صحيفة المثقف

في ذكرى رحيل محمود البريكان.. كاتم أصوات الكلمات

عبد الرضا عليمرّت في هذا الشهر الذكرى الثامنةَ عشرةَ لاغتيالِ الشاعرِ البصريّ الحداثي المجدّد محمود البريكان، وكنتُ راغباً في كتابةِ مقالةٍ نقديّةٍ جديدةٍ عن منجزهِ الشعريّ الباهر ـ الذي كان صانعه المغدور نفسه قد كتمَ أصواته، ولم يظهرهُ في مجموعةٍ، أو ديوانٍ مطبوعاً،ـ لكنّني حين عُدتُ إلى ما كنتُ قد كتبته بعد اغتياله في الثاني من شهرِ شباط(فبرايرـ 2002م)، وتمعَّنتُ فيه، وجدته قد استوفى أكثرَ الجوانب النقديّة التي يمكن أن تقال في منجزه الشعري المدهش، لذلكَ ارتضيتُ أن أكتفي به، فهو (كما أظنُّ) قمينٌ بالنشرِ في هذه الذكرى دون أيَّةِ إضافة تجعلهُ مترهِّلا..

***

أيّاً كانت دوافع جريمة قتل الشاعر الرائد محمود البريكان (سياسيّةً، أم اجتماعيّةً) وأيّاً كان القاتل (مؤسسةً أم فرداً) فإنَّ إيراد خبر ذبحه على سريره في البصرة كان بمثابة الصّاعقة التي حلّت في وجدان كلّ مثقّف واع، ولامست شغاف قلب كلّ مبدع يقاوم روح الشرّ، ويُعلي قيم الحريّة.

فلم يكن الرجل صاحبَ أطيانٍ، وأموال ليطمع فيه القتلةُ واللصوص، ولا حالماً بالألقاب والنياشين التي أغرتْ بعضهم فباعوا الوازعَ، والضمير، وتهافتوا على نيل رضا الدكتاتوريّة، واستجداء عطاياها بلا استحياء.

لا لم يكنِ البريكان من هذا الصنف، وحاشاه أن يكون، لأنهُ عاش زاهداً في كلِّ شيء، فلا الحاجةُ دنَّستْ قلمهُ الشريف، ولا الشهرة أغرته بالتعالي، ولاصخب الحياة منعهُ من تركِ صومعةِ التـأملِ،  والغوصِ في أعماق الحياة والموت، إنما كان كما يقول: (متعطّشاً على الدوام إلى شيء آخر) وهذا الشيء هو الشعر بوصفه إلهاماً يرى فيه ما لا يراه الآخرون.

لم يتحِ الزمانُ لي أنْ أتعرَّفَ البريكان شخصياً كما ينبغي، ولم أرهُ سوى مرةٍ واحدةٍ كانت في صيف سنة 1991م، حين شاركتُ في مؤتمر البصرة الإبداعي الأول الذي أقامته جامعة البصرة، واتحاد الأدباء فيها، وهو المؤتمر الذي جرى فيه تكريم أُستاذي العلامة المرحوم علي جواد الطاهر، فقد زار الفندق الذي نزلنا فيه ليرحب (كما أظن) بالدكتور الطاهر، وآخرين من أصدقائه، وجلسنا معاً في صالة الفندق التي كانت ضاجّة بالمدعوين والزوّار لدقائق، تحدّث فيها البريكان عن غبطته بقرار جامعة البصرة واتحاد الأدباء بتكريم الطاهر، وإنْ رآه تكريماً متأخراً، ثم غادر معتذراً بأدب جم، فقال الطاهر بعد مغادرته: (هذا واحدٌ السنابل الملأى) كناية عن ثقل ابداعهِ،  وتوكيداً لما عُرفَ عنه من تواضع.

1362 محمود البريكانوحين بلغني خبرُ الفجيعة عدتُ إلى سيَرِ الشعراء العراقيين الذاتيّة الموجزة التي جمعتُها لما يقرب من مئة شاعر وشاعرة، فلم أجد له فيها غير أسطرٍ قليلةٍ، وقصيدة واحدة.

أما الأسطر فلعلّي أوجزتها من معجم من معاجم الشعراء، وتتلخص في الآتي: (هو محمود داود سليمان البريكان، ولد في مدينة البصرة عام 1931م، وتخرج في كليّة الحقوق بجامعة بغداد، وعمل مدرساً للغة العربيّة في ثانويات بغداد والكويت، ثمّ فى معهد إعداد المعلمين بالبصرة إلى أنْ أُحيلَ على التقاعد أواخر الثمانينياّت)  أمّا القصيدة فقد كانت  (حارس الفنار.)

لكنّ الملفَّ الذي نشرتهُ (جريدة المؤتمر) عن الراحل في عددها 295الصادر في آذار 2002م بلندن، وما نشرتهُ (ثقافة11 التي يصدرها الناقد ياسين النصيِّر في هولندا) من ملف آخر عنه في عددها 21 في (مارت ـ شباط) من السنة نفسها قد أسهما في تكوين هذه القراءةِ النقديةِ التي استجابتْ على عجلٍ لدعوةِ الشاعرِ صادق الصائغ في قوله عن البريكان (هو الآن وسيلة النقد الحديث الواعي للوصول إليه، والاهتداء إلى معناه الحقيقي.)

***

يُجْمعُ جلُّ الذين كتبوا عن البريكان أنهُ لم ينشرْ من شعرهِ سوى القليل، أمَّـا مجموع إبداعهِ فقد ظلَّ طيَّ كتمانهِ شخصياً عن وعيٍ عامدٍ، ولم يجدْ أحدٌ حتى الآن تفسيراً مقنعاً لذلك، ومع أنَّ ما نُشر من هذا الشعرِ  قد دلَّ على ريادةٍ  فاعلةٍ في التحديث، وقدرة فائقة في الأداء والتوصيل، ولغة دفَّـاقـة في الإيحاءِ، فإنَّ النقدَ حين يحاولُ تأصيلَ القولِ في ما نشر فقط من شعرهِ لن يكونَ بمنأى عن القصور،  ناهيك عن القطعِ بدقةِ التقويمِ، والأحكام.

لكنَّ ذلك لا يمنعُ من المحاولة، لأنّ في مانشر مناحي فنية عديدة وتقنيات مختلفة يمكن التلميح بمنجزها الجمالي، وهي تتشكل بالآتي:

أولاً – مبنى المدخل:

ونعني به اختيار التقنية المناسبة للدخول إلى موضوع القصيدة، وجعل القارئ يعيش مناخ الرؤية المرتبطة بفضائي المكان والزمان بكلِّ أبعادها التصويرية، ومثل هذا المبنى يهيّءُ للمتلقي ما تهيؤهُ السينما للمشاهد، فيتابعُ حركات الأشياء ويسمع أصواتها، ويتفحَّص ألوانَ المشهد، ويشمُّ رائحةَ المكانِ، ويدرك زمن الحدث قبلَ أنْ يدخلَ إلى بؤرة التوترِ التي يسعى الشاعرُ إلى إدخاله فيها، كما في قصيدة حادثة في المرفأ:

سفنٌ وضوضاءٌ وصفٌّ من صناديقٍ ثقيلةْ

والرافعاتُ تمدُّ في الجو الهجيريِّ العنيفْ

وتديرُ اذرعها الطويلةْ

سوداءَ مثقلةً، يئزُّ صريرها الصلبُ المخيفْ

ويذوبُ أناتٍ عليلةْ.

وكما فى قصيدة " قتيل فى الشارع ":

وتوارتِ الأصواتُ، وابتعدتْ خطى المتظاهرين

وانشقتِ السُّحبُ الثقالُ الغبرُ عن جسدٍ طريحْ

وسطَ الطريق، وأطبقت أيدي قساةٍ قاتلينْ

غضبى تقلّبهُ . وندَّ وراءها صوتٌ قبيحْ

- كلبُ قتيلٌ، أو جريحْ .

ففي هذين المبنيين عمد الشاعر إلى تقنية الراوي الموضوعي الذي يعرف مالا يعرفه الآخرون، لكنه على الرغم من ذلك لا يتدخل في بنية النص، لكونه مراقباً خارجياّ همه الأساس تقديم الصورة بكل أبعادها قبل وقوع الحدث، ومثل هذه التقنية لا نجدها إلاّ في الخطاب السردي المتمكن .

ولعلها من أغنى المنجزات الجمالّية التي استعارها الشعر من فنِّ القصّة. وكان السياب شغوفاً بمثلِ هذه المداخل، لاسيمّا في قصيدتيهِ: المعبد الغريق، وإرم ذات العماد، اذ كان مدخله فى الاولى:

خيولُ الريحِ تصهلُ، والمرافئُ يلمسُ الغربُ

صواريها بشمسٍ من دمٍ، ونوافذ الحانةْ

تراقص من وراء خصاصها سرُجٌ،وجمّع نفسهُ الشُربُ

بخيطٍ من خيوطِ الخوفِ مشدوداً إلى قنينةٍ ويمدُّ آذنهْ

إلىِ المتلاطمِ الهدّارِ عند نوافذِ الحانةْ

وحدَّثَ- وهو يهمسُ جاحظَ العينينِ مرتعدا،

يعبُّ الخمَر – شيخٌ عن دجىً ضافٍ وأدغالِ

وكان مدخلهُ فى الثانية:

من خلل الدخانِ من سيجارةْ

من خلل الدخانْ

من قدحِ الشاي وقد نشَّر، وهو يلتوي إزاره

ليحجبَ الزمانَ، والمكانْ

حدّثنا جدُّ أبي فقالْ .....

ونحن لا ندري من كان منهما أسبق من الآخر في مباني المداخل.

ثانياً: تقنية المونولوج الدّراميّ:

ونعني به حوار النفسِ للنفس، أو حوار الذات الشاعرة مع قرينها الكائن في الأعماق،  أو خطاب المناجاة إلى لا أحد . وهذه التقنية أيضاً هي إحدى المنجزات الجمالّية ممّا أفاده خطاب الشعر من المتخيّل السردي، أو ما سُمّيَ بـ (تيار الوعي) في القصّة الحديثة. ويبدو أنَّ (اليوت) كانَ سباقاً إلى أهمية هذه التقنية في التنظير حين رأى في المونولوج أنّهُ: (صوت الشاعر يتحدث إلى نفسه، أو إلى لا أحد ....فإذا لم يتحدث الشاعر إلى نفسه مطلقاً، فإنَّ المنظومَ لن يكون شعراً حتى إذا كان بلاغةً فذًة . وجزءٌ من متعتنا في الشعر هي اللذة التي نستـقيها من سماع كلماتٍ غير موجّهةٍ إلينا)(1). والمستقرئ  لما نشر من شعر البريكان يلحظُ اهتمام الشاعر بهذه التقنية في القصائد ذات المنحى الفلسفي، أو الوجداني أو الإنساني، كما في "الإكليل" و "المرصود" و" حارس الفنار" إذ ورد في الأولى، وهي من تناج المرحلة الأولى (1949م):

هلمِّي اشربي هذي الثمالات...واسكري

بوقدةِ أعراقي، ولفحةِ أنفاسي

وفرّي من التيهِ الرهيبِ إلى الرؤى

وغني ...فقد يأسى لكِ القدرُ القاسي؟

وورد فى الثانية وهي من نتاج المرحلة الثانية (1959م.):

وأصيخُ للريحِ التي تهتزُّ والباب الثقيلْ

" قد يطرقونَ الآن، قد يصلونَ قبل سنى النهار! "

وتموجُ أغلالٌ وأسواطٌ وقهقهةُ انتقامْ

فيجنُّ حقدٌ لا ينامْ

في وحشةِ الليلِ الطويلْ

وورد فى الثالثة وهي من نتاج المرحلة الثالثة (1970م):

الوقتُ أدركَ . رعشةٌ في الريحِ تعكسها الصخورْ

الوقتُ أدركَ . موجةٌ تنداحُ من أقصى الدهورْ

الوقتُ أدركَ. لستُ وحدي يعرفُ القلبُ الجسورْ

أنَّ الرؤى تمتْ. وأنَّ الأفقَ يوشكُ أنْ يدورْ

أنا في انتظارِ اللحظةِ الزرقاءِ كالأبدِ الأبيدْ

أنا في انتظارِ اللحظةِ العظمى سينغلقُ المدارْ...

ثالثا: المنحى الفلسفي:

لم يذعن البريكان لِـلجامِ الواقع، لأنَّ محنتهُ الكونية التي كان يعيشها تدفعه باستمرار إلى محاولة التخطي، والتجاوز، والخلق. لكونه كان يشعر دائماً أنهُ واحد من أولئك الذين يحملون وعي وجودهم، فكان الشعر لديه: (نوعاً من الكشف لما وراء الواقع، نوعاً من الغوص في أعماق الحياة والموت، نوعاً من الاحتفال بالجمال الخفي في مواسم ليس لها تقويم.)(2)، وقد حرص على توكيد هذا المنحى فى منطلقاته التنظيريّةِ حول علاقة الشعر بالحياة والناس، فرأى أن الموضوع الأساس للشعر هو (تجربة الوجود بكل شمولها، وهو تمثلٌ خاص لواقع التغيير في الزمن، وقلق المصير، والتأرجح بين الراهن والمنشود.

إنّ الموضوع الكامن وراء موضوعات الشعر هو التوتر بين الحياة والموت، بين التحقق والضياع، وتلك العلاقة المتحولة بين الروح والعالم.) (3)

ومما ورد في هذا المنحى الفلسفي قوله:

لم أدرِ ماذا كان ...لكنَّـني

وجدتُني أطوي طريقَ الوجودْ

في وحدةٍ  يعصفُ إعصارُها

بروحيَ النازفِ تحت القيودْ ⁽⁴)

كذلك منه قوله في (من أغاني العزلة):

أقول لو تملُك الأقدارُ ردَّ الجوابْ

يا مَن وراءَ الحجابْ

ألم يحنْ لي مآبْ

وحزنُ هذا الربابْ      أمالهُ من خفوتْ؟

بلى أنا والـردى       كنَّا على مـوعدِ

من قبل أن أولـدا

فكنتُ في مجهلِ      وكان ـ لا كانَ ـ لي

من عالمٍ أسودِ

قبرٌ سحيقُ المدى.!

كما منه قولهُ فى "حارس الفنار":

ياطالما أسريتُ عبَر الليل، أحفرُ في القرارْ

طبقاتِ ذاك الموت، اتبعتُ الدفائنَ في السكونْ

أستنطقُ الموتى، أرى ما كانَ ثمَّ وما يكونْ

وأشمُّ رائحةَ السكونِ الكاملِ الأقصى أُريدْ

أنْ لا أمثِّـلَ من جديدْ

آلام تجربةِ العصورْ

رابعاً – القصّةُ الشعريّةُ وتقنيةُ السردِ الوصفيِّ:

ومن المنجزات الجمالية التي أفادها الشعرُ من فنِّ القصّةِ حبكة الأحداث وتقنية سردها وصفيّاً، والحبكة التي نعنيها هنا هي تلك الأحداث التي ترتبط فيما بينها زمنيّاً لتصلَ إلى ذروة التوترِ المنشود في تقديم موضوع النصِّ، وخاتمته المنشودة عن طريق سردٍ مكثَّـفٍ وصفيٍّ لماجريات الصورة الكليّة بتفاصيلها الدقيقة، وتركيبها الفني، وما تثيره في وجدان المتلقي من انفعالات عاطفية يحقق فيها النصُّ الفاعلُ هدفه في الإدهاش.

ولعلنا لا نغالي إنْ قلنا: إنّ ما قدَّمه البريكان في هذه التقنية من اقتدار في بنية الحبكة، وما رافقها من سردٍ وصفيٍّ يضعهُ في جوار من سكنوا قمة الهرم في هذا الإنجاز، وأعني بهم: السيّاب، ونازك، والبياتي، والحيدري.

ففي (قتيل فى الشارع) يصوّر اغتيال رجال المخابرات لأحد المتظاهرين على نحو من الإثارة الوجدانية، فيحقّقُ الإدهاش الفنيَّ في الأداء والتوصيل:

كان الضحى يُـلقي عليه الضوءَ، والدمَ والترابْ

يتكتلانِ على يديهِ، وحول جثتهِ الهشيمةْ

ورصاصة في الصدر تصبغُ لونَ سترتهِ القديمةْ

فى وجهههِ شيءٌ  يبثُّ الرعبَ يرتجفُ السلاح.

منه وتنقبضُ الجريمةْ؟

لم يدرِ دارٍ من يكونُ. تباعدوا . كانت هناكْ

سّيارةٌ غبراءُ رابضةً هناكَ على انتظارْ.

وفي (حادثة في المرفأ) يصّور ذراعاً طويلة لرافعة حديديّة تهوي على أحد عمال المرفأ بكلّ ما تحمله من كتل الصلب والحديد، فتحيله (دماً يسيل) .

لكنّ القصّة لا تنتهي بمقتل العامل. وتصوير لحظة سقوط الذراع عليه، إنَّما في ما يرد من سرد مثير بعد الحادثة يتلمس دقائق الأشياء، فزملاء القتيل من العمال لا يعرفون عنه غير اسمه الأول، وليس أكثر من أنه أبٌ لبنات، وليس له بنون، وحين يتفحصون جيوب ملابسه لا يجدون فيها غير (ظرف) عتيقٍ فيه رسالتان، وبضعة من نقود معدنيّة تلوثت بدمه القاني هي كل ما خرج به من حياته المهانة:

(من يعرفُ الآنَ القتيلْ)؟

إلاّ اسمه . حتى أسمه بتمامهِ لا يعرفون!

ويقالُ إنّ لهُ بناتٍ في مكانٍ يجهلونهْ.

ناءٍ، وليس له بنونْ

في جيبهِ ظرفٌ عتيقْ

ورسالتانِ، وفي جيوبِ ردائهِ الخلقِ، الرقيقْ

وجدوا نثاراً من نقودْ

هي كلُّ ما استبقاهُ من أيامِ غربتهِ الطويلةْ

ومن المهانةِ – والضياعْ

قطعاً مدوّرةً صقيلةْ

بيضاً سوى نقطٍ بلونِ الجمرِ من دمهِ المضاعْ.

خامساً: موسيقا شعره:

ليس بين يدي سوى خمسَ عشرةَ  قصيدةً من شعر الشطرين، وشعر التفعيلة من شعر البريكان، ومثل هذا العدد لا يشكل غير الجزء القليل من نتاجه، الأمر الذي يحول دون وصول الدراسة الموسيقيّة إلى شأوها المطلوب، وإذاعتها بين الناس كاملةً . لكنَّ الوقوف عند هذا القليل موسيقيّاً، يشكل جزءاً – وإن كان بسيطاً – لا ينبغي إهمالهُ، لأنّ فيه بعضاً من الحقيقة التي ستكتمل يوماً ما.

أ‌- موسيقا شعر الشطرين:

تعدّدت أوزانُ قصائد البريكان فى شعر الشطرين فنظم في "الخفيف" أربع قصائد هي: "ظل" و"تراب" و "مصرع خيال" و " متسوّلة" . والخفيف بحر مركبٌ يكثر استخدامهُ في شعرالشطرين قديماً وحديثاً، وتـنثالُ في هذا الوزن النثريةُ لخفتها انثيالاً، وتشكيلُهُ الصحيح هو(فاعلاتنْ مُستفعلنْ فاعلاتنْ) فى كل مصراع، وهذه مطالع قصائد البريكان:

1- هكذا يمسخُ الظلام رؤايا

ويجفُّ الحنين بين الحنايا

2-  قيل لي: أنت حفنةٌ من ترابٍ!

فاقشعّرتْ بكبرياءٍ جراحي

3- ياجنونَ الرياحِ ياظلمةَ الليل

ويا وحشةَ التخومِ العرايا

4- ستغورُ النجومُ والليل يمضي

وتظلينَ هكذا يا غريـبةْ  (5)

ونظم في "الطويل " ثلاثاً هي: " قبرٌ في المرج"، و " الإكليل"، و" مجهولة"، والطويل أول بحرٍ (عند الخليل) مركبٍ من أكثر من تفعيلة، ووزنهُ الصحيح في تشكيلهِ الأول (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن) في كل مصراع، وهذهِ مطالع قصائد البريكان فيه:

1- إلى عالمِ الأحلامِ تهفو سرائـري

ويسرى على صوتِ الصبابةِ خاطري

2- إلى كلّ نبعٍ في الحياةِ  وموردٍ

سعيتُ، ومازالتْ تبكّتُني نفسي.

3- هبيني خلاصي قبل فوتٍ ..فإنني

عطشتُ إلى أنْ كدتُ أجترعُ السُّما!

ونظم في (السريع): "ظمأ"، و"من أغاني العزلة"، و "لم أدرِ". والسريعُ وزنٌ  شبيهٌ بالرّجز إلى حدّ أنّ شعراءَ التفعيلة كثيراً ما يداخلون بينهما في القصيدة الواحدة بسبب إكثارهم من الانتقال من ضرب إلى ما سواه، وتشكيلهُ الصحيح هو:

(مستفعِلُنْ مُستفعِلُنْ فاعلنْ) فى كلّ شطر، أو مصراع، وهذه هي مطالع القصائد:

1- ياظمأً يشرقُ في مزهري

بالنغـمِ المـحترقِ الأنورِ.

2 -  ياواحتي والقدر

لعنْـتُهُ – والقضاء .

3- لم أدر ماذا كان ..لكنَّـني

وجدتني أطوي طريقَ الوجودْ.

ونظم فى الكامل الأحَذّ  " الغسق"،وفي مجزوء الكامل المذال " المسوخ"، والكامل من أكثر أوزان الشعر العربيّ غنائية وليناً، وانسيابيةً وتنغيماً، فضلاً عن كونهِ من البحور المفردة الصافية، وتشكيلهُ الأحذُّ هو (متَفاعلنْ مُتَفاعِلُنْ فعِلنْ) مرتين، بينما تشكيله في الكامل المذال (متفاعلن متفاعلن) فى المصراع الأول، و(متفاعلن متفاعلان)  في المصراع الثاني، وهذه مطالع البريكان في تينك القصيدتينِ:

1- خلّي الكؤوسَ تجفُّ من ظمأٍ

والأغنـياتِ  تموتُ فــي الأثرِ

2- الذّاهبونَ بغيرِ قصدٍ في الدروبِ  ولا رجاءْ.

وينبغي أن نشيرَ إلى أنّ البريكان في " مصرع خيال"  قد انتقل من الخفيف إلى المتقارب، ثم عاد إلى الخفيف مرّة أخرى، أي أنه داخل بين الوزنين إيقاعياً، وهي محاولة جريئة إذا ماعلمنا أنها كانت وليدة سنة1950م، وممَّـا قاله في المتقارب:

ترى نقمةً من ضميرِ السماءْ

تمطَّـتْ بصدرِ الزمانِ المبيدْ

أرى كلَّ منطلقٍ فـي خطـاي

يضـيقُ وكلًّ طريـقٍ يمـيدْ

ب- موسيقا شعرِ التفعيلة:

أمَّـا قصائد البريكان فى شعر التفعيلة فكلّها كانت على الكامل في تشكيليه: المذال، والمرفّل، وهي: " قتيل فى الشارع "، و " المرصود"، و" حادثة في المرفاً "،و " حارس الفنار" .  ولمّا كان الكامل كما ألمحنا من أكثر أوزان الشعر العربيّ غنائيةً وليناً، وتنغيماً، فأنَّ شعراءَ الحداثة استثمروا إيقاعَهُ، وحلاوتهُ، واستخدموا كلّ ضروبه المتاحة لاسيما التذييل، والترفيل، وهذا ما فعلهُ البريكان، وهذه هي اشطر القصائد:

1- وتوارات الأصواتُ. وابتعدتْ خطى المتظاهرينْ.

2- ومن الصباحِ إلى المساء

3- سفنٌ وضوضاءٌ وصفٌ من صناديقٍ ثقيلةْ.

4- أعددتُ مائدتي وهيّأتُ الكؤوسَ متى

يجيءُ الزائرُ المجهول؟ .

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإيقاع يضفي على النصّ نبضاً جمالياً ذا وقع سحريّ، وخسارة هذا النبض يعني انفراط السحر، وانحساره سواء أكان خارجياً أم داخلياً، وقد تنبه إلى ذلك البريكان فقال: (إنّ الشعر المموسقَ جيداً هو الشعرُ الكامل، وتأثيرهُ في العادة أعمق، لأنّ أدواته كاملة التطويع، ولأن للموسيقا الشعريّةِ دوراً كبيراً في تحقيق الإيحاء)(6)

وبعدُ، فإذا كان البريكان قامة سامقة فلأنه شاعر كبير، والشاعر كما يقولُ الدكتور محمد حسين الأعرجي: (وجدان أمّةٍ  وتاريخ حضارة)(7)، لأنهُ يحققُ الرضا الإنسانيَّ، ويبدع أحلى وجهٍ من أوجه الوجود.

 

أ. د. عبد الرضا عليّ

...................

الـهـوامــش:

1- أصوات الشعر الثلاثة: ترجمة سلمان محمود حلمي، مجلة الفصول الأربعة،، 54-71، بغداد، خريف 1954م.

2- من (حوار البريكان) آجراهُ الشاعر حسين عبد اللطيف عام 1970م، ونُشر في مجلة (المثقف العربي) وأُعيد نشرهُ في جريدة (المؤتمر) في 9 -15 "آذار" 2002، ع 295:  والإحالة ستكون إليه لاحقاً.

3- نفسهُ.

4- بدلالة رشيد ياسين: البريكان كما عرفتهُ، جريدة " ثقافة 11" ع: 21، في مارت 2002م. (إعادة نشر).

5- بدلالة رشيد ياسين، نفسهُ.

6- من حوار البريكان (نفسه).

7- مايجمع بين لوركا والبريكان، جريدة (المؤتمر) ع:295 في 9-15 (آذار) 2002م.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم