صحيفة المثقف

الكمال الأخلاقي ومدارج الخلود (2)

اكرم جلالبين محدودية الوجود الأنساني واللامتناهية في الوجود الكوني

قدّم رينيه ديكارت (1596 –1650)، صاحب المقولة الشهيرة: أنا أفكر، إذًا أنا موجود؛ الفيلسوف وعالم الرياضيات والفيزياء الفرنسي أطروحاته ورسم منهج في الفلسفة أقامه على أساس أسلوب التفكير الرياضي والهندسي. حيث وضّح هذه الرؤية من خلال ما يُعرف بقواعد المنهج الأربعة (البداهة، التحليل، التركيب، والأحصاء) والتي حددها في كتابه (مقال عن المنهج).

لقد بدأ ديكارت ومن سار على نهجه العصر الحديث بتحوّل في المنطق الأرسطي الذي يتبنى منهج الحمليّة، الى المنطق الرياضي الحديث والذي يعتمد على منطق العلاقات، وأنّ اللزومية الشرطية أو الانفصالية أو العطفية أو حتى التركيبية هي أدوات التفسير المنطقي الذي يسود العلاقات بين هذا الشيء أو ذاك، وأن الوجود لا يوصف بالواحديّة بل تعدديًّا، وذهب الكثير الى اعتبار أن جميع الفلسفات التي تعتمد العلم والعقلانيّة عليها أنْ تُسلّم بالتعدديّة في وصف الوجود.

ثم كان لمجئ برتراند رسل  (1873-1970) B Russell أثراً مهما من خلال وصول الفلسفة الذريّة المنطقية الى ذروتها، فقد مثّلت عصر إكتشاف العلم للماهيّة الذرية، وبذلك فإن النظرية الواحدية فقدت وَهَجَها ومقبوليّتها لدى الكثير من الذين يعتبرون الوجود عبارة عن مجموعة من الوقائع والحقائق التي ترتبط مع بعضها البعض بعلاقات.

والوقائع Facts هي أشياء لها كيفيات محددة وترتبط بعلاقات معينة، والواقعة الواحدة مبنيّة على أساس الذرية المنطقية، فالذرة هنا يمكن إدراجها على أنّها الشيء الكائن المحدد وفي الوقت المحدد، أي انّ له طبيعة زمانيّة ومكانيّة. وقد ترتبط واقعتان أو عدّة وقائع ليكون التصوير المبني لهذه المجموعة من الوقائع هو المنطق الجزئي.

وبناء على ما تقدم نستطيع القول أنّ هناك مرحلة انتقال جَرَت في فلسفة الوجوديات بَدَأت باعتبار الجوهر الأرسطي هو الأصل في المقولات الأرسطية وأنّ الزمان والمكان عنده هما أعراض للجوهر الواحد، الى مرحلة اعتبار الزمان والمكان هما الأصلان.

وبغض النظر عن الأتجاه، فلقد أتفق علماء وفلاسفة العصر الحديث علی أنّ الزمان والمكان هما القالب الذى فيه قد صُبّ هذا الكون (Cosmos) بأكمله وبشكل غاية في التناسق والأنتظام يفوق حدود التصور والخيال، وأن المادة في هذا الكون المترامي الأطراف تتحرك ضمن حدود الزمان والمكان اي تسير عبر المكان وخلال الزمان.

ثم أشار الفيلسوف اليوناني هيراقليطس ( 535 ق. م – 470 ق. م) قديماً الى انه لا يوجد شيء خارج حدود الزمان والمكان بقوله "لا شئ فى هذا العالم يستطيع ان يتجاوز مقاييسه، وهذه المقاييس هى الحدود المكانية والزمانية" .

أما الفيثاغورية فقد رأت أن العالم قد وجد أصلاً بفضل ماله من حدود زمانية ومكانية على أن مقولة «لا جديد تحت الشمس»، بغض النظر عن قائلها، إنّما هي دورة مقفلة بلا تطوّر أو تعبير واقعي، وهو كلام يجانب الحقيقة والواقع، بل ولا يتناسب مع النظرية الهيرقليطيسية،حيث أنّ كل ما تحت الشمس هو خاضع لنظام الصيرورة الكونيّ، أضف الى ذلك الحقيقة الواقعة التي أشار اليها ثيوكاريس كيسيديس في كتابه:  هيراقليطس - جذور المادية الديالكتيكية، مِنْ أنّ  الشمس ذاتها أيضاً متجددة، كما قال (ليست فقط جديدة كل يوم، بل هي جديدة في كل لحظة).

والحقيقة كما أشار اليها الفيلسوف هيراقليطس وهي ما من وجودٍ يبدأ من العَدَم، ولا من عدم ينتهي إليه الوجود. وعليه فحركة الكون هي حركة فعّالة متجددة، وأنّ الزمان والمكان فيه غير محدد بنهاية.

وفي جملة ما نقله افلاطون في كتابه: آخر أيام سقراط، وفي ص69، ما قاله سقراط عند دفاعه أمام المحكمة التي أدانته: (لا يوجد أي إنسان يعرف ما إذا لم يكن الموت أعظم بركة يمكن لها أن تحل على الأنسان، لكن الناس تخشاه وترهبه، كما لو أنهم كانوا واثقين من أنه أشد الشرور وأكثرهم وبالا. إن هذه الجهالة هي التي تعتقد أنها تعرف مالا تعرف.. ولما كتا لا أمتلك أية معرفة عما هو أت بعد الموت فأنا لا أمتلكه، لكنني أعرف حق المعرفة أنك إن تظلم لهو شر وخزي وعار).

وللبحث تتمّة في الأجزاء القادمة إن شاء الله تعالى

 

د. أكرم جلال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم