صحيفة المثقف

الرواية التسجيلية من منظور أخلاقي

سلام كاظم فرج(ملاحظات حول ثلاثية حميد الحريزي.. العربة / كفاح / البياض الدامي)

لم يجر الالتفات إلى أهمية الجانب الأخلاقي وعلاقة تلك الأهمية بالتحري عن الصدق عند تسجيل الوقائع التاريخية وعند كتابة رواية تسجيلية.. قد تكون ثمة مبررات لتجاوز الصدق لصالح الخيال في الروايات التاريخية.. لكن الصدق الصارم مطلوب في الروايات التسجيلية وهذا مالم يلتفت إليه نقاد الأدب ولا (الماركسيون منهم).. فالانحياز لفكرة ما او عقيدة قد يلقي مايشبه الضباب على رؤى أولئك الكتاب أو النقاد.. وطالما جرى تزييف بعض الحقائق لصالح قضية ما قد تكون نبيلة.. وقد يغض النقاد الطرف عن كم الكذب ويرون في ذلك بعدا أخلاقيا !..

لفتت انتباهي حقيقة رائعة وأنا أقرأ رواية (لاجديد في الجبهة الغربية..) لريمارك  ان الكاتب ركز على بشاعة الحرب دون الانحياز لمعسكرما.. بل انه قد تناول بالوصف الدقيق كل البشاعات التي عاشها في المعسكر الذي قاتل فيه اكثر من البشاعات عند الخصوم.. وهنا يتغلب معادل الصدق على معادل الأخلاق.. فيتفوق عليه في صدقه وفي أخلاقيته... كذلك الامر بالنسبة لرواية وقت للحب ووقت للموت..لريمارك نفسه..

يختلف الأمر عند همنغواي على سبيل المثال لا الحصر في روايته (لمن تقرع الاجراس..) ..فالكاتب ورغم براعته في نقل وقائع الحرب في اسبانيا كان منحازا وبشكل واضح للجمهوريين في مواجهتهم للفاشست ..

ثمة فرق بين ان تكون منحازا وبين ان تكون صادقا.. والانحياز للفضيلة قد لا يعفيك من دفقة صدق عند الحديث عن الخصوم.. مهما كان حجم البشاعة عند الخصم..

باسترناك تعرض لظلم تأريخي وعميق من قبل النقاد السوفيت حول روايته(الدكتور زيفاكو..).. وأتهم بأبشع النعوت.. ونبذ وطرد من اتحاد الكتاب السوفيت بعد فوزه بجائزة نوبل للآداب.. في رأيي المتواضع ان باسترناك قد غلٌب الصدق على المبدأ.. ولم يكن خائنا لشعبه او بلده.. ولا حتى للحزب الشيوعي السوفيتي في روايته البسيطة تلك والتي أستغلت سياسيا من قبل خصوم السوفيت.. في حين كان يمكن للسوفيت لولا قصر نظر قادته ان يوفروا دعاية جيدة لأديب مقتدر ويتعاملوا بروح رياضية مع نقده لملابسات حدثت أبان ثورة أكتوبر.. وهل تخلو ثورة من هنات ومصائب وانتهاكات؟ كانت الرواية في أصلها رواية حب مرتبك فالطبيب زيفاكو كان مشتت الفكر بين حبيبتين كلاهما عزيزة عليه.. وصادف انه كان قد اتخذ قرارا باللحاق بإحداهما (لارا..) والاعتذار للثانية.. لكن الثوار البلاشفة اقتادوه عنوة ليؤدي خدمة بما يشبه السخرة.. مما حرمه من فرصة عمره في اللحاق بـ(لارا..) هذه هي باختصار الثيمة التي جلبت له العار والدمار.. لقد دفع ثمن صدقه في نقل الوقائع.. في حين ان العقيدة و(أخلاقياتها!) كانت تتطلب ان يغض النظر عن السالب لصالح الموجب..

الماركسية في أصلها تغلب الصدق على الانحياز المسبق لها أو لغيرها.. وقد إمتدح ماركس بلزاك رغم كونه كاتبا برجوازيا لصدق تناوله لطبيعة العلاقات في الأوساط الرأسمالية..والماركسية في أصلها استمدت الكثير من افكار فيخته رغم إنه فيلسوف مثالي..

يقول الكاتب السوفيتي (خاتشيك مومدجدان)

عن فخته (ان الماركسية قد قدرت كثيرا نضاله من أجل البرهنة على فعالية الذات.. وبالفعل فإن فخته قد وجه اهتماما كبيرا للوعي الأخلاقي لمشكلة الحرية وهكذا فقد رأى ان الدرجة التي يمكن ان يحصل المرء على الحرية فيها ليست مرتبطة فقط بتطوره العقلي بل بالشروط التأريخية لوجوده وقد تمثلت هذه الافكار والعديد من الافكار الجدلية العقلية للفيلسوف الالماني وبصورة معدلة في صياغات الماركسية..)

في ثلاثية الروائي الصديق حميد الحريزي (محطات..) ثمة محاولات للخروج من مأزق الانحياز المسبق للحزب الشيوعي العراقي في نضاله ضد الملكية ومن ثم ضد الفاشيات البعثية الشباطية لصالح الصدق في تناول الوقائع التأريخية.. فكات ثلاثيته رواية تسجيلية اكثر منها رواية تأريخية.. ولم يجنح به الخيال كثيرا فيصور رفاقه الشيوعيين كإنهم ملائكة.. بل هم أناس بسطاء طيبون لهم اخطائهم وخطاياهم.. وهم في غالبيتهم (شخوص الرواية..) من انحدار فلاحي ومن بيئة النجف بالذات.. لقد اعتمد الحريزي في ثلاثيته (العربانة/ وكفاح/البياض الدامي).. لغة شفافة تتوخى البساطة حتى تقترب من العامية في سردها وحواراتها..وتسجل لروايته فضيلة لم يلتفت اليها كل من تناول ثلاثيته ألا وهي اعتماد معجم مبتكر لشرح كل المفردات العامية التي استعملها شخوص الرواية في حواراتهم وهي في الغالب مفردات سكان الفرات الاوسط .. المشخاب والقرى التابعة لها حيث انطلقت منها أولى صفحات الرواية لتؤرخ بجنس روائي يجمع ما بين التأريخي والتسجيلي لمرحلة تمتد من بدايات تشكل اولى الخلايا الشيوعية في العراق والفرات الاوسط حتى الفترة التي تلت سقوط النظام البعثي عام 2003 ومشاركة الحزب الشيوعي العراقي في مجلس الحكم الانتقالي ليعلن المؤلف وعلى لسان احد شخوصه برائته مما يجري ورفضه لما وصل اليه الحزب من قناعات وتكتيكات على يد قادته الجدد..  ان مناضلا مثل مظلوم يرى في الحزب مدرسة ثقفته والقت به في اتون النضال والتضحيات الجسام ورأى كل تضحيات رفاقه الشيوعيين في مناهضة الرجعية والدكتاتورية والاستعمار. لايمكن له ولا لولده كفاح الذي سار على ذات الدرب ان يستوعب انصياع الحزب الشيوعي للجلوس على ذات المائدة التي نصبها برايمر الحاكم المدني الاميركي.

رواية الكاتب الحريزي تحتاج الى دراسات جادة ومنصفة فيها من السمو والارتقاء ما يستحق الإعجاب كما ان فيها من الهنات ما يستوجب الوقوف عندها مستقبلا من قبل الكاتب ليتجنبها.. سجلت على الرواية ملاحظات بسيطة منها ان الراوي ينسى نفسه فيعتمد العامية في السرد تاركا الفصحى التي هي أداته التي اعتمدها وبدأ فيها الرواية.. لكنني اعجبت ايما اعجاب في الحوارات التي كانت تجري في العامية على لسان فلاحي قرى الفرات الأوسط..

ومن الملاحظات التي يمكن ان تؤشر على الرواية دون ان تنتقص منها او تغنيها بل لمجرد توثيقها.. ان المؤلف وربما بدراية منه خلط ما بين الرواية التأريخية والرواية التسجيلية..كرواية تأريخية اعتمد السارد متابعة سيرة و مصائر أبطال بأسماء ليست معروفة تأريخيا لكن المتلقي يحبها ويتعاطف معها ويعيش محنتها.. مثل مظلوم وزوجته وولده.. وهنا يتسق المؤلف مع ما اعتدناه مما نعرف من الروايات مثل ثلاثية نجيب محفوظ حيث السيد احمد عبد الجواد وزوجه امينة واولاده وبناته.. وعند ورود اسماء مثل سعد زغلول والملك فؤاد والنحاس وام كلثوم وهي اسماء لشخصيات عامة نتفهم ذلك.. كذلك الامر بالنسبة لرواية الأخ حميد الحريزي .. هناك مظلوم وعائلته وهناك نوري السعيد وعبد الكريم وعبد السلام.. لكن الجديد في الامر ان الاحداث والشخوص العامة والخاصة تتداخل فهناك لقاء وإن جاء بصيغة الحلم بين مظلوم وعبد الكريم قاسم يعاتب المواطن الشيوعي الزعيم على التفريط بمنجزات الثورة.. هناك ترميز لسلام عادل زعيم الحزب الشيوعي من خلال شخصية الرفيق منير.. وهناك تداخل ودخول على مسرح الاحداث كشخصية عامة وخاصة للعريف حسن سريع قائد الانتفاضة المسلحة بما عرف تأريخيا بثورة حسن سريع. وهناك اقتباس تسجيلي كامل من كتاب (البيرية المسلحة..) ومما يدخل الرواية مدخل التسجيل.. اعتماد المؤلف على مؤلفات عديدة ومعروفة من بينها البيان رقم 13 لرشيد مصلح.. كانت هناك اشارات كثيرة مربكة... تجعل المتلقي يحار في تجنيس هذا العمل الهائل.. البيان رقم واحد لثورة تموز 58 والبيان رقم واحد لانقلاب شباط والبيان رقم واحد لانقلابات عديدة منها 18 تشرين ترد في ذات السياق.. بل ان هناك اقتباسات كاملة مشار اليها من كتاب حنا بطاطو .. الخ..

ان إخلاص الكاتب لقضيته وعقيدته والحماس البالغ في تعاطفه مع محنة مظلوم.. لم يمنعه من اعتماد مصادر لخصوم الحزب الذي عاش محنته واحبه وناضل في صفوفه.. الحزب الشيوعي العراقي... وبذلك استحق هو وروايته احترامنا ومحبتنا. وربما سيسجل له تأريخ النقد انه اول كاتب عراقي ابتكر نمطا كتابيا هجينا يجمع بين اجناس روائية مختلفة هي: (الرواية، والرواية التأريخية.. والرواية التسجيلية..).. وفي كل ذلك جمع ما بين الالتزام الاخلاقي الحازم والصدق الصارم..

ثمة ملاحظة نقدية لا بد من قولها ان ثلاثية الحريزي قد وقعت في ما يمكن ان نسميه التوقع الكاذب او إنقلاب الحظ..حيث تكون النهايات متوقعة ولكن ليس بالطرائق المتوقعة نفسها..الحديث عن الكم الهائل من المؤامرات التي تعرض لها الحزب الشيوعي العراقي والموثقة تسجيليا على صفحات الرواية يدفع المتلقي لليقين ان نضال الشيوعيين سيسفر عن خسارات هائلة.. دون نتائج مضمونة للشعب او الحزب او الحركة الوطنية.. وإن الخراب قد يكون خرابا جميلا وتبقى مجرد ذكريات جميلة لمناضلين رائعين.. لكن ان تنتهي الرواية بجلوس زعيم الحزب الشيوعي جنبا الى جنب مع زعماء تيارات دينية مثل المجلس الاعلى والدعوة الاسلامية والحزب الاسلامي الاخواني على طاولة واحدة ليست مستديرة مع الحاكم المدني بول بريمر...يجعل من ثيمة انقلاب الحظ السمة الرئيسة في ثلاثية الحريزي المأساوية!!!!ورغم ان العديد من بقايا قدامى المناضلين يرون في ذلك انتصارا إلا ان المؤلف وقد فتك بصاحبه (كفاح بن مظلوم الشاعر والاديب والمناضل اليساري..) وضيعه.. لم ير ذلك على الاطلاق..

وفي الختام ولكي نكون منصفين مع صديقنا الاستاذ الحريزي  لابد من الاعتراف ان  رابطا  بين الاجناس الادبية المختلفة قد يكون مفيدا وضروريا لإختلاق ضربا  مستحدثا وطريفا  من الأدب يكون مقبولا لدى جمهرة من المتلقين يرون في ذلك فعلا خلاٌقا..

 

سلام كاظم فرج..

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم