صحيفة المثقف

الصباح ذاته

قصي الشيخ عسكرالقسمان (6 و7)

من رواية: كورونا


هو الصباح ذاته.

وجهي نفسه.

المرآة.

أتابع المذياع باهتمام أو لا مبالاة:

525 حادثة وفاة بسبب الكورونا.وإصابتان في الإمارات.

مقدم البرامج الشهير ستيف يعترف أنه gay . الخبر يفاجيء زوجته وأولاده.

سقوط أربعة قتلى في الناصرية ومجموع الضحايا في العراق يصل إلى 800 قتيل.

وصلت البارحة متأخرا.هناك ازحام فظيع في الشوارع.المسافة من مكان عملي إلى شقتي تستغرق نصف ساعة.قطعتها الحافلة بساعة ونصف.كنت آمل تلك الليلة أن أتمتع بمشاهدة سباق التزلج على الجليد، لكن البلدية أغلقت الجسر الكبير بعد الظهر لسبب لا أعرفه، فازدحمت الطرق، وَحُرِمْتُ لذة متابعة رياضتي المفضلة.وحين وصلت الشقة، أعرضت عن البراد واكتفيت بكأس شاي.كانت أمي قد حسبت حسابها لطعامي خلال الاسبوع الأول.فعملت لي عدة وجباتٍ تكفيني حتى نهاية الاسبوع، محشي.. بركر.. بروستد.. قيمة ثمَّ دسَّت كل وجبة في علب بلاستك.ولم تغفل أن تكتب على كل علبةٍ ما تحويه من طعام. لا تنس أن تسخن الطعام، وتهمس لنفسها:قلوبكم من صخر والله.كان عملي في نوتنغهام مرثية تتلجلج في نفسها.أنشودةحزينة تخصّها وحدها.. بعد زواج أختي الكبرى آمال ورحيلها إلى السويد مع زوجها ثم رحيل أخي صبيح مع زوجته الأرجنتينية إلى لندن، وجدتْ فيّ أنا واسطة العقد وفي أختي طموحها.

تخاف أن تقضي بقية عمرها في دار للعجزة.

ربما

يمكن أن يكون ذلك أحد هواجسها.

لا أظن أن هناك تفكيرا آخر يشغل ذهنها.

حتى عرفنا أخيرا حقيقة أمر جديد.أمر صمتت أمي عليه طويلا.

تأملت.

فكرت فيه.

ثمّ أخيرا رضخت.

أختي ماجدة تحبّ شابا باكستانيا.وتهددنا إن لم نوافق بخيارين، إما أن تنتحر، أو تضع يدها بيده ويرحلان إلى مدينة أخرى تحت حماية الشرطة.في البدء كانت مفاجأة لأمي.قالت أنظر لأختك مجرد أن بلغت سن النضج فكرت بالزواج من باكستاني.مثل الذي صام وطال صيامه ثم فطر بجرِّيَّة.أيعجبك هذا؟.المعلومات التي جمعتها عائلتنا عن شريف الباكستاني.أنه من لاهور.عائلة سنية غير متدينة."خدا حافظ يا أم شريف فقير الله" أقول لاختي ملاطفا.شريف.. "خدا حافظ".. شاب طيب خلوق.وعندما اجتازت أمي الصدمة قالت وماله السني.مسلمون مثلنا.لهم نفس القرآن. يصومون ويصلون إلى الكعبة على الأقلّ أفضل من أن تختار واحدا من الإنكليز، واستنكرت وهي تنصت باهتمام إلى بعض التفصيلات التي جمعناها عن عائلة شريف:ألم تتزوج خالتكم من إماراتي سني وكيل وزارة داخلية.. لديها ما شاء حفنة أولاد وبنت مثل القمر، والله لو كان بيدي..  لكني خائفة أن يكون لي أحفاد سمر البشرة غرباء عني.أنتم الآن أولادي خرجتم من بطني غرباء عني.

الواقع لم يبق لها من ورقة غيري.

لا تريد أن تغامر بي سواء في عمل خارج برمنغهام أم مغامرة غريبة كما فعل أخواي صبيح وماجدة.أما أختي آمال فقد قررت مصيرها واختارت السويد سواء وإن كان اختيارها بمباركة من الجميع وبرغبةٍ من عمّتي، ولوكان أبي حيا لما تغيّر أي شيء في حياتنا. أمي واصلت تربيتنا بعد وفاة أبي وجدتي التي لحقته بعامين.كنا أنا وصبيح نتعايش مع الحياة الإنكليزية أكثر من البيت. أصدقاؤنا في المدرسة إنكليز، وفي النوادي.. في البيت نضطر للحديث مع أهلنا بلغتهم ونعود نتراطن كما تقول جدتي وأمي.أحيانا يظنون أننا نحوك المؤامرات والمقالب ضدهم.أختي أم شريف الباكستاني حاليا كانت تلكزني وتضحك من أمي تخلط بين الp و b خاصة عندما تقول وهي تحاول أن تثبت أمامنا أن الإنكليزية لاتنقصها:

I bray

أو تقول لأبي وهو يقود السيارة:

هذا bark قريب من مكان التبضع.

فيهتف أخي صبيح:

أمي أنت بلبل!

مشكلة أمي مع حرفي p and b بالضبط مثل مشكلتي مع حرفي الضاد والظاء حين درست أيام العطل في المدرسة العربية لم أفكّر قط بالفارق بنيهما كلاهما عندي سواء بل تساءلت لِمَ لا يندمج الحرفان بعدئذٍ تجاهلت واكتفيت بالقراءة والكتابة من دون أن ألتفتَ لفاعل ومفعول ومنصوب ومجرور.أحيانا أستعمل خبثي وما أتعلمه في المدرسة فأسأل أمي:

ما الفرق بين ال town وال city

فيدهشني ذكاؤها:

الآن ذهني مشغول بألف شغل وشغل حين يأتي أخوك إسأله!

انتبهت إلى الهاتف النقال.

أين كنت؟ قلقت عليك.

في العمل أغلق الهاتف أوامر لا يسعني مخالفتها، واليوم كان الجسر الكبير معطلا لبعض التصليحات فوصلت متأخرا ساعة ونصف عن موعدي.

تخريب؟

لا لا عطل ما.

هل تعشيت؟

نعم.

اسمع خالتك وصلت مع ابنتها لؤلؤة من الإمارات.هي في لندن الآن.ستكون يوم السبت عندي في البيت لا بدّمن أن تأتي!هل سمعت ما أقول؟

أخذتني المفاجأة:

ليس من عادتها زيارة لندن في الشتاء

تقول لديها مشروع لاترغب في تأجيله.

أدرك جيدا ما تبغيه امرأة في الخمسين تخشى أن يُلقى بها في دار للعجزة إذا ما أصبحت في السبعين، قد أتجاهل:

هل حضوري ضروري.

لن أرضى عنك إذا لم تحضر.هل أكلّف شريف أن يخدمهما؟

إلحاحها يجعلني أرضخ.

ألين .. .

أجاريها فأقول نعم وأعود إلى كأس الشاي.

7

أترك وجهي في المرآة والتفت إلى المذياع كأنني أبحر مع مشاهد حية أمامي:

كورونا العدد الإجمالي للضحايا يصل إلى 800 والصين تخصص عشرة مليارات لمكافحة الفايروس.

العاصفة تبدأ .. . بعد الظهر، مع احتمال تساقط ثلوج في مناطق يورك شاير.

قتيلان في الناصرية جنوب العراق، العدد يصل إلى ألف قتيل، ومتظاهرو بغداد يحرقون دمية للرئيس ترامب.

يبدو أن العالم في سباق محموم.. الكورونا في الصين.. والمظاهرات في العراق.

الناصريّة تسابق الصين.

أعود إلى النكتة السمجة القديمة:

هل مدينة جدي شجرة خبيثة كما تقول النكتة؟

المظاهرات الآن.. ومن قبل الحزب الشيوعي. البعث. الدعوة. مصطلحات لا تعنيني، This is not my problem ويوم صحبت والدي في بعض الجمع إلى المركز الإسلامي وسمعت بعض أصدقائه الطيبين أو الخبثاء وفيهم من كان معه في رفحاء يفتخرون أنهم من الشجرة الخبيثة.شَكَرهْ.. .أحد الممازحين يهزّ كتفيه ويحاكي المصريين، الحاج محسن طفيل اللبناني شريك أبي، في محل الفاكهة والخضار يعقب وهو يمتدح الشاي الذي عملته له أمي:

والله إذا كانت الشجرة الخبيثة بمثل هذه الأمانة والمفهومية فنعم الشجرة.

فتردّ أمي المفترض أنها لاتعرف الفرق بين ال pوb والcity والtown :

يعني فقط الناصرية خبيثة ألم يحارب الحبوبي الإنكليز منها يعني ياحاج أنا مع الحق ولو على قطع رقبتي ماذا تقول عن البصرة وتكريت وبغداد والموصل إليس هناك خبث؟فقط بالناصرية؟

أشعر أني دائما أدخل في عوالم لا أعيشها.

مثل ضيف يعرف متى يغادر مكانا لايرغب أن يبقى فيه طويلا لكن عليه أن يلبي الدعوة.. بعد ساعات، أذهب إلى الدوار أمارس لعبة التزلج على الجليد.وفي السبت أقصد المسبح. الكورونا تجري بسرعة هائلة، تصل إلى بريطانيا. بعض الإصابات، ومعها أجد نفسي في زحمة الطريق.

هذا الصباح ركبت الحافلة، وحين وصلت شارع " Robinhood way" التحقت بطابور طويل. كانت هناك سيارات من الشوارع الفرعية تشق الشارع الرئيس.الطابور يمتد إلى الوراء بمدى غير متناه.

لا داعي لأن أسال.

عاد خلل الجسر ثانية.

جلست متململا.

أشعر بضيق.

اتصلت من هاتفي النقال، فرد علي المدير بلهجته الغريبة:أعرف ذلك.. .مرّ أكثر من ساعة، كان كالم ينتظرني.وكانت هناك العاملة الجامايكية ميشيلة.لم يزد عدد التلاميذ عن أربعة.سيارة المركز وسيارات الآباء ماتزال عالقة في زحمة الطريق.لوجرت الأمور شأنها كل يوم لخرجنا هذا الصباح مع جوليا الفتاة الاسبرجر، وتركنا تايرون في المركز مع المدير وميشيلة.ننوي أن نشتري شجرة تفاح وأخرى أجاصا نزرعهما مع التلاميذ في حديقة المركز الخلفية بعدها نقتادهم إلى قن الدجاج حيث نجمع البيض.

لقد غيّر خلل الجسر الذي لا أعرفه ولا يفهم معناه كثير من الإنكليز حين أسالهم طبيعة عملنا.

لجأنا إلى خطة بديلة.. .

وفي لحظة غير محسوبة هبطت علينا من الطابق العلويّ حيث المتوحدون سمعنا صرخة حادة أطقتها ميشيلة فهرعنا أسفل السلم نستطلع الضجة. وجدنا المتوحدة "سبينا" الشابة الضخمة ذات العشرين سنة عارية .. تركض

تقهقه..

تركل جدار المدرجات وتراوح في مكانها

تصرخ تلتفّ على نفسها..

هتفت ميشيلة:

ماذا أفعل وحدي

وعقب المدير وهو يهز كتفيه:

حتى لو اتصلنا بالبلدية ليبعثوا لنا عمالا من مجموعة الاحتياط فإن طوابير السيارات ستعرقل وصولهم.

وعندما وجدت "سبينا "نفسها محاصرة من جهتي الدرجات في الأعلى والأسفل طوّحت بلباسها في الهواء ولم تكن لتتوقف عن الضحك الهستيري فتناثر فوق رؤسنا وعلى الجدران وفوق درجات السلم خراء أصفر غامق.صبغت دوائره ونتفه رقعة الممر والدرج وباب الصالون، وخلال لحظات جلست علىمنتصف الدرج تلطم رأسها بيديها، وفي عينيها يلوح بعض الغضب ورغبة في الزعيق والبكاء.ناداها كالم برفق:

Don’t worry everything will be ok

ترك المديرُ المعاقَ الاسبرجر بعهدة السكرتيرة وصعد الدرج حذرا ليكون مع ميشيلة، أما أنا وكالمُ فقد ارتدينا القفازات وقناعين، وراح كلّ منا يزيح ماتناثر من البقع عن جبين صاحبه وانشغلنا بالحيطان والممر، نمسح ونزيل بالمطهرات الروائح الكريهة:

لا بأس عليك ياصديقي شغلتنا متعبة وأظنك ستحبها في المستقبل. وأعتقد أنّ جاسمين ستحب عملك مثلما أحببته!

بصراحة لقد سرني العمل معك!

ستجد جاسمين لطيفة في تعاملها أيضا.

أتخيّل نفسي وأنا أرتدي القناع أني أحارب كورونا أنا في الصين الآن!

أووه كورونا!

حقا أرهقنا الشطف والتنظيف، وقد تناثر وصول العاملين فخف العبء قبل الظهر بساعة.غير أن طريق العودة لم يكن سهلا.طوابير السيارات، وبداية عاصفة.

ثلج ومطر..

جلست في الحافلة، ولو قضيت يوما عاديا لذهبت إلى المنزل.استريح قليلا، بعدها أغادر إلى مانشتسر.لكنّ علي أن أؤوجل سفري إلى الغد.يومي بدأ بتناثر كسر تثير القرف وها هو يحمل نتفا بيضاء ناصعة ولا أعرف كيف ينتهي.

مازلت في الحافلة.

الطريق متعب.

الهواء عاصف.

الثلج يصبغ الطريق بالبياض.

غثيان يداهمني حين اشعر أن رائحة كريهة تنبعث من جسدي الذي تلطخ بالخراء، وأن وجهي يثير قرف الركاب برائحة عالقة فيه، فلا يلتفتون إلى الطابور الطويل.

ولا إلى الوقت الذي يداهمهم، والثلج والزوابع.

يرن النقال.تقول والدتي أن خالتي تصل غدا بالقطار إلى مانشستر.، فأتجاهل أن أحدثها عن العاصفة كي لا أزيدها قلقا.فتنتهي المكاملة بنمط مألوف دائما من الوصايا.

تذكّرني بزيارة خالتي وابنتها المعهودة. فأعدها أني سأكون في مانشستر يوم غد قبل الظهر!

***

قصي الشيخ عسكر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم