صحيفة المثقف

لغةُ المَجَازِ

مجدي ابراهيم(11)

ليس بعجيب أن تجيء لغة الخطاب لدى الصوفي مسكونة بتجربته، بتجربة صاحبها العارف: وَلْهَى كما هو وَالِه، خاصَّة مقدار خصوصية هذه التجربة، غريبة غرابتها، سكرانة بوعيه الروحي غير العادي، مُنتشية بنشوته الروحية وَفَرْط عذاباته مع الواحد.

ولم يكن النوابه الذين أشاروا إلى اكتشاف الصوفي العارف لحقيقته الأصلية بالأمر الذي ينأى عن اكتشافه للغته الخاصة أيضاً.

هنالك يكتشف العارف (الصوفي):" لغة كونيِّة تعبِّر عن المُطابقة بين اللامنتهي (المعنى) والمنتهي (الصورة). وهذه لغة تتكلم دون وساطة العقل. إنها لغة تخطف القارئ؛ تنقله إلى اللامنتهي؛ فكما "يَسْكَر" الصوفي، تَسْكَرُ لغته. إنه يخلق لِلّغة نشوتها الخاصَّة في أفق نشوته. لا يُعبّر عن نشوة الإنسان إلاّ لُغة منتشية هى أيضاً. يجب أن تخرج اللغة هى أيضاً من نفسها كما يخرج الصوفي من نفسه. هذه اللغة السَّكْرى هى لغة المجاز".

فإذا كنا ذكرنا فيما سبق أن  التشابه هو بالطبع:" الأساس الدائم للمجاز أو الاستعارة أو المماثلة"؛ إذ يَبْرُز أساس المجاز كونه يأتي لنقل كلمة عن مدلولها الأصلي (الحقيقي) إلى مدلول آخر لعلاقة المُشَابَهة أو غير المُشَابَهَة، فتجيءُ "المعاني الإضافية" مُرتبة في نفس صاحبها لتخرج بدقائق الكلام من باطن النفس إلى ظاهرها اللفظي مع ما يُضَاف إلى هذا كله من تخريج ذوقي هو أساس علم الإشارة الصوفية؛ فإنَّا لنميل إلى القول هنا "بالمجاز المُجمل"، وهو كما عرفَّه الجرجاني:" ما خَفِيَ المُراد منه بحيث لا يدرك بنفس اللفظ إلاّ ببيان من المجمل سواء كان ذلك لتزاحم المعاني المتساوية الأقدام، كالمشترك؛ أو لغرابة اللفظ، كالهلوع، أو لانتقاله من معناه الظاهر إلى ما هو غير معلوم. فترجع إلى الاستفسار ثم الطلب ثم التأمل (التعريفات: ص180).

ومعنى "المشترك"؛ فيما يقول الشوكاني، هو اللفظة الموضوعة لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعاً أولاً من حيث هما كذلك، فخرج بالوضع ما يدل على الشيء بالحقيقة، وعلى غيره بالمجاز وخرج بقيد الحيثية المتواطئ؛ فإنه يتناول الماهيات المختلفة لكن لا من حيث هى كذلك بل من حيث إنها مشتركة في معنى واحد .. هذا عن اللفظ المتواطئ. واختلف أهل العلم باللغة في اللفظ المشترك، فقال قوم إنه واجب الوقوع في لغة العرب، ومنع وقوعه آخرين، وقالت طائفة بجواز وقوعه. وما يعنينا نحن إلاّ الذين أوجبوه؛ لأن الألفاظ متناهية والمعاني غير متناهية. والمتناهي إذا وزِّع على غير المتناهي لزم الاشتراك، ولا ريب في عدم تناهي المعاني (إرشاد الفحول، ص19).

ولمَّا كُنّا نكتب في ميتافيزيقا اللفظ المفتوح تمهيداً لقراءة الخطاب الصوفي، فقد تقرَّر عندنا ما كان الجرجاني قد قررَّه سلفاً من "مجاز مُجمل" مفاده: انتقال اللفظ من معناه الظاهر إلى ما هو غير ظاهر ولا معلوم، والأخذ بمعنى الاشتراك فيما جوَّزه علماء اللغة على ما قال الشوكاني.

إنّ عبد القاهر الجرجاني الذي وضع في كتابه "دلائل الإعجاز" علماً مستقلاً من علوم البلاغة هو علم المعاني فَبَيَّنَ أصوله وصور فصوله وحدودها وشُعَبها تصويراً دقيقاً؛ بمقدار ما وضع في "أسرار البلاغة" نظرية البيان، ليقول إن "المجاز" عمل عقلي لا عمل لغوي، وإن حُسْنه من المؤكد يرجع إلى المعاني الإضافية التي يلاحظها الحاذق البصير في تراكيب العبارات وصياغاتها وخصائص نظمها وصور نسقها وسياقها؛ وإنه لا بد أن يُفْهَمَ في كل مجاز معنى الكلمة ومعنى ثانياً وراءه، وإنك إذا قلت "كلَّمْتُ أسداً" لم تكن فقط بصدد عمل لغوي، وإنما أنت بصدد عمل عقلي داخلي، فقد تصرَّفت بالكلمة تصرفاً جديداً وهو تصرف أسعفك به العقل؛ إذْ لم تُطلق المشبه به على المشبه إلا بعد ادعائك دخوله في جنسه. فالأساس في المجاز هو نقل كلمة عن مدلولها الأصلي (الحقيقي) إلى مدلول آخر لعلاقة المُشابهة أو غير المشابهة.

فمرجوع الجمال من ثمَّ في الصور البيانية من المجاز والكناية والاستعارة لا إلى مدلولاتها ومضامينها، وإنما إلى تلك المعاني الإضافية فيها؛ أي ترتيب معاني الكلام الإضافية في نفس صاحبها أولاً ثم الخروج بدقائق الكلام من باطن النفس إلى ظاهرها اللفظي. ولما كان المجاز من أسرار العربية فقد وصفه ابن قتيبة في "تأويل مٌشكل القرآن" حيث قال:" وللعرب المجازات في الكلام ومعناها طرُق القول ومآخذه، ففيها الاستعارة والتمثيل والقلب والتقديم والتأخير والحذف والتكرار والإخفاء والإظهار والتعريض والإفصاح والكناية والإيضاح ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الاثنين، والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص ...".

وخليقٌ بالمطلع على هذه المباحث أن يتقرَّر عنده ما كان تقرَّر سلفاً لدى علماء العربية من أن أسرارها لتكمن في المجاز والكناية والاستعارة: المعاني الإضافية، وأن ألفاظ اللغة على حضورها وحلاوة تذوقها لترتد إلى باطن النفس شعوراً وتذوقاً وصدوراً، وأن جمال الكلام البليغ ونظمه وما يترتب فيه ليتأتى وفق ترتيب معانيه في النفس الشاعرة بانفتاح اللفظ من واقعه ومحسوسه إلى حيث فضاءاته الروحانية والذوقية. وهذا هو المقصود عندنا بــ "ميتافيزيقا الألفاظ المفتوحة". إنما الألفاظ في ذاتها من حيث هى ألفاظ مٌجَرَّد أحجار، تتحوَّل إلى كريمة بمقدار ما تتحول في النفوس كرامة المعنى لتحَمِّلها المعاني، وبمقدار ما تستشعر القلوب كرامتها وعزتها لينظمها اللسان من طريق الذوق والمعرفة والحَصَافة والإدراك في سياق هادف.

ولغةُ المجاز هذه هى لغة الخطاب الصوفي صادرةً عن "المواجيد" كونها "حالة"؛ كما قال ابن خلدون حين تكلَّم عن الكشف الصوفي وإعطاء حقائق العلويات، لا يمكن التعبير عنها؛ لأن اللغات لا تعطي دلالة على مُراد الصوفية في عباراتهم؛ لا لشئ إلا لأن كلامهم صادر عن وجدان. وفاقد الوجدان بمعزل عن أذواقهم فيه، وإذا كانت اللغات لا تعطي دلالة على مرادهم منه، وكان أكثر كلامهم في الكشف وترتيب صدور الكائنات من نوع المتشابه؛ فلأنها (أي اللغات) لم توضع إلاّ للمتعارف وأكثره من المحسوسات. والعبارة عن "المواجد" صعبة لفقدان الوضع لها.

من هنا، صار لعبارات الصوفية في الغالب معنيان، أحدهما يُستفاد من ظاهر الألفاظ، والآخر بالتحليل والتعمق والتدقيق. وهذا المعنى الأخير يكاد يستغلق تماماً على من ليس بصوفي، ومن ثم ظهرت لديهم خَاصِّية الرمزية في التعبير، والأساس فيها المجاز.

وكما يكون المجاز هو أساس اللغة الصوفية كونها مسكونة به يكون أساس الإبداع والتفرد والامتياز وتكون اللغة الصوفية، لغة التجربة الحيّة، كذلك هى لغة ابداعية من طراز ممتاز.

قلنا في المقال السابق أن أحدهم وقف أحدهم عند قوله تعالى: (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)؛ فقال: إنما قال تعالى ذلك؛ لكثرة "الوجوه المَبْطونَة في الكلمات"، واقتضاه هذا أن يفرِّق بين "الفهم" و"العلم"، وذلك لإمكان القول إن الفهم في الكلام على قسمين: أحدهما، مكتسب من مادة. والآخر: موهوب من غير مادة. فالذي وُهب من غير مادة لا يُقال فيه فهم، وإنما يقالُ فيه علم.

وأما المكتسب من المادة، فهو الذي يقال فيه "فهم"، وهو تعلُّق خاص في العلم. والذي وقف هذه الوقفة المُلهمة كان أميِّاً لا يكتب ولا يقرأ، وكان يتكلم على معاني القرآن العظيم والسّنة المشرفة كلاماً نفيساً تحيَّر فيه العلماء، وكان محل كشفه ـ كما يقول تلميذه عنه ـ اللوح المحفوظ عن المحو والإثبات، فكان إذا قال قولاً لا بد أن يقع على الصفحة التي قال …؛ هو الشيخ "عليّ الخواص" شيخ الشعراني وأستاذه؛ وإنما أثبتنا هذا عن "الخواص" لئلا يتوهم متوهم أن العرفان بمعاني القرآن متوقف على آلة النظر بالعقل، فهذا جهل بالله، وتحجيرُ على قدرة الله الذي يقول للشيء كن فيكون.

فالعلماء الذين يتشدَّقون بالعقل ما لهم آلة لفهم كلام الله تعالى إلاّ بالفكر والنظر. أما العارفون؛ فطريقهم إلى فهمه: الكشف والتعريف الإلهي؛ وممَّا يزيدك قناعة بفتوح الله على عباده هو أن تنظر إلى "عليّ الخواص" هذا الأمِّي الذي لا يعرف القراءة والكتابة، انظر إلى الثقة العلوية بما لديه من عند الله، وانظر إلى "الإبداع" الخالص الذي لا يعرف للتقليد طريقاً، وانظر إلى الخصوصيِّة والتفرُّد .. ماذا تراه يقول؟!:" لا يُسمى عالماً عندنا إلاّ من كان علمه غير مستفادٍ من نقل أو صدر، بأن يكون خضريَّ المقام. وأما غير هذا، فإنما هو حاكٍ لعلم غيره فقط، فله أجر من حمل العلم حتى أدَّاه، لا أجر "العالم"، (والله لا يضيع أجر المحسنين)؛ فمن أراد أن يعرف مرتبته في العلم يقيناً لا شك، فليُردَّ كل قول حفظه إلى قائله وينظر بعد ذلك إلى علمه، فما وجده معه، فهو علمه. وأظن أنْ لا يبقى معه إلاّ شيء يسير لا يسمى به عالماً (طبقات الشعراني، جـ2، ص137).

ما عبَّر عنه الخواص إنما هى "علوم الحقائق" لا تستفاد من فكر ولا نظر ولا عقل ولكنها علوم وهب وتوفيق، علوم أذكار لا علوم أفكار، وهى التي يعوَّل عليها في فهم "الوجوه المبطونة" في كلمات القرآن الكريم.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم