صحيفة المثقف

المتعلم وازدواجية القيم

محمد الورداشيتمثل القيمُ عنصراً مهما في البناء الحضاري لأي شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، لذلك ينظر إليها باعتبارها مجموع التصورات والتمثلات والاعتبارات التي يكونها الإنسان حول الأشياء والأفعال، ويصبغها بها، كما أنها تسدي خدمة كبرى للسلوك الإنساني من حيث ضبطُه وتوجيهه بناء على اعتبارات المجتمع.

ولعل هذا ما يجعلنا نفهم الأهمية الكبيرة التي توليها الشعوب والأمم لقيمها، والعمل على ترسيخها في نفوس الأجيال الصاعدة بمختلف الطرق والوسائل.

وقبل أن نتحدث عما يصطلح عليه ب "أزمة القيم" داخل مجتمعنا المغربي المعاصر، دعني أيها القارئ اللبيب أخبرك سرا، وهو أنني ترددت كثيرا في الكتابة عن موضوع القيم؛ لأن هنالك أناسا كثيرين قد تجشموا مسؤولية الكتابة عنه، تشخيصا وتحليلا، واقتراحا للحلول وسبل تنزيلها. كما أنني أدعوك إلى الانطلاق معي من الاعتبارات التالية:

1- أن القيمَ هي تمثلات وتصورات مجردة يتغير محتواها من مجتمع لآخر، ومن فترةٍ تاريخيةٍ لأخرى. ودونك مثالا عن قيمة الشجاعة في المجتمع العربي قبل الإسلام وبعده، فالشجاع هو الفارس المغوارُ الذي يحمل السيفَ في سبيل الدفاع عن قبيلته، في حين أن من يحمل سيفا، في مجتمعنا المعاصر، يعدُّ مجرما يجب ردعه ومعاقبتُه، والشيءُ نفسهُ يمكن أن تقوله عن قيمة الثأر أو الانتقام في المجتمع العربي قبل الإسلام.

2- أن القيم تطرح مشكلاتٍ كبيرةً أثناءَ محاولة تنزيلها؛ لأن لها تطبيقا يختلف من شعب لآخر، ودونك مثالا قيمة التسامح، فالشعب المنهزم في حرب ما يجد في تسامح المنتصر معه إذلالا له وشفقةً عليه.

3- للقيم خاصيةٌ أخرى، وهي توفرها على قدر كبير من المرونة والتغير حسب تغير الظروف الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والفكرية الثقافية لمجتمع ما.

وهكذا نصل إلى مأزق القيم في المنظومة التربوية...

نعم، هنالك مأزق تنزيل هذه القيم في منظومتنا التربوية؛ لأن التنظيرَ للقيم يكون مجردا مُعمما لا يراعي خصوصية كل المتعلمين واختلافاتهم، ولا طريقة تمثلهم لهذه القيم، وكذا تنزيلها في حياتهم اليومية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، ينبغي أن تسلمَ معي، أيها القارئ العزيز، أن ثمة تحولا خطيرا في الأدوار بين المؤسسات التعليمية والمجتمع. ففي ما مضى كانت المؤسسة التعليمية هي المتحكمة في توجيه المجتمع والتأثير فيه، لكونها تقدم له فردا سويا مفعما بقيمٍ يتمثلها فيترجمها داخل المجتمع، في حين أن الأمور انقلبت، فأصبح المجتمع يتحكم في المدرسة، ويؤثر فيها إن ضمنا أو مباشرة؛ لأن المتعلم يأتي مشحونا بطباع وقيم مغايرة، إما اكتسبها داخل أسرته، وإما في الشارع، وإما في الإعلام السمعي والبصري، وهنا ينقلب دور المؤسسة من فضاء لتنزيل القيم إلى الدفاع عن حرمتها، والتصدي لحمولات المتعلم القيمية، وبين الدفاع ومحاولة التأثير في المتعلم، تُهمل القيم، ويصطدم المتعلم بازدواجية في القيم مما يولد لديه صراعا بين ما اكتسبه، خارج المؤسسة، واطمأن إليه وما تعرضه عليه المؤسسة من قيم. كما أن ثمة تصادما يقع فيه، يحضر في اختلاف القيم من مادة دراسية لأخرى.

ونقترح حلولا...

لقد قُدمت حلولٌ ومقترحاتٌ كثيرةٌ ولا تزال، لكن وضع القيم يزداد سوءً يوما بعد يوم، لهذا ارتأينا تقديم اقتراحاتنا في ما يلي:

- العمل على جعل القيم مرنةً حتى تستجيب لخصوصيات المتعلمين واختلاف طبائعهم، وبدل أن نُخضعَ المتعلمين لقيم نمطية موحدة، نراعي اختلافاتهم ونقدم لهم القيم بشكل متنوع يتلاءم مع طبيعتهم النفسية،

- إخضاع الكتاب المدرسي للتمحيص والتنقيب عن القيم الضرورية للمتعلم في عصرنا الحالي، فمثلا، نجد قصائد شعرية تصور وتنقل لنا قيم الإنسان العربي البدوي؛ كالشجاعة، والكرم، والشرف، والغيرة، والحب... إلخ، ومثل هذه القيم جديرة بالتنزيل، في حين أنها، أي القصائد، تضم أيضا: الغزل، والثأر، وحب الغلمان، والخمرة، واللهو، والمجون...إلخ، ومثل هذه القيم لم يعد المجتمع المعاصر في حاجة إليها، لذا نقترح التركيز على القيم الأولى، فضلا عن القيمة الفنية الذوقية التي ينبغي ترسيخُها لدى المتعلم حتى يتذوقَ الفنَّ الشعريَّ وغيرَه من الفنون،

- تنزيل القيم بشكل تدريجي، بحيث يتم التركيز على القيم التي تجد لها سبيلا يسيرا لنفس المتعلم في المرحلة الأولى من مساره التعلمي، الابتدائي، ثم تليها القيم التي تناسب مرحلة التعليم الإعدادي، ثم التعليم التأهيلي، فالجامعي،

- الحرصُ على المواكبة في تنزيل القيم، كأن يعمل المدرس، في المرحلة الإعدادية، على مواكبة ما رسّخه غيره في المرحلة الابتدائية، والشيء نفسه ينسحب على المراحل الأخرى،

- المزاوجة بين قيم الأصالة والمعاصرة حتى يتمَّ التخفيف من حدة الصراع بين القيم الموروثة والقيم التي يفرضها الواقع المتغير باستمرار،

- توظيف وسائل التكنولوجيا الحديثة، وتسخيرها لنشر القيم، وتنمية روح البحث العلمي في نفوس المتعلمين، ثم التعلم الذاتي،

- الانفتاح على المكتبات، والنوادي الثقافية، والمسارح، وتوظيف وسائل الإعلام السمعي والبصري، لترسيخ القيم؛ لأن المتعلمين يحتكون بها كثيرا، ولها القدرة على جذبهم والتأثير فيهم.

ويبقى الأهم...

إننا نرى أن الاهتمام بالقيم وتنزيلها ضروري لبناء فرد سوي، محب لمجتمعه وأفراده، ومساهم في ارتقائه وازدهاره، لكنا نؤكد على أهمية ترسيخ قيم الهوية العربية عامة، والمغربية خاصة؛ لأن تمثل القيم لدى المتعلم يجب أن ينطلق من هوية مغربية وعربية أصيلة، ما سيكسبُه المناعة القيمية التي تؤهله للانفتاح على قيم الحضارة الإنسانية المختلفة والمتعددة.

وتظلُّ لنا كلمة أخيرة...

يبقى هذا مجردَ اجتهادٍ شخصيٍّ أرجو ألا يرهق القارئ؛ لأن للقيم مكانةً كبيرةً في حياتنا، وأزمتها وتقهقرها يدفعان بنا إلى اقتراح الحلول أكثرَ من تشخيص الأسباب وتِعدادها؛ لأنها كثيرةٌ ومعلومةٌ لدى الجميع.

 

محمد الورداشي.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم