صحيفة المثقف

كانط وقالبا الزمان والمكان في الادراك العقلي

علي محمد اليوسف(ان قالبي الزمان والمكان مسّلم بهما بالاستدلال العقلي، لأن كل التجربة المنظمة تشملهما وتفترض وجودهما، وبغيرهما لا يمكن للاحساسات أن تنمو الى مدركات حسية) عما نويل كانط

نبدأ بالتساؤل الفلسفي هل الزمن ثابت أم متغير وكيف؟

طبعا ستكون الاجابة من منطلق فلسفي وليس من منطلق كوزمولوجي علمي. وبعبارة موجزة تمهيدية فلسفية وليست فيزيائية علمية نقول الزمن ثابتا بالقياس الى ماهيته غير المدركة عقليا... ويكون في ذات الوقت متغيرا في ملازمته الادراكية للاشياء والموجودات الثابتة منها والمتحركة على السواء... بهذا المعنى الزمن يتغير في رصد ادراكه الاشياء في حالتي الحركة والثبات، وحالتي الثبات والحركة في منطوق الزمن الادراكي هما ثبات بالنسبة للزمن وليسا ثبات بالنسبة لادراكنا العقلي الذي يعتمد الزمن في ادراكه الاشياء والعالم الخارجي من غير معرفة الادراك العقلي ماهية الزمن ولا كيف يكون أحدى وسائل منظومة العقل في ادراكه موجودات العالم الخارجي..

أن ما يبدو لنا أن الزمن يتغير من حولنا نجده في ملاحظاتنا تمظهرات العالم من حولنا وملاحقة مدركاتنا للاشياء في ثباتها وفي حركتها، أنما الحقيقة فيه أن المتغير هو أدراكاتنا العقلية في مواكبة تحولات الاشياء من حولنا فالمكاني ثابت بالنسبة للزمان المتغير الذي هو أدراك العقل للموجودات مكانا كيفما وجدت في حالتي الحركة والسكون وحتى في حالة السيرورة والتكوّن والعلاقات.

بضوء الفهم الكانطي يكون الثبات المكاني للاشياء هو في حقيقته وسيلة لأمكانية فهم العقل لها زمانيا... أما ثبات الاشياء في ذاتها ماهويا التي لا تدركها الحواس ولا العقل، حينها يكون أدراك الزمن متوقفا معطلا أمام رغبة العقل معرفة تلك الاشياء ماهويا ومحدودية قدراته الادراكية لها ..فالاشياء بذاتها(نومين) سواء عند كانط أو غيره من الفلاسفة هي ماهيات وجواهر ليس سهلا أمام العقل أدراكها كمواضيع مدركة كما في أدراك العقل صفاتها الفيزيائية أو المادية المتعينة البائنة خارجيا..والسبب في ذلك عجز كشف الزمان للماهية أدراكا عقليا..فالعقل الادراكي يكون معّطلا تماما في غياب وتلازم أدراكات الزمان له كوسيلة معرفية....فالعقل يفكر ويعي وجود الموجودات مكانيا بواسطة أدراكها زمانيا..بمعنى لا يتاح أدراك الموجود مكانا قبل أدراك الزمان العقلي له...وما يتاح أمكانية معرفته للعقل من موجودات أو كينونات بصفات خارجية بائنة لا يكون متاحا ولا ينطبق على وجود الاشياء بذاتها أي في ماهيّاتها وجواهرها..فالجوهر حسب موسوعة لالاند الفلسفية هو كل ما هو دائم في اشياء تتغير...

من المعلوم أن منظومة الادراك العقلية للاشياء في وجودها المادي تبدأ بالحواس لتنتهي بمنظومة الجهاز العصبي والدماغ لكنما يبقى الوعي الزماني الادراكي للاشياء وسيلة وليس موضوعا... فنحن لا نستطيع أعتبار الوعي موضوعا للادراك العقلي الحسي، وأنما هو حلقة ضرورية ضمن منظومة الادراك العقلي، وكذا نفس الحال مع وسيلة الزمان في منظومة الادراك العقلي للعالم من حولنا وموجودات الاشياء..فالوعي والزمان لا يمثلان موضوعين للادراك لكنهما وسيلتا استدلال ادراكي عقلي.وبغير الادراك الزماني – المكاني للاشياء لا يتحول الادراك من أحساسات تستشعرها الحواس الى مدركات حسية يستقبلها الذهن والدماغ..

وتماشيا مع فلسفة كانط أعتباره المكان والزمان قالبان فطريان قبليان مركوزان في العقل المدرك للاشياء، نجده يفترض كي يكون أدراكنا الاشياء مكانيا – زمانيا، هو أن تكون تلك المدركات ثابتة في تجانسها مع ثبات الزمان الراصد المدرك لها..

أن الحقيقة التي تجاهلها كانط أن الزمان ليس ثابتا في أدراكه الاشياء المتجانسة معه في ثباتها المكاني وبغير تعالق الثبات المكاني للاشياء مع الثبات الزماني في ادراكها هو شرط تحقق الادراك والوعي وبغير تعالق صفة الثبات في الشيء مع الزمن الادراكي له يتعذر علينا حصول ادراك عقلي له حسب كانط...

أن الزمان متغير في سيرورة دائمية وليس ثابتا في أدراكه الاشياء في حركاتها وانتقالاتها المكانية، بالحقيقة أن العقل يدرك الاشياء والاجسام زمانيا في كل أشكالها الانطولوجية مكانا في حالتي ثباتها وحركتها معا، عليه ليس صحيحا أفتراض أن الزمان لا يدرك من الاشياء سوى الثابتة غيرالمتحركة ولا المتغيرة..أي تلك التي تجعل من الثبات عند كانط عامل حسم في المجانسة التي تفترض ثبات الشيء مع ثبات أدراكه زمانيا..كما نجد أنفسنا ملزمين في التساؤل كيف يكون الزمان ثابتا وكيف نتأكد من ذلك؟ الضرورة البدهية التعالقية بين الادراك الزماني العقلي وبين الاشياء في وجودها المكاني تقول منطقيا أن الزمان متغير بدليل امكانية ادراك العقل للاشياء في الحركة والتبدلات المكانية لها وانتقالاتها وفي مختلف تجلياتها الانطولوجية والعقل لا يدرك الاشياء ثابتة ويعجز عن أدراكه الاشياء المتحركة.

وبعد تسليمنا أن الزمان لا يتبع ثبات الشيء مكانا كي يستطيع أدراكه عقليا، فالموجود مكانا لا يمكننا أدراكه من غير ملازمة الزمان المتغير له..فالموجود مكانا يتبع الزماني في عملية الادراك وليس العكس....كما ليس مهما ثبات الشيء مكانا كي يكون متاحا أدراكه زمانيا..فجميع الاشياء والاجسام والموجودات في حركاتها وتغييراتها هي ثبات أدراكي زمني للعقل، وما يبدو لنا تفريقه ثابتا أو متحركا أنما يكون في أدراكه الزماني العقلي ثابتا، رغم كونه في حالة الحركة والتغيير..أننا ندرك حركة الزمن في حركة الاشياء ولا ندرك الاشياء الا في حركة الزمن الراصدة لها، فالزمن وسيلة حدس غير مرئي لا كماهية ولا كموضوع.

كانط يعتبر ثبات الزمان مرتهن بعدم أمكانية وقابلية العقل أدراك الزمن بذاته أي ماهيته، على أعتبار أننا ندرك الزمان على أنه سلسلة من التعاقبات الحدسية الدائمية المطلقة التي نلحظها في أدراكنا الاشياء في ثباتها المكاني وفي انتقالاتها وحركتها. أي أدراكنا للزمن كماهية أنما يكون أستدلاليا في نتائجه الادراكية للاشياء، فالزمان ليس موضوعا أدراكيا للعقل وأنما هو وسيلة أستدلال معرفة الاشياء..

لذا نجد كانط كي يخلص من التناقض البادي الواضح في التفريق بين ثبات وجود الاشياء مكانا من جهة، وأستحالة أدراكنا الزمن عقليا كمدرك وجودي موضوعي من جهة أخرى، قال نظريته الفلسفية أن قالبي المكان والزمان حدسان فطريان مركوزان في تركيبة عقولنا، ومن غير تلازمهما لا يمكن للعقل والحواس أدراك وجود الاشياء في العالم الخارجي، وهذا التلازم بين الزمان والمكان يشبه تعالق الفكر باللغة، فنحن لا يمكننا التفريق بين تلازم الفكر واللغة الا أفتراضا، وفي حقيقتهما هما أفصاح واحد في التعبير عن الشيء في لحظة أدراكه والوعي به....كذا الحال في أدراكنا الشيء مكانيا- زمانيا أنما هو في حقيقته أدراك واحد لشيء محدد في لحظة واحدة ، وما يدرك مكانا أنما هو في حقيقته مدرك زمانا.

كانط في فرضيته عن الادراك العقلي للاشياء في كتابه نقد العقل المحض، تجّنب الخوض في مبارزة مع المنطق الفيزيائي العلمي في كيفية حصول الادراك الفيسيولوجي العقلي، بدليل أنه تناول تفسير أدراك العقل المحض فلسفيا وليس علميا،أي أنه طرح قضية الادراك العقلي تجريدا فلسفيا ولذا أختار تعبير (العقل المحض) أي العقل المتجرد عن التجربة العلمية وقوانين الفيزياء، والدليل الآخر أنه أعتمد قالبي الزمان والمكان كمعطيين فطريين مركوزين في العقل، وهو ما يتحفظ عليه العلم التسليم به..فمن يستطيع أثبات أن المكان والزمان هما معطيان فطريان في العقل غير مكتسبين بالتجربة والخبرة؟ فالوعي بالشيء لا تأتي معرفته بالفطرة المعرفية بل بتراكم الخبرة المكتسبة.

كانط يذهب الى أن مجانسة ثبات الموجودات مكانا مع ثبات الزمان الادراكي لها هو الذي يتيح للعقل أدراكه الاشياء،وبغير هذه الآلية في مجانسة الثبات بين الزمان والموجودات الواقعية لا يتوفر أدراك عقلي لها..كما نستنتج عن كانط ايضا أن الموجود المتحرك مكانا لا يدركه الزمان الثابت، فلكي يتم أدراك الشيء في وجوده المكاني يجب أن يكون تعالق تجانس ثباته مع تجانس ثبات الزمان. فهل معنى هذا أن الزمان لا يستطيع أدراك الاجسام والاشياء المتحركة التي لا تتسم بالثبات؟ قطعا يكون الجواب كلا..

أن حركة الزمان المتغير أنما هي ادراك مطلق للمكان في جميع تجلياته وظواهرة المتبدلة المتغيرة...عليه يمكننا القول بخلاف كانط أن الموجودات والاجسام هي في وجودها الانطولوجي أنما هي حالات من الحركة المستمرة والتكوينات والعلاقات المتغيرة فيزيائيا على الدوام، وحالة الثبات التي أعتبرها كانط ضرورية لادراك الزمن العقلي لا وجود حقيقي لها في ملاحقة وتزامن الادراك الزماني لحركة الاشياء كما هي في ثباتها ولا فرق بين الادراكين(الثابت والمتحرك) ادراكا زمانيا سوى بالتعبير اللغوي فقط فهما فعالية مركبة واحدة متكاملة ذاتيا ..ما يدرك مكانا هو مدرك زمانا ويجوز أستعارة التقديم والتأخير لنتيجة واحدة..

ليس سهلا التسليم مع كانط أن (ثبات) الزمان وهو أفتراض خاطيء فالزمن متغير، يستتبعه بالضرورة الادراكية العقلية ثبات الموجودات مكانا،كما لسنا ملزمين الاخذ بفرضية كانط بأن الوجود الحسي المادي للاشياء يتعذر ادراكه مالم تكن تلك الموجودات مشتركة في مجانسة الثبات مع الزمن الادراكي الثابت لها..الزمان متغير مطلق يحكم العالم في جميع اشكال وتكونات وسيرورة مكوناته.

كانط يوقعنا بلبس وأرتياب حين يعتبر أن الزمان لا يطال أدراكه سوى ظواهر أو صفات الاشياء الخارجية الثابتة البائنة وليس ماهياتها وجواهرها الدفينة (نومين). وهوتعبير صحيح لكنه لا يصلح للاستدلال به في تصويب نقيضه عندما نجد أن أبسط ذرة في الطبيعة الى أعقد ظاهرة في الكون هي ليست ثابتة بأي معنى أو شكل فيزيائي كما يشترط كانط كي يتم أدراكها زمانيا عقليا..فالعالم بمجمله حركة وليس سكونا حتى على مستوى موجوداته وتكويناته في الذرة..

 

علي محمد اليوسف/الموصل

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم