صحيفة المثقف

زنكابادي يعرب مرثية الشاعر الإسباني خورخيه مانريكي

صفاء الصالحيمع سقوط مدينة غرناطة آخر معاقل الوجود الإسلامي والعربي في الأندلس سنة (1492م) دخلت شبه الجزيرة الإيبيرية مرحلة جديدة في تاريخها سياساً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وحظى التغير في المنظومة الثقافية بالإهتمام الابرز من اجل تبديد التراث الفكري والأدبي العربي الإسلامي، واصدرت العديد عشرات القرارات التي تجهز على أي نشاط فكري أو ثقافي يمت بصلة لما قبل هذا التاريخ، وبمقتضى مرسوم سنة (1667م) تم حظر استعمال اللغة العربية ومصادرة الكتب المدونة بها، لكن لغة سلطة حاكمة دامت حوالي ثمانية قرون في مجتمع وباتت جزءاً من تكوينها الثقافي لن يغيب أدبها دون ترك أثر في الأذواق والأفكار والأساليب اللغوية . وفي ظل هكذا تحولات ثقافية عظيمة تغدو محاولات دراسة مواطن التلاقي وإثبات صلاة تأثير وتأثر الأدب العربي بالأدب الاسباني ميدان إستقصاء بالغ الأهمية تتداخل به الترجمة مع الدراسات المقارنة، وتاتي ترجمة الموسوعي جلال زنكَابادي لمرثية الشاعر الاسباني خورخيه مانريكي الى العربية ترجمة مقرونة بدراسة مستفيضة لجذب أنظار الباحثين المختصين في الأدب المقارن " بين الأدبين العربي والاسلامي ".

الكتاب صادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون سنة 2012م، ويستهل المؤلف منجزه بالإهداء (الى الأستاذ فخري كريم الراعي الجليل للثقافة الأنسانية ومبدعيها الحقيقيين ؛ عرفاناً منا بجميله الفياض دوماً ...)، يقع الكتاب في 119 صفحة من القطع المتوسط، وقبل الإشارة الى الى طريقة الزنكَابادي في ترجمته للمرثية لابد من الإشارة الى تعريفه لسيرة الأمير الشاعر خورخيه مانريكي (1440-1479): شاعر اسباني من العصر العصر الوسيط، من اسرة عريقة الحسب والنسب، استفاد منذ صباه من الاطلاع على مكتبة عمه "دييكَو كَوميث مانريكي " الشاعر والكاتب المسرحي ورئيس بلدية توليدو، ودرس خوخيه مانريكي القانون والعلوم العسكرية وتبلورت لديه ثقافة شبه موسوعية تشتمل على(القانون، والعلوم العسكرية، والتاريخ، والأدب، والدين)، وكان ذا إطلاع باللغات اللاتينية والايطالية والفرنسية، ولكن انخراطه في الأحداث الدامية في عصره حالت دون التفرغ الى موهبته الشعرية، ولم يخلف إلا ديواناً صغير الحجم، ضم فيه مرثيته لوالده، ومع ذلك تعد المرثية من عيون الشعر الاسباني على مر العصور، وحظيت بالترجمة الى العديد من اللغات العالمية، ومن مظاهر الاحتفاءات الرسمية به: استحدثت جائزة أدبية بأسمه، وإصدار طابع بريدي مزين ببورتريه له، ونصب أكثر من تمثال له، وتدريس شعره ضمن مناهج المعاهد والكليات الأدبية ليس في اسبانيا فحسب بل في بلدان امريكا اللاتينية، لقد حقق مانريكي مجده المشهود كشاعر أرستقراطي جامع بين السيف والقلم .يثري المؤلف بخبرته الكتابية والشعرية بالغتين العربية والكردية والترجمة إليهما عن بضع لغات منذ عقود منجزه الثر، فيطلق عنان الاجتهاد في طريقة الترجمية التي يسميها بالمنثومة (نظم +نثر مسجوع)، ولا يلتزم باستخدام كل بحر على حدة بل يمزج بين ثلاث بحور في النظم مع اللجوء الى النثر المسجوع، ويولي اهتمامه بترجيح أولوية نقل المعنى على الانصياع لجمال المبنى دون التفريط بالجرس والإيقاع الضروريين للشعر، مع تلافي الإنزلاق في النثرية المنفلتة الفضفاضة . ويذهب الزنكَابادي في الإستقصاء متعكزاً حدسه الشعري الى ان هناك وجه مشابهة وارض مشتركة بين مرثية مانريكي لأبيه ومرثية الأندلس للاديب والشاعر الأندلسي أبي الطيب الرندي (1204-1285م)، من خلال التطابق العددي الاثنين والاربعين للمرثيتين، ومدى التشابه الوارد بين تساؤلات الشاعرين، وان كلتا المرثيتين تجسد منعطفاً تاريخياً لبني جلدة الرندي ومانريكي، فالأولى تؤشر انهيار الاندلس وانحسار الأسلام، والثانية تؤشر نهوض اسبانيا المسيحية، وان كلا الشاعرين لم يكن بمعزل عن الاطلاع على آداب الشرق، ولا يستبعد الباحث تأثر الرندي المؤثر في مانريكي أصلاً بالشعراء المشارقة (البحتري، وسعدي شيرازي). لقد بذل الزنكَابادي جهداً ذا اثر محمود في تسليط الضوء على مدى التلاقح الثقافي والمساحة المشتركة بين الأدبين العربي والاسباني والتي من شأنها تطوير مبدأ التواصل الحضاري ما بين الحضارتين، وما قدمه من إشارات تبين أثر هذا التاثير تصلح ركيزة مهمة للدراسات المقارنة على صعيد المدرستين الفرنسية والأمريكية، لعل المختصين المتعمقين بهذا الحقل من حقول المعرفة الأ دبية يتتبعون تلك الإشارات لإستقراء الجواب الشافي: هل تأثر مانريكي بالرندي أم لا؟

 

صفاء الصالحي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم