صحيفة المثقف

عليك بالعمل عن بُعد

محمد الدعميكان هؤلاء الميسورون يبتعدون عن الاختلاط بسواهم من المواطنين، كأنجع الطرق للحفاظ على أنفسهم من الإصابات بالأمراض الخطيرة كالسل والكوليرا. أما اليوم، فقد تحول العالم إلى “قرية كونية” بمعنى الكلمة، إذ صار كل من التواصل الاجتماعي والاختلاط مهمين، فلا بد منهما في الأسواق والمدارس وحواضن التجمع والزحام، من بين سواها من آنية الوجود الاجتماعي الجماعي، إلا أني قد لاحظت منذ نزلت في أحد المطارات الأميركية بأن الذهنية الأميركية مولعة بالانعزالية Isolationism على نحو مفرط، إذ أخبرني صديق بوجوب ملاحظة عدم الاقتراب الزائد من اي شخص آخر هناك، خصوصا في طوابير التسوق أو سواها مما شاكل، باعتبار “قدسية” ما يسمونه هناك بــ”الفضاء الشخصي” Personal Space، درجة إمكانية تحريك الشكوى ضد المرء إن اقترب من سواه (ذكرا أو أنثى) أكثر من اللازم، بل وحتى درجة عقوبة السجن لمن تجاوز هذا “الفضاء” العائد لسواه! وهذا هو “المعاكس الموضوعي” لأحوالنا في العالم الشرق أوسطي، ربما لأسباب اجتماعية ـ سياسية ذات أبعاد تاريخية. أما “التقبيل” و”التقبيل بالأنوف”، فهما من عجائب الدنيا السبع في نظر الأميركان. عندنا، استحال النوعان أعلاه من التقبيل الصيغة المقبولة والأكثر شيوعا للتحية، للأسف، بل إن صديقك قد “يزعل”، إذا اكتفيت بالمصافحة أو الإيماءة، بحجة “عدم رد السلام”!

بيد أن للمرء أن يجتهد اليوم بتوقع إمكانية حدوث تغيرات جذرية على مستوى المستقبل القريب، بفضل “فيروس كورونا”، إذ إنه سيضطر الإنسان العربي لتجنب الصيغ المذكورة في أعلاه، نظرا لخطورتها عليه فرديا وعلى المجتمع كله جماعيا. بل يتوجب علينا اليوم البحث حتى عن ذلك النوع من العمل “عن بعد” Tele-Work، أي الإنتاج والكدح دون الحاجة للمصافحة ولا للتقبيل بل ولا للاقتراب من أي كان كذلك، وهو الصيغة التي دعا لها العلم والعالم جميعا منذ تفشي “فيروس الإيدز” HIV على سبعينيات وثمانينيات القرن الزائل. ولكن هذه الصيغة غير متاحة للجميع، خصوصا بالنسبة للأعمال من نوع الكدح اليدوي والمباشر الذي قضيت فيه أكثر من ربع قرن من سني حياتي، معلما في الجامعات، من بغداد، إلى أريزونا، ومرورا بالبصرة وبعدن والأردن، من بين سواها من المؤسسات الأكاديمية.

لذا، توجب التنويه إلى ضرورة إيجاد أعمال “عن بُعد” من قبل كل فرد على سبيل تجنب ما يمكن أن يحيق به وبمجتمعه من “جوائح” قادرة على إذلال كل جبار يحيا على الأرض!

 

أ.د. محمد الدعمي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم