صحيفة المثقف

أوراق فنية تجمع بين الأدب والفن والتوثيق

عدنان حسين احمدصدر عن "مركز باليت للطباعة والنشر" في بغداد كتاب "أوراق فنيّة" للناقد عبدالعليم البنّاء وهو ثمرة جهود متراكمة لعمله في مسارين ثقافيين يُعاضد أحدهما الآخر وهما وظيفته كمسؤول لقسم الإعلام في دائرة السينما والمسرح، وكتاباته النقدية في عدة صحف عراقية آخرها صحيفة "المواطن" التي يعمل فيها مُحررًا ثقافيًا وفنيًا حيث دأب على كتابة عموده الثابت "أوراق فنية" التي أخذت عنوان الكتاب وانتظمت فيه 130 مقالة جمعت بين الأدب والفن والتوثيق لكنها اشتطّت في بعض الحالات لتضمّ المقالة الاقتصادية التي أخلّت برونق العنوان وأفقدته بعض بريقه الأدبي والفني.

يقع الكتاب في ثلاثة فصول طويلة إضافة إلى توطئة الكاتب وتقديم الدكتور عقيل مهدي. يتضمن الفصل الأول 38 مقالة راجع فيها كتبًا وأبحاثًا وأطاريح أدبية ومسرحية وسينمائية وموسيقية كما عرض بعض المجلات التشكيلية والسينمائية، وتوقف عند بعض المعارض الفنيّة، وسأستثني المقالات الاقتصادية الخمس لأنها تقع خارج السياق، وتشذّ عن العنوان الرئيس بوصفه عتبة نصية تفضي بالقارئ إلى استطرادات بعيدة عن ثيمة الكتاب وعموده الفقري. 

لا يمكن التوقف أو حتى مجرد المرور العابر على مقالات الفصل الأول لكنني سأنتقي الكتب النوعية المختلفة وأولها "الرهان على الزمان" لمحسن العزاوي لأنه سيرة ذاتية مكتوبة بطريقة مغايرة أخذت شكل النص المسرحي المقسّم إلى فصول ومَشاهد كتلك التي أخرجها وتماهى بها. وبغض النظر عن التقديم والتأخير في الوقائع والأحداث إلاّ أن هذه السيرة تُحيط قارئها علمًا بعدد المسرحيات المحلية والعربية والعالمية التي أخرجها حتى الآن وبلغت 65 مسرحية، كما تضعنا السيرة أمام تجربته الإخراجية التي دفعت العديد من روّاد المسرح لأن يتأملوا في رؤيته الفنية، ويكتبوا عنها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. تحتشد هذه السيرة بمعلومات كثيرة تبدأ بالعائلة وسنوات الدراسة، وتمرّ بأبرز معالم مدينة الناصرية وشواخصها الثقافية والحضارية.

ينفرد نصير شمّة في أطروحته المميزة  "الأسلوبية موسيقيًا" التي نال عنها درجة الماجستير من الجامعة العربية المفتوحة في شمالي أميركا حيث تناول بطريقة علمية ممنهجة محاور عديدة من بينها الأسلوب والأسلوبية، والتناص، والبوليفونية، وفواصل الصمت الموسيقية، ومركزية اللحن في الموسيقى وما إلى ذلك ولفت انتباه لجنة المناقشة التي ارتأت بأنّ هذه الأطروحة تستحق الدكتوراة لكن الدكتورة إيناس عبد الدائم رأت أنّ ما يستحقة شمّة هو أكبر من المستندات والدرجات الجامعية.

يلفت عبدالعليم البناء انتباهنا إلى مجموعة شعرية مهمة جدًا تحمل عنوان "نجوى وألم" للشاعر حسّون البحراني وهو شاعر مطبوع، وقاصٌ مجدِّد، ومَقالي محترف سجّل قصب السبق في كتابة "شعر التفعيلة" وقد سبق السيّاب في قصيدته "هل كان حُبًا؟" في ريادة الشعر الحرّ حسبما ذكر د. علي حسون السنيد في مقالة منشورة في موقع المنتدى حيث أشار بالدليل القاطع إلى أنّ البحراني قد سبقهما بنحو عامين حين كتب قصيدة "الريف الكئيب" 1945 ونُشرت في دورية "شعراء النجف، ثم أُعيد نشرها في جريدة "السياسة البغدادية" عام 1954، كما وجدت طريقها إلى ديوان "نجوى وألم" الذي ضمّ 54 قصيدة سلسة تستحق البحث والدراسة التي قد تعيد النظر في مسألة الريادة الشعرية الحديثة التي شغلت الناس.

يتضمّن الفصل الثاني 44 مقالة كتبها عبدالعليم البنّاء عن أبرز الأدباء، والشعراء، والنقّاد، والصحفيين، والفنانين، والملحنين، والموسيقيين، والمُخرجين المسرحيين، والمعماريين وبقية المشتغلين في بقية الأجناس الأدبية والعلمية. ولو تأملنا مقالات هذا الفصل لوجدناها مادة كتاب منفرد يرصد المبدعين العراقيين الذين يتساقطون تباعًا في أرض الوطن وفي المنافي البعيدة التي هربوا إليها بحثًا عن الحرية والعيش الكريم. ويكفي أن نشير إلى بعض الفنانين والمخرجين المسرحيين الذين غادرونا في الداخل وتركوا غصّة كبيرة في النفوس أمثال اسعد عبدالرزاق، يوسف العاني، سامي عبدالحميد، طه سالم، عبدالمرسل الزيدي، فاضل خليل، شفيق المهدي، أمل طه، راكان دبدوب، عمو نوئيل رسام، محمد جواد أموري وغيرهم، أما الذين غادرونا في المنافي فهم كُثر ولا يتسع المجال لذكرهم جميعًا من بينهم خليل شوقي، ناهدة الرمّاح، مكي البدري، منتهى محمد رحيم، زها حديد، نزيهة رشيد، كارلو هارتيون، فؤاد سالم، محمد الجزائري، فوزي كريم، محمد شاكر السبع وآخرين تساقطوا من شجرة الإبداع العراقية. ولعل من الغريب أن يموت الموسيقار طارق حسون فريد جرّاء انفجار قنينة غاز في منزلة ثم يتعرّض إلى أزمة قلبية، أو يموت الشاعر ابراهيم الخياط نتيجة حادث سير بعد أن استشهدت زوجته في حادث إرهابي! يُنبهنا الناقد والصحفي عبدالعليم البناء في أثناء حديثه عن الفنانة ناهدة الرماح بأنها سجّلت مذكراتها على عدد من الأشرطة التي قالت عنها:"لو خرجت هذه المذكرات إلى النور فلن تكون مذكرات فنية حسب، بل تاريخ الحركة الفنية والسياسية في العراق". تُرى، مامصير هذه الأشرطة، ومتى نقرأها مدوّنة في كتاب؟

يضمّ الفصل الثالث والأخير 47 مقالة كرّسها المؤلف للمبادرات الثقافية والمجتمعية التي تهدف إلى تطوير ساحات بغداد، وترميم بعض المناطق التاريخية، وتأهيل النُصب، والتماثيل، وأزقة بغداد القديمة. ثمة مقالات مهمة جدًا في هذا الفصل مثل "الطريق إلى هوليوود" وهو فيلم وثائقي إنجليزي عن المخرج محمد شكري جميل وهي سابقة فنية لم يعرفها المشهد السينمائي العراقي من قبل. وفي السياق الوثائقي ذاته أنجز المخرج حميد حدّاد فيلمًا وثائقيًا جميلاً بعنوان "برج بابل" يناقش فيه فكرة "تبلبل الألسن" للجيل الثاني من المهاجرين العراقيين في المنافي العالمية إذ تبلبلت ألسنة الصغار بلغات عالمية جديدة بينما  بينما تقوقع الكبار بعزلتهم الأبدية التي تجترّ الماضي وتعيش على ذكرياته البعيدة التي أخذت تنأى كلما بعُدت المسافة واشتطّ المزار.

لم يكن فوز شريط "شارع حيفا" للمخرج العراقي مهنّد حيال بجائزة أفضل فيلم في الدورة 24 لمهرجان بوسان السينمائي عام 2019 حدثًا عابرًا في تاريخ السينما العراقية، فلقد استطاع مهنّد، القادم من الناصرية أن يصنع "تُحفة من نوع ما" تتآزر فيها القصة المحبوكة، بجمال التصوير، وقوة الأداء المُعبّر الذي يحشر متلقّيه في الأجواء المتوترة للقصة السينمائية، وهذا ما دفع المخرج الإيراني المعروف محسن مخملباف لأن يعلّق قائلاً:" إن "شارع حيفا" فيلم عراقي نادر ومختلف وشجاع، مصنوع بطريقة ذكيّة، شعرت وأنا اشاهده أنني كنت داخل شارع حيفا في بغداد 2006 والموت يحيط بي من كل مكان، وهو واحد من الأفلام المهمة التي أنصح بمشاهدتها". وهذه شهادة صريحة تُحمّل صانع الفيلم مسؤولية كبيرة في قادم الأيام.

لا يسع المجال في هذه المراجعة النقدية إلاّ أن أتوقف بشكل سريع عند مقال "ليس كل ما يُقال في "المقهى" ثرثرة" من تأليف وإخراج الفنان تحرير الأسدي الذي نجح في محاكاة الواقع بكل مرارته، واستنفر الهواجس الكامنة لدى المتلقي العراقي. وفي السياق ذاته يمكن الإشارة إلى مسرحية "سالوفة" للمخرج حسين علي هارف التي يرتدي فيها الفنان المخضرم سامي قفطان حُلّةً جديدة لقصخون أيام زمان ويتخذ من أرائك مقهى "رضا علوان" بالكرّادة متكأً لقصصه وحكاياته التي تلامس هموم الناس وأوجاعهم.

يمكن القول بأن "أوراق فنية" كتاب نقدي توثيقي يرصد المَشهدين الثقافي والفني خلال العقدين الأخيرين.

 

لندن: عدنان حسين أحمد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم