صحيفة المثقف

رائد معماري يرحل وفوضى وفراغ وتخبط جمالي مهيمن

علي حيدر الحساني

توفى مساء يوم الجمعة الموافق 10 نيسان 2020 م، رفعت الچادرچي، وهو  أحد رواد العمارة الذي صنف ضمن (ما بعد الحداثيين)، وحمل خلال رحلة العمر التسعينية  عدّة مواهب ومساهمات في التدوين والتنظير، والمنجز المجسد في العمارة و الفن التشكيلي،  فقد غيّبه الموت في العاصمة البريطانية لندن، ويعد إنتقاله للملأ الأعلى إحدى خسارات ثقافتنا العراقية والعربية بل وحتى الدولية .

إنّ أيّ كلام يُقال في موت المبدع لن يفي حقه، وبرحيله ينهار جزء من الذاكرة الجمعية، ولاسيما في ثقافة رائدة ومتنوعة مثل الثقافة العراقية التي ما أنفكت ترفد الثقافة العربية  بالعقول والمواهب، ضمن سياقات التراكم المعرفي منذ فجر التاريخ والى اليوم . لقد رحل الچادرچي وبقي المجتمع العراقي يعاني انقساماً اجتماعياً واضحاً في الذوق العام، وهبوطاً لا يمكن إغفاله حتى على غير المتخصصين، وشيوع الإبتذال الذوقي والتلوث البصري، اللذين لن يصمدا أمام  سمو الوعي، وعلى نقيضها فقد ساد ضعف التربية الجمالية والسلوكية في المدارس، وغاب الشعور بالهُوية الجمعية، وأضحت السلوكيات الفردية السمجة طاغية، وقد أشاعتها جماعات التجهيل التي تتصدّر المشهد، وذلك من جرّاء غياب دور الدولة والسياسة المركزية في الحفاظ على الموروث البعيد والقريب، مقرونة بإبعاد وإقصاء الإستشارات المهنية المسؤولة  والحسّ الذوقيّ الرفيع والخبير وغياب المعمار الفنان وشيوع المعمار الإداري، فقد إنتفت حاجة الدولة للمستشارين المعماريين  في مفاصل القرار، بالرغم من أن العمارة بذاتها سلطة قرار والمعماري صاحبها، وذلك من جرّاء خشية أقطاب السلطة  بتهميش دورهم في خضم حالة من عدم إتضاح الرؤية بحدود السلطات ومديات التدخلات الرسمية وآليات التنفيذ، وهو أمر متعلق بالفساد المستشري الذي سرق  ما خصص لمشاريع الترميم والعناية والحفاظ ولاسيما على الموروث المعماري، لذا نجد مشهداً حضرياً مفعماً بالمعاناة حدّ الإبتذال .

إنّ المجتمعات الرصينة والواثقة في عالم اليوم ، نجحت بشكل واضح في تكريس السلوك الجمالي الجمعي، وتعزيز الذائقة الفردية وتنميتها، وممّا يؤسف له أنّ بلداً مثل العراق عرف عنه منجزه البنائي عبر تأريخه التراكمي، وأجيال من  البنّائين و المعماريين، سواء بعد الحداثة الأكاديمية أو قبلها في الأداء الفطري والتقليدي،  فلم نلمس  ما يسرّ الخاطر خلال العقود الأخيرة عملاً عمرانياً  معمارياً فنياً كما في نصب الحرية 1959 للراحل جواد سليم مثلاً، حينما تعاون مع الجادرجي لإرساء فن جرئ شكّل علامة مضيئة تمت لسلطة فنون سومر وبابل وآشور، كل تلك الخيبات شكلت  إنتكاسة معنوية  تداعت أدّت الى انخفاض مديات الذائقة بل الهبوط إلى أدنى ما يمكن أن يصله مجتمع متخبط وتائه في مسيرته، فالمباني في بغداد والمدن العراقية الأخرى تفتقد الى الهوية المعمارية الصريحة والمعلنة  الجامعة، فضلا عن عشوائية التصميم، وهبوط الذوق اللوني والملمسي لواجهات سمجة أرادت أن تعادل خيبتها في صرامة التصميم من خلال إضفاء طلاءآت أو خامات تغطية سقيمة وقبيحة، مثل تغليف عشرات الأبنية بـ" الالكيبوند ". ونافورات وساحات شعبويّة  تُترك رهناً لذائقة الحدّادين، وإكساء الواجهات بمواد صناعية غريبة عن بيئة العراق البيئية والوظيفية و الشكلية واللونية،  وكل ذلك من نتائج تهميش دور المعمار المختص الأكثر تأهيلاً في المسائل المتعلقة بالذوق العام .

أما ظاهرة التلوث البصري فحديثنا عنها يطول فمظاهرها  صريحة في عناصر التشويه من أسلاك وأجهزة كهربائية و قطع الإشارات  والإعلانات على سطوح  المباني والمحال التجارية وعلى الأرصفة بطرق عشوائية، حتى حولت العاصمة الى مدينة بلا ملامح  وهُوية أو فرز يوحي بوظيفية بعينها كون العمارة خطاباً بصرياً ونصوصاً مقروءةً، فنلتقي منزلاً و مصرفاً و محطة وقود ومدرسة مغلفة بنفس الألواح ذات  القيمة الهابطة، ناهيك عن خرق التصميم الأساس للمدينة و الإستحواذات والتجاوزات حتى على الأرصفة، ممّا أدى  إلى إخفاء معالمها وإهمال طرازها المعماري  وعناصرها التراثية التي ترسم ملامح خصوصيتها . فقد طغى الخلط الذوقي والإستعارات البائسة على غالبية أرجاء مباني المدن العراقية سواءً العاصمة أو المحافظات، ونتلمسها  في المناطق والأحياء الشعبية  بل وحتى الرّاقية والتي  بدأت تفقد الكثير من سمات الذوق الرفيع التي ترفع من مستوى ذائقة الشارع العامة، وأدّت إلى خلق فوضى إجتماعية  وقبول وسكوت الناس حتى عن الأسباب الكامنة في  الفوضى السياسية والضعف السلطوي المؤرق، والتي كرّست إستدامة لتركة ثقيلة من الحقبة البعثية التي نقلت وداعة العمارة العراقية و واقعيتها إلى عمارة خيلاء تسايرالعقلية الشمولية البدوية التي أختارتها السلطة البعثية، والمتميزة بالحجوم المبالغ بها والغرور البنائي والتمظهر على حساب مضامين معمارية وسنن الإستحواذ على المشهد العام لصالح البطانات السلطوية، وذلك في مدن  كان للتراث بها سطوة، وما عدنا نلمسها في منتج زماننا، وهو مايحزّ بالنفس، ولاسيما سكوت الرواد ونهايتهم المحزنة في المنافي نقلوها بأسى وحسرة معهم، كما هو الحال مع محمد مكية أو رفعت الجادرجي، حينما إنحسر دلوهم و نصحهم و معارضتهم لما يجري من تشويه لثقافتنا، ولكنّ أملنا غير منقطع في المبدعين العراقيين  أن يحذون حذوهما مستفيدين من مآثرهما وتاريخهما سائرين على خطاهما وناهلين من شواهدهما العمرانية وكتاباتهما العلمية والفنية .

  

علي الحساني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم