نصوص أدبية

ناجي ظاهر: عودة رجل ميت

أهلي أحبائي. أبناء عشيرتي في سوريا، لبنان، الأردن ومصر. أريد أن أخبركم بهذا أنني فقدت يوم أمس ابني.. بكري بعد أن ربّيته ورعيته بنور عيني حوالي نصف القرن. ابني حبيبي نور عيني. رأيته يكبر يومًا بعد يوم.. شهرًا .. وسنة في أعقاب سنة. يا الله ما أصعب ساعة الفراق. قلبي يتمزّق. الآن بعد أن جاء الرجال وآوه في مرقده الأخير لم يعد أمامي من همّ سوى أن أرسل إليكم، أن أقول لكم إننا خسرنا زينة الشباب وضوّ البيت. مات هكذا بسرعة دون أن أفرح به، دون أن يخلّف أولادًا وبناتٍ يحملون اسمه ويحيون ذكره. ألا قولوا لي ألم يخبركم أخي الكاتب.. كاتب القصص ما غيره، بوفاة ابني المفاجئة القاصمة للظهر والقلب؟.. لقد طلبت منه أن يخبركم فاذا فعل كان ذلك لُطفًا منه.. وإذا لم يفعل ها أنا ذي أقوم بالمهمة، يهمني جدًا أن تعرفوا أن عائلتنا المعروفة برجالاتها وأبطالها الميامين نقصت أمس صخرًا آخر، لا يقل شجاعة وفروسية عن شقيق الخنساء. الشاعرة الجاهلية ما غيرها.

ابني صخر، هو إبني البكر، وقد أعددته كما توقعتم طوال الأيام والليالي لأن يليق بأن يكون واحدًا من عائلة الابطال، وكنت أشجعه وأرسله مثل رمح عربيّ أصيل، إلى كلّ مَن يتوجّع أو يطلق أنينًا من أبناء أسرتنا الصغيرة الباقية في أرض الوطن، بعد أن اضطررتم أنتم جميعًا الى مغادرتها مكرهين. اسالوا أخي الكاتب الهُمام، اسألوه كيف كان صخري، صخركم، ما أن يستمع إلى مَن ضايق إحدى بناته، حتى يلفّ كوفيته الفلسطينية .. كوفية إخوانه الملثمين، يلفها على رأسه وينطلق إلى هناك حيث مكامن الالم والتوّجع، وكيف كان يرفع من تسبّب لبنات اخي من قبّة قميصه، ويهتف به، بأي حق تدوس في أرضنا يا عدو الله. اسألوه كيف استمع ذات يوم إلى صرخة إحدى نساء العائلة، في بلدتها البعيدة، وكيف ما لبث أن اعتمر كوفيته وانطلق إلى هناك في تلك البلدة البعيدة، مغيثًا إياها ومستجيبًا لطلبها نجدته. سائرًا على طريق الخليفة العربي المعتصم صاحب السيف الصادق. يومها أغار على مَن تسبّب بإيلام قريبته مذكرًّا بحرب المعتصم ذاته في منطقة الاناضول. ومثيرًا الغبار بحوافر حصانه كما فعل ابطالنا العرب القدماء.

ابني زينة شباب المدينة، حاراتها وضواحيها، ابتدأ بطولاته بالسؤال عنكم، كان ذلك عندما سألني عن قِلّة أقربائنا في البلاد، " لماذا لا يوجد لدينا أقارب يا أمي مثل أصدقائي أبناء العائلات الكبيرة"، يومها حكيت له اننا من عائلة شريفة النسب طيبة المحتدّ، وأخبرته بكلّ ما أعرفه عنكم، وعن أبنائكم ممّن ضحوا بالغالي والرخيص ذودًا عن حياض الوطن.. حدّثته عن رجالاتنا الشرفاء، وعن مآثرهم التي تغنت بها الحوادي والركبان، وسردت عليه العديد من قصص أولئك الابطال. يومها قال لي" كفى يا أمي.. عرفت مَن أنا"، كنت أشعر أنني لست من ضيعة قليلة الشأن وها أنت ذي تؤكدين ما شعرت به طوال الوقت دون أن أجد له تفسيرًا مقنعًا. حكاياتي مع ابني بكري صخري.. لم تنته بانتهاء تلك الجلسة وإنما تواصلت، فترة طويلة من الزمن، وكنت أرى إليه كيف يكبر يومًا بعد يوم وسنة بعد سنة، بل إنني عرفت فيما بعد، أنه أخذ يُعدّ نفسه إعدادًا مُنظّمًا لأن يكون أحد ابطال العائلة وصناديدها المُجلّين. وكان أن جرى بيني وبينه نقاش لن أنساه ما حييت وما تنفست هواء بلادي.

أنا: لماذا تُرهق نفسك كلّ هذا الارهاق؟

هو(مقطبًا): أريد لكلّ أبناء عائلتي هنا في البلاد وهناك خارجها أن يرفعوا رؤوسهم.. لا أريد أن أرى مَن يخفض راسه أمام مفتئت أو ظالم.

يومها ربتّت على كتفه طالبة من المولى أن يوفّقه لما فيه خيرنا جميعًا، فأرسل نظرة تُشبه نظرة صقر.. تذكّر أمرًا كاد أن ينساه.. وقال لي هناك الكثير مما أريد أن أفعله. وصمت. منصرفًا إلى شأنه حتى لا أبالغ في سؤالٍ.. لا يريد أن يقدّم له جوابًا.

لم يكن صخر يعتدي على أحد كان إنسانًا مُسالمًا، لكن الويل لأي كان إذا ما داس على طرفه، أقول هذا وأنا أتذكّر تلك الحكايات التي أمست بين ليلة وضحاها حكايات يرويها الناس، من أهل بلدنا، في ليالي سهرهم وأوقات توتراتهم، وما زلت أتذكر قصة وقعت له أيام كان يعمل في إحدى البلدات اليهودية. لقد روى لي هذه القصة شهود عيان كانوا على مقربة منه.. هذه القصة تتلخّص في أن أحد أبناء عمومتنا شتمه بكلة "عرفي ملوخلاخ"- عربي قذر، فما كان منه إلا أن رفعه من قبّة قميصه عاليًا وعاليًا، هاتفًا به:" مي هملوخلاخ يا ملوخلاخ"، -مَن القذر أيها القذر. وضرب به الأرض فاهتزّت. أما ذاك المعتدي فقد زحف على الأرض القريبة وأطلق ساقيه للريح.

حكايات ابني صخر دخلت دفتر الصحافة العربية خاصة في البلاد، وكان ما يرفع الراس، ارفعوا رؤوسكم عاليًا، أنه لم يكن معتديًا في كلّ جولاته وصولاته، وإنما كان مدافعًا عن شرفه وشرف أهله. لهذا اعتقد أن الصحافة رأت فيه بطلًا ورجلًا شُجاعًا، يُعلي من شأن أهله ومجتمعه ويرفع راية القيم العالية والمبادئ السامية. وأذكر في رسالتي هذه إليكم بكلّ اعتزاز، أن روائيًا من بلادنا استمد من حياته وبطولاته شخصية روائية.. سمعت أن هناك مَن يفكر في تحويلها إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني.. لا أدري.. لكن بإمكانكم أن تتوقّعوا مُشاهدة هذا العمل الفني.. القريب منكم ذات يوم.

شجاعة ابني صخر وبطولاته هذه، ذاعت وانتشرت في طول البلاد وعرضها، وأدخلته في علاقات.. رفض مُعظمها، وكان أن ارتبط في أخريات أيامه بصبية تبيّن له بعد أن نشأت بينهما علاقة محبة، أنها مِن البلدة اليهودية المجاورة. بلدة ذاك النذل الملوخلاخ/ القذر، وربّما كانت أخته. هذه الصبية تمكّنت من دسّ السم له في طعامه، ليتناوله، ولتبدأ رحلته الأخيرة.. وقد أوصاني في لحظاته الأخيرة أن أكتب لكم وأن أخبركم بأنه حاول كلّ ما أمكنه أن يرفع راسكم.. بل أن يعمل من أجل عودتكم إلى البلاد.. وشدّ على يدي في ساعته الأخيرة قائلًا أكتبي إليهم.. قولي لهم إن البلاد تنتظرهم منذ سبعين عامًا ونيف.. أما أنا فإنني عائد يا أمي.

***

قصة: ناجي ظاهر

................

*اللوحة: مصطفى الحلاج التغريبة الفلسطينية جوهرا للإبداع.

في نصوص اليوم