من أفكار وجدتها بعيدة عن التناول والاهتمام الفلسفي، لذا فالمقال هو أفكارخاصة بي وأجتهاد شخصي فقط في مناقشة اقتباسات عرضية من الكتاب..

في معنى علاقة العقل بالجسد

يذهب فلاسفة غربيون عديدون قدماء ومعاصرون الى أهمية وجوب التفريق في مسألة بديهية لا تحتاج عناء برهان عليها، هي فصل العقل عن الجسد ليس على صعيد البيولوجيا وحسب وأنما على صعيد الوظيفة الفسلجية والمعرفية والفلسفية التي تحتّم وجوب هذا الفصل القائم أساسا،، فالعقل ليس هو الجسد، ولا الجسد هو العقل،، ووصاية العقل على الجسد لا تجعل من هذا الاخير جوهرا لا أهمية له من دون ملازمة العقل له كجوهر ثابت..فالجسد موجود في فاعلية العقل الحيوية الملازمة له وموجود ايضا في عطالة العقل كما في حالات الجنون أو فقدان الوعي والامراض العصابية العقلية، وهذا يؤكد حقيقة أن العقل لا ينتج مقولاته الاجرائية عن مدركاته خارج تكامله مع الجسد في كينونة انسانوية واحدة،، كما لا قيمة حياتية من أي نوع لجسد لا يتوّجه ويقوده عقل واع في  السيطرة عليه وتقويمه من الزلل المستديم والضلال المميت.

فالجسد والعقل هما جوهرواحد قيمة أحدهما لا معنى لها من دون قيمة الآخرمعها،فالانسان جوهر متكامل يستمد كينونته من ثنائية جوهر العقل - الجسد، بينما لا ينوب الجسد كجوهر عن جوهر العقل، ولا أهمية للعقل ولا للجسد من دون تكاملهما العلائقي الفسلجي الوظيفي في أعطاء العقل والجسد جوهر كينونة الانسان الواحدة. والجسد كينونة غير كاملة حقيقتها تكمن في تواشجها مع العقل ولا يمكن معرفة الانسان بالعقل مجردا منفصلا عن الجسد وبالعكس أيضا..فلا عقل حي فاعل بغياب الجسد الصحي غير المريض عنه..

الجوهر الجسدي الناقص

الجزء المنفصل عن الجسد لا يمتلك صفة الجوهر الكامل، فالذراع المبتورة عن الجسد لا تمثل علاقة الجسد بالعقل كجوهر متكامل ينوب في تمثيله الجسد، بل تمّثل الذراع المبتورة جزءا علاقتها بالجسد تكون قبلية سابقة على علاقتها الغائبة عن مدركات العقل لها كجوهر متكامل..لذا تكون الذراع المبتورة جوهرا غير كامل يعجز عن تمثيل الجسد كجوهر متكامل بمجموع أعضائه..وهذا الاخير أي الجسد لا قيمة حقيقية له في أنفصاله عن العقل الذي هو جوهر انساني..بل أستحالة أن يكون هناك وجود حي حقيقي للجسد المتعافي في غياب أرتباط العقل التكاملي به.. .وهو ما يرتّب لا أهمية أي جزء من الجسد أن يكون جوهرا كاملا ينوب عن تمثيل كامل الجسد.

الفصل بين العقل والجسد من الناحية البيولوجية والفسلجية والفلسفية أنما يقوم على أن وظيفة العقل ليست أدراك الاشياء في وجودها الخارجي المتّعين ماديا للتدليل على أهمية العقل في الوعي القصدي الادراكي للاشياء وحسب، بل العقل ينفصل عن الجسد في تحديد مدركاته الواردة الواصلة اليه عن طريق الاحساسات عبر الحواس من جهة، ومن جهة أخرى أدراك العقل للأحاسيس الواردة اليه التي يكون مصدرها اجهزة الجسد نفسه داخليا ذاتيا متحررا من الحواس مثل غرائز النفس من شعور الانسان بالعطش والجوع والسعادة والمرض والحزن والضحك والالم والبكاء والكآبة التي هي تجليّات النفس المزاجية،، فهذه وعشرات غيرها هي أحاسيس يصدرها الجسد على شكل أيعازات ترد عقل الانسان عبر منظومة الجهاز العصبي لا علاقة للحواس بها فهي أحاسيس يصدرها الجسد داخليا وليست أحساسات تصدرها الحواس خارجيا ناتجة عن مدركات الاشياء في العالم الخارجي.. والعقل يتعامل مع الاحساسات والاحاسيس على أنهما وسيلة أدراك واحدة لا أنفصال بينهما الا بمقدار أهميتها التراتيبية في مدركات العقل الواصلة اليه..ونجد مهما في تعالق مع هذا التوضيح ضرورة عدم القفز فوق حقيقة وحدة الجسد مع النفس في علاقة لا أنفكاك فيها، وهي علاقة لا تشبه ولا تتعين بضوء علاقة العقل بالجسد كجوهرين متلازمين بالتكامل الوظيفي الاجرائي وليس بالاندماج العضوي البايولوجي العفوي كما هو في علاقة النفس بالجسد فهما كيان واحد بخلاف علاقة العقل والجسد كجوهرين متكافئين تكامليا..

ويجمع العديد من الفلاسفة على (أن جدول وعي الاحاسيس من غير جسد لا يعقلها العقل)(1)،وما تجدر الاشارة له بهذا الخصوص أن رورتي ينكر أن تكون الاحاسيس التي مصدرها النفس في الجسد واجهزته البيولوجية التي يتكون منها الجسد داخليا مثل جهاز الهضم والجهاز العصبي وجهاز الدورة الدموية وجهاز العضلات وغير ذلك داخليا وعنها جميعا تصدر الاحاسيس كما في حالات الالم وامزجة النفس المتنوعة العديدة التي ينكرها رورتي أن تكون (عقلية) بل يعتبرها أستثارة لالياف عصبية لا علاقة للعقل في أدراكها ولا علاقة له في ردود أفعال أشباعها ومعالجتها..

وعليه نكون غير مجانبي الصواب قولنا أن الجسد هو الوعي الكامل لمدركات العقل، وتبقى الاحساسات الصادرة عن الحواس تجاه العقل، والاحاسيس الصادرة عن أنفعالات وطبائع الجسد جوّانيا كليهما من نوع الوعي الناقص غير الكامل الذي يقوم العقل بتوحيدهما وتشكيلهما بهذا التوّحد وعيا كاملا كمدركات عقلية يرتّب عليها مقولات العقل الاجرائية.. فلا معنى لشعور الانسان بالجوع والعطش ورغبة الجنس والالم والحزن من غير تكامل جسد - نفس يحتويها ويصدرها على شكل أيعازات تستثير العقل عبر الجهاز العصبي كي يتم اشباعها أجرائيا... كما لا معنى لأحساسات الحواس المنقولة عبر الجهاز العصبي من غير أسبقية الجسد على العقل في أستلامه الاحساسات كمستودع تخزين لما يطلبه العقل من خزين معرفي بالذاكرة عند الحاجة للبت بها تفسيرا ، تعليلا ،علائقيا، وأجرائيا أيضا.

العقل جوهر لامكاني... ديكارت

يعتمد ديكارت مقولته (العقل جوهر لا مكاني) فبأي معنى أو أي معيار يمكننا الذهاب معه ؟؟ علما أن ديكارت يعتبر الاقانيم الجوهرية القارة الثلاث هي (الله، العقل، المادة..). كما يرد على لسان الفيلسوف المعاصر ريتشارد رورتي أن افلاطون كان يمكن أن يكون أكثر قربا من ديكارت بخلاف ارسطو، في مسألة الفصل الديكارتي بين العقل والجسد وأعتبارهما جوهرين متمايزين يمتلكان الاستقلالية أحدهما عن الآخر. ونجد ان ديكارت محق بما ذهب له بضوء أجتهادنا أنه لو كان العقل جوهرا (مكانيا) لما كان أمتلك القدرة على أدراكه المادة التي هي خاصّية أمتداد متحرك في الزمكان، لذا عندما تكون ميزة العقل (لا مكانية) كما يرى ديكارت فهو بهذا المعنى يخرج العقل من الثبات ليكون جوهرا غير محدود في قابليته رصد الحركة والامتداد والتغيير والتحولات في المادة،، أي يكون العقل زمانيا متغيرا وليس مكانيا ثابتا، فالمكاني كجوهر عقلي ثابت يدرك المحدود مكانا الثابت المتجانس معه في ثباته المجرّد عن صفات وتحولات التغيير بخلاف (اللامكاني) بتوصيف ديكارت الذي هو ميزة العقل في أدراكه متغيرات المكان المتعالقة معه باستمرارفي الزمان والمكان، ف (لامكانية) العقل كما ينعت بها ديكارت العقل هي في حضوره الزماني الادراكي للاشياء في ثباتها وفي حركتها مكانا على السواء.. فالعقل بتعبير ديكارت (هوجميع المحركات التي لا تتحرك) وأصلها عبارة ارسطو في المحركات التي لا تتحرك(2) هنا بهذا المعنى يكون العقل (نوس Nouse) جوهرا يدرك الحركة والتغيير في المادة ويستوعبهما، ولا يكتفي بادراك المادة في أمتدادها ولا في ثباتها النسبي الزائف، بأعتبار المكان فضاء مادي ممتد فلا بد للعقل من ملاحقة حركات الاشياء المادية فيه وانتقالاتها وتغيراتها الدائمة المستمرة..وفي مقاربة معنى ماذهبنا له يرى ديكارت أمكانية فصل العقل عن الجسد بالمنظور الفلسفي في أعتبارنا العقل جوهر عديم الامتداد يقاطع المادة التي هي جوهر ممتد.(3) هنا التقاطع المقصود لا يأتي بمعنى التضاد غير المتعايش علائقيا بالاخر، بل بمعنى التمايزالمتعايش في الوظيفة تكامليا مع الضد.. ميزة العقل أن لا يكون مكانيا هو في قدرته أن يلعب دور الزمان في أدراكه الاشياء المتحركة المتغيرة باستمرار،، وبذلك يكون ديكارت مصيبا في نعته العقل أنه جوهر لا مكاني..مؤكدا أهمية العقل الزماني في ثباته الادراكي للاشياء في حركتها...والعقل الثابت المكاني المجرد عن زمانيته لا يقوى أدراك الاشياء في حركتها أي في ثباتها المكاني ولا في زمانيتها المتغيّرة على الدوام..

أنه لمن المهم التنبيه أن العقل ثبات في وجوده البايولوجي لكنه متغير غير ثابت زمانيا - مكانيا في أدراكه حركة الاشياء في تغيراتها وانتقالاتها، لذا يكون العقل بهذا المعنى (لا مكانيا) تعبير دقيق صائب لديكارت.

والجوهر (اللامكاني) للعقل عند ديكارت رفضه كانط وستراسون حسب رورتي بأعتباره فكرة غير متماسكة مثّلت القرن السابع عشر. حيث كان من مألوف التاريخ الفكري تصور حدوث أشياء غريبة في فكرة الجوهر في ذلك القرن(4)، وهو رفض غير مقنع وتعبيرلغوي مبتورفلسفيا،، فهما كانط وستراسون كانا محقيّن في أعتبارهما أن الجزء لا يمّثل جوهر الكل، فمثلا ذراع الانسان المبتورة هي ليست جوهرا يمثل الانسان كاملا ولا يمثل الجسد كاملا أيضا، كما لا يكون الذراع جوهرا لامكانيا له قدرة الحركة والامتداد التي هي خاصية مادية فيزيائية يترتب على العقل الانساني كجوهر ثابت لامكاني أمتلاكه زمانية أدراكها.

وفي أنفصال العقل عن الجسد لا يفقد الانسان ماهيته الجوهرية وبتعبير ديكارت(العقل والمادة كائنان متمايزان لا يعتمدان أي شيء آخر لوجودهما )(5)،، فماهية العقل لا يكتسبها من المادة موضوع الادراك الحسي -  العقلي، لكن بمقدور العقل أن يكسب هو المادة ماهيتها في الادراك الحسي لها فقط وليس بمقدور العقل أكساب الموجودات ماهياتها بمعناها الانطولوجي(وجود مستقل) الذي هو حق مكتسب في وجود المادة (ظواهر وماهية) كمعطى أزلي لموجودات الطبيعة لا يحتاج الى وجود ماهوي يكتسبه في أدراك العقل له فهو تحصيل حاصل مكتسب بالفطرة الانطولوجية في الطبيعة كوجود مستقل عن الادراك العقلي له..

الفكر الذي هو نتاج عقلي متخارج مع مواضيع الادراك يكتسب ماديته من موضوعه المتخارج معه أدراكيا.. ولكن هذا المعيار العلائقي بين الفكر والمادة لا يصح أستنساخه بعلاقة الفكر مع العقل..فالعقل مادي بالفطرة الخلقية قبل الاكتساب لصفة المادي له بالمعرفة المنطقية التجريدية..بينما تكون مادية الفكر مكتسبة موضوعيا بالتخارج مع مواضيع أدراكه وليست المادية من الخصائص الذاتية للفكر المجرد بل من خصائص اكتسابه لها موضوعيا..

ويعبّر ديكارت قائلا :( لا شيء أسهل للعقل معرفته أكثر من معرفة نفسه )(6) وأن أقرب شيء للعقل هو ذاته  ، وحسب مداخلة ريتشارد رورتي أنه ينسب لكثير من الفلاسفة أصرارهم القول أنه لا معنى أطلاقا لتحديد مكان لحدوث الفكر داخل الجسد ، وهو تعبير فلسفي غامض ومعقد على التفسير الدقيق الا بضوء التمييز بين ما هو المقصود تحديدا بالعقل (نوس Nouse ) أو (مايند Mind) أو (لوغوس Logos)عن أختلافه بمعنى (برين Braine) الذي يعني العقل والدماغ أيضا...ونجد من السهولة نفسها أن نقول بضوء ذلك أنما يعقل العقل نفسه في أدراكه معرفة الاشياء والموضوعات الخارجية ولا يوجد تعبير آخر يعطي الجملة معناها أكثر من أعتبارنا العقل تفكيرمستمد من موضوعات أدراكه الخارجية وموضوعات تفكيره الداخلية معا تكامليا..ومعرفة العقل لذاته القريبة منه أنما تتم في تفكير العقل بموضوعات أدراكه ذاتيا ليس الا..وألا نكون مجبرين الأخذ بالكوجيتو الديكارتي أن معرفة العقل تتم بالتفكير الذاتي المجرد من موضوع أدراكه ،، أنا افكر.. من دون تحديد التفكير بماذا؟؟ وهو المطب الفلسفي الديكارتي الذي تناوله الفلاسفة بالكثير من المثالب بحق الكوجيتو الناقص..

وكما سبق لنا التذكير به أن التباس التعبير في ما هو المقصود(نوعيا) من العقل تحديدا وبدقة يكون في وجوب أخراجنا العقل من التعميم الفلسفي المجرد الذي يعني أن العقل هو تفكيربالفكرالمنطقي المجرد المقطوع الصلة بمدركاته وكفى، هذا غير كاف لتنويرنا كيف يستطيع العقل أن يعقل نفسه بسهولة لا أجرائية كما يذهب له ديكارت، بمعزل عن الوظيفة الفلسلجية العصبونية التي لا يكون العقل عقلا(دماغا) من دونها..

التفكير عبر اللغة هو السمة الجوهرية التي يمتاز بها العقل لكنها لا تمثل (كل) وظائف العقل لأن العقل منظومة لا تحد من الفعاليات الحيوية الواسعة المهام يصعب علينا حصرها بالفكر المفّكر ذاتيا....العقل لا يكتفي بالتفكيرالمجرد المنطقي المتماسك فقط وعدم أصداره (مقولاته) الاجرائية العابرة للفكرة التي هي ميزة عقلية أكثر أهمية من مجرد عملية الادراك الفكري الصوري التجريدي للاشياء.

ما يصدر عن المادي فهو مادي

يقول رورتي على لسان رايل  Rylean أن حالات المزاج هي صفات العقل والطباع فلا تتطلب وسطا (لاماديا) كأساس وأنما تتطلب الانسان.(7)، وهذا دليل قاطع على الخلط بين أن يكون العقل تفكيرا أستيعابيا غيرأجرائي وبين أن يكون أساسا ماديا أجرائيا في معالجة مدركاته. كما أن النفس وما تصدره من أيعازات الاحاسيس العواطف والوجدانات والالام وغيرها أنما تكتسب ماديتها من مادية الوجود الانساني مصدر فعاليات النفس التي هي جزء من جوهر كينونة الانسان كجسد مادي.. وكل ما يصدر عن المادي هو مادي حتى لو كان على مستوى التفكير أو أحاسيس النفس،، فهي أي صفات العقل والطباع وما تصدره النفس لا تحتاج وسطا غير مادي على حد تعبير رايل في الافصاح الذاتي عنها لكنها في ذات الوقت تحتاج الانسان كوجود مادي من دونه لا يمكننا تصور وجود انفعالات نفسية تصدر عن انسان..وعليه تكون صفات العقل والنفس العاطفية والوجدانية والالام أنما هي في المحصلة النهائية أجراءات مادية يتحسسها الشخص الذي يصدرها بغية أستثارة منظومة الجهاز العصبي والدماغ في وجوب معالجتها أجرائيا من جهة وفي التأثير التواصلي مع الآخر قدر تعلق حاجة الحالة النفسية معرفة الاخرين بها..كما في تعبير النفس عن الحب والفرح والسعادة والحزن والالم وهكذا..

ثم نتساءل كيف لا تكون صفات العقل المزاجية لاتحتاج وسطا لا ماديا في الوقت الذي تحتاج الانسان كجوهر مادي جسمي ممثلا بجوهر العقل المادي أيضا كما يذهب له رايل؟؟ صحيح أن الاحاسيس النفسية صفات مجردة عن دلالاتها المتعينة ماديا وليس كما هو حال غيرها من أدراكات الانسان للاشياء المادية،، وصفات العقل المزاجية لا تحتاج سوى اللغة وبعض أيماءات الجسد أحيانا في التعبيرعنها كأستثارة نفسية - عصبية لكنها تبقى الاحاسيس في المحصلة صفات مادية نفسية مصدرها العقل المادي ولم تأت من فراغ لا مادي غير معروف ولا متعيّن هوالجسد قرين النفس مصدر المزاج والعواطف والوجدانات..

وبحسب رورتي أيضا فأن الفلاسفة يأخذون على ديكارت أنه يمنح الاحساسات صفة اللامادية من غير مسوّغ مع أنها الصفة المميزة للعقل.(8) .، وهذا مصداق ما ذهبنا له في تفسير عبارة رايل المناقضة تماما لديكارت التي يأخذها عليه رورتي مثلبة خاطئة بالانتصار لتعبير رايل الخاطيء مع الاخذ بعين الاعتبار الاختلاف بين رايل الذي قصد الاحاسيس وبين ديكارت الذي قصد الاحساسات..أن رورتي يقرّ بأن كل مظهر لأي شيء موجود في الواقع هو حالة دماغية بالمنهج المادي..لكنه ينكر أن تكون الاحساسات مدركات عقلية بل هي أستثارات لحزم عصبية لكل حالة فقط ولا علاقة للدماغ بها ولا في ردود الافعال عليها.

أن من المهم توضيح أن ما يصدر عن المادي هو مادي بالضرورة العلائقية المتخارجة المحكومة بعلاقة الفكر بالموضوع، فالفكر الذي يصدره العقل هو مادي يستمد ماديته في تخارجه مع موضوعه وليس من تفكير العقل بموضوعه تجريدا ذاتيا ولا يمكننا أعتبار العقل غير مادي بكل المعايير وما يصدرعن العقل من مقولات فكرية لغوية منطقية يكتسب صفة المقولات الاجرائية الواقعية، ولو كان العقل غير مادي فهو يكون حتما بالضرورة العلائقية مع موضوعه عاجزا عن أدراك كل ما هو مادي ويعجز عن أعطاء أفكاره صفة المقولات الاجرائية عن مدركاته..التي تكون أجراءات مادية تغيّر واقع الاشياء في وجودها.وليست أفكارا منطقية نسقية تظهر متانة التجريد التفكيري وتماسكه فقط بمعزل عن واقع مدركاته..

ميزة العقل الجوهرية التي نتجاهلها في بعض الاحيان هي أن العقل لا يفكر تجريديا منطقيا بالاشياء من أجل التفكير بها فقط، فالوعي هو تفكير قصدي بالشيء،، عليه يكون تفكير العقل من أجل أن يقود هذا التفكيرالتجريدي العقلاني الى أجراءات هي ردود أفعال يصدرها العقل عبر منظومة الجهاز العصبي كي تأخذ حيّز التنفيذ في الواقع وموجوداته وتكويناته..وهذا ما سبق لكانط أن أعتمده بما أطلق عليه (مقولات ) العقل الاجرائية في معالجته مواضيع مدركاته.

أن ألتباس ديكارت قوله الاحساسات التي مصدرها الحواس المادية هي لا مادية؟؟ هي مقولة صحيحة في حال أعتبارنا الاحساسات مادة خام لم تتم معالجتها بالذهن الاستقبالي لها من الحواس ولم يصدر تجاهها ردود أفعال أجرائية.... وخطأ رايل المبني على الفهم الخاطيء لعبارة ديكارت قوله أن الاحاسيس الصادرة عن الجسد هي نفسية مزاجية لا تحتاج وسطا لا مادي في أدراكها؟؟ هنا يجب الانتباه جيدا لما سبق لنا توضيحه في أسطر سابقة هو ان ديكارت يتكلم عن أحساسات مصدرها الحواس، ورايل يتكلم عن أحاسيس مصدرها النفس وطباع الانسان المزاجية..

وتعقيبنا أزيد من السابق أن صفة اللامادية للحس لا تقاس بمعيارية أن العقل لا يكون ماديا على الدوام كون التفكير المجرد بصور المدركات ذهنيا هي ميزة العقل الاساسية في أستقباله جميع حالات الاحساسات الادراكية الموضوعية كمواد خام.. بل وأكثر أن ميزة العقل الاكثر أهمية أنه يتعامل مع حالات الحس المزاجية مثل الالم والحزن وقضايا النفس والمزاج اللامادية بنفس معيارية أدراكه الاحساسات المادية الواصلة اليه عن موضوعات العالم الخارجي عبر الحواس بوسيلة التفكير العقلي المنطقي المادي.. ويبقى في المحصلة أن مايصدر عن العقل أجرائيا يكون ماديا سواء أكانت أحساسات الحواس أو كانت أحاسيس النفس والمزاج.. وما لا يحتاج الى وسط لا مادي في الافصاح من أحاسيس النفس والمزاج يكون لا معنى ولا وجود حقيقي له،، فالنفس جوهر مكمّل لجوهر الجسد تكتسب ماديتها من مادية الجسد قبل مادية رقابة ووصاية العقل عليها لذا مايصدر عنها من انفعالات تكون مادية ترتبط بأجراءات أشباعية لها مادية أيضا...فمثلا أحساس الانسان بالجوع لا يتم أسكاته واشباعه بالكلام الشفاهي ولا بالصوم، وقل مثل ذلك في حالات العطش والجنس والمرض والالم والحزن..

وليس من السهولة تمرير الافتراض الخاطيء بالقول أن الافكار تنتج أفكارا تجريدية متتابعة متماسكة ومنظمة بلا وسط مادي الى ما لا نهاية لها من التناسل الفكري المنطقي بمعزل عن مدركات العقل الاجرائية في التماس المباشر بالواقع، ويبقى التساؤل المهم كيف يكون لأفكارنا جدوى من غير تعالقها الضروري بالواقع الاجرائي لعملية تناسل الافكار في توليدها المستمر لافكار التجريد الى ما لا نهاية له من غير وصاية العقل المادية الاجرائية على تلك الافكاركي تكون جزءا من الواقع؟؟ تفكيرالعقل لا يشبه اللعب باللغة كما ذهب له فينجشتين، فاذا كان بمقدور اللغة اللعب في مخاتلة وتضليل المعنى، فالعقل لا يخاتل في تضليل وهمي غير موجود لحقيقة أن التفكير المنطقي من دون مقولات أجرائية مادية لا معنى ولا ضرورة له.

 

علي محمد اليوسف /الموصل

.............................

الهوامش

1- ريتشارد رورتي/الفلسفة ومرآة الطبيعة/ ت :حيدر حاج اسماعيل/ مركز دراسات الوحدة العربية/ص 127

2- المصدر السابق ص 126

3- المصدر السابق ص 123

4- المصدر السابق ص 127

5- المصدر السابق ص 128

6- المصدر السابق ص 123

7- المصدر السابق ص 128

8- المصدر السابق نفس الصفحة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم