صحيفة المثقف

مَن اللص؟

ناجي ظاهركان الجو هادئا هدوءًا تاما.. او شبه تام في اروقة المؤسسة وردهاتها، غير انه سرعان ما تبين انه اشبه ما يكون بهدوء العاصفة. خلال لحظات قلائل، خلال رمشة عين او.. اقل، اندفع مدير المؤسسة نحو ردهتها الفارهة، وراح يصرخ: لقد سُرقت. سُرقت المؤسسة. مَن السارق. الآن عليكم ان تعترفوا والا قلبت عاليها سافلها. ما ان انطلق صوت المدير يلعلع في اجواء المؤسسة شاقا سدف صمتها، حتى شرع الموظفون في التوافد واحدا وراء الآخر، وقد بدوا كأنما هم يخرجون من الجدران والسقوف.

كل هذا حصل وانا ارقب ما يحدث واحاول ان افهمه. عندما اتضحت لي الصورة دعوت صديقي مدير المؤسسة للهدوء، كي نعرف ماذا بإمكاننا ان نفعل، فارسل نظرة عميقة نحوي، تأملت شعراته القليلة المتوقفة المتمايلة مع رأسه، وارسلت نظرة مستفسرة إلى عينيه.. عميقتي الغور، وكان لا بد من ان اضع يدي على ظهره وان اطلب منه ان نعود إلى غرفته لنتمكن من معالجة ذلك الوضع الجلل الطارئ. عندها سار المدير وهو يدردب: انا بفرجيكوا. اليوم انا لازم القي القبض على اللص. اذا كنتوا بتفكروا انها الوكالة بلا بواب.. بتكونوا واهمين. واقسم ان يلقي القبض على اللص قبل انتهاء دوام العمل اليومي.

في غرفته اتخذ المدير مجلسه محاولا الهدوء. بعد لحظة غرس عينيه في عيني:

- من السارق حسب رأيك؟

- ما الذي حدث.. حدثني بهدوء لنعرف من السارق.. التوتر لا يعود بأية فائدة.

حاول المدير ان يهدأ، وسط شعوري ان براكين الغضب تغلي في عروقه، وروى حكاية طويلة مفادها انه توجه قبل قليل إلى خزينته المغروسة في جدار الغرفة وراء صورته الشخصية في المكتب، فتح الخزينة، ليجد ان ما فيها من اموال قد اختفى. وراح يندب سوء طالعه لأنه لا يعرف ماذا بإمكانه ان يفعل:

- حضّرت كل اشي عشان اتوجه للبنك، ولما فتحت الخزينة لاقيت ايدي والفراغ. قال.

- ماذا علينا ان نفعل الآن؟ سألته.

- الراي رايك. انا مش بوضع يسمحلي بمعرفة شو اعمل. رد بحيرة. وتابع: مش راح اسمح ولا لواحد منهم بالمغادرة قبل ما اعرف السارق.. واستعيد اموالي منه.

وعدتُ المديرَ خيرًا.. وخرجت من غرفته، رحت اتجول بين غرف المؤسسة، مارا من باب إلى آخر، وكنت استمع إلى اصوات جميع الموظفين وكأنها تحوّلت إلى صوت واحد وسؤال واحد.. لا غير هو: مَن السارق. وكنت كلما انتقلت من باب إلى آخر علا السؤال وازداد الحاحًا. حدث هذا في البداية الا ان السؤال ما لبث ان تحول إلى نوع من الاتهام.. هذا الموظف الجديد.. قلنالكوا يا عمي بلاش ندخل موظفين جدد للمؤسسة.. بدكوش الا تدخلوه.. وهذه هي النتيجة.. يللا تحملوها.

بعد جولتي هذه.. عدتُ إلى غرفة المدير لأجده وقد ازداد توترا. فتحت الباب ودخلت. لاحظ المدير على وجهي ظل ابتسامة فسألني:

- خير.. صار اشي جديد؟

- الموظفون يوجهون أصابع الاتهام إلى الموظف الجديد. اجبت. بدا ان المدير عثر على خشبة النجاة فطلب مني ان ادعوه إلى مكتبه على جناح السرعة.. وقبل ان يهرب. توجهت الى غرفة الموظف الجديد وطلبت منه ان يحضر إلى غرفة السيد المدير، فنهض من مجلسه وتبعني من فوره. دخلنا غرفة المدير. وقف المدير على قدميه. وتوقفنا انا ومرافقي قبالته. قدحت عينا المدير شررا وسأل الموظف الجديد:

- مين اللي سرق الخزينة في رايك؟

ابتسم الموظف الجديد:

- ومن اين اعرف.. هذا هو اليوم الاول لي في المؤسسة.. انت ادرى مني..

تزايد تطاير الشرر من عيني المدير، ومن اطراف بدلته الباذخة:

- فعلا انا ادرى.. ولأني الأدري قررت اني افتشك..

ما ان نطق المدير بهذه الكلمات حتى رأيت الموظف الجديد يتراجع إلى الوراء:

- لن اسمح لاحد بتفتيشي.

- ليش يا حبيب امك؟ سأل المدير وكأنما هو عثر على السارق.

- لأني مسرقتش الخزينة.. قال الموظف. وتابع: اذا كان لا بد من تفتيشي.. خليه يكون لجميع الموظفين.. من اقصاهم الى ادناهم.

راقت الفكرة للمدير وشعرت ان شيئا من هدوئه المفتقد عاد اليه:

- موافق. قال واضاف، اكيد رايحين نفتش الجميع. وتناول المدير معطفه من على المشجب القريب منه. ارتداه وخرجنا إلى ردهة المكتب. وقف المدير في فتحة الباب وشرع بتفتيش الموظفين واحدا تلو الآخر. عندما وصل اخيرًا الى الموظف الجديد لمعت عيناه كمن تأكد ان هذا الموظف هو السارق، والا لماذا هو احتال ليكون الأخير؟، اقترب المدير من الموظف الجديد وهو يغرس عينيه فيه من اسفله الى اعلاه ويتمتم:

- اسه اجى حبك للطاحونة.

- انا مش راح اسمحلك تفتشني إلا اذا وافقت انت على اني افتشك. قال الموظف.

افترشت وجه المدير ابتسامة عريضة كأنما هي من عالم آخر:

- موافق.. بس تعال قرّب.. يا لص.

اقترب الموظف الجديد من المدير، قام هذا بتفتيشه تفتيشا مدققا. لم يجد شيئًا. ابتسم الموظف الجديد وتوجّه إلى المدير طالبا منه ان يسمح له بتفتيشه. استسلم المدير للتفتيش، وما ان وضع الموظف يده على جيب معطفه الاكبر حتى سأله ما هذا؟ .. عندها لطم المدير جبينه بيده. وسقط ارضا. حملنا المدير إلى غرفته وهو غائب عن الوعي. هناك رششنا وجهه بالماء والكولونيا.. ففتح عينيه.. وطلب مني ان أخرج الجميع من غرفته.. طلبت من الموظفين مغادرة الغرفة.. بعدها اتضح كل شيء.. المدير وضع النقود في جيب معطفه.. في الصباح ونسيها بعدها.. وها هو يقف موقفًا حرجًا لا يحسد عليه احد.. فكيف اذا كان مديرا بمقامه العالي..

 

قصة: ناجي ظاهر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم