صحيفة المثقف

حوار مع الأستاذ الدكتور عبد الرضا عليّ

1488 عبد الرضا عليس1- الدكتور عبد الرضا عليّ في سطرين من يكون؟

ج1 – ناقدٌ وأكاديميٌّ بلغَ من العمرِ عتـيَّا ، وبعد شهرين يدخل عامَهُ التاسعَ والسبعين إذا أرادَ اللهُ تعالى.

س2- كيف بدأت مع الأدب.. هل بتوجيه أو عن اختيار وقناعة؟

ج2 – اشتريتُ لاميّةَ الطغرائي (مصادفةً) بتحقيق المرحوم العلاّمة عليّ جواد الطاهر من بائع كتبٍ متجوّلٍ كي أتعرَّفَ على هذا الذي يُدعى بـ (الطغرائي)، وحينَ قرأتُها أثَّرتْ فيَّ، فسحبتُ تقديمي من قسم الرياضيّات، وقدّمتُ طلباً للانتماءِ لقسمِ اللغة العربيّة في الجامعة المستنصريّة، مع أنَّني كنتُ أحملُ بكالوريا الثانويَّة من القسم العلميّ. لأنَّ أسلوب الطاهر في التحليلِ، والتفسير، والتقييم، فضلاً عن مضمون القصيدة، وفلسفة نصّها حبّبَت إليَّ اللغةَ العربيّةَ، وجعلتْ محبَّة حرفةَ الأدبَ تدركني.

س3- لو لم تكن أديبا وناقدا.. ماذا كنت تودّ أن تكون؟

ج3 – وددتُ أن أكونَ أستاذاً جامعيَّاً، وقد حقَّقتُ ما كنتُ راغباً في تحقيقه، فقد مارستُ التعليم الجامعيَّ في العراق لمدّةِ خمس عشرةَ سنةً، فضلاً عن عشر سنواتٍ أخرى قضيتُها في جامعة صنعاء باليمن، إلى جانبِ عملي الحالي في الإشرافِ على طلبةِ الدراساتِ العليا في قسم اللغة العربيّة، وآدابها (الدراسة عن بُعد) لحسابِ الجامعة الحرّة في هولندا.

س4- ما علاقتك بالسياسة؟ بالرغم أنّ الأدب والنّقد هنا ممارسة لسياسة معيّنة والسّياسة تستوجب الأدب والفراسة.. ماهو رأيك أنت؟

ج4 – في مرحلة الشبابِ كنتُ يساريَّاً، وقد دخلتُ السجونَ بسبب إيماني بالفكرِ الديمقراطي اليساري، ولعلَّ ذلك الفكرعلَّمني الموضوعيَّةَ، والأمانةَ العلميَّةَ في مرحلةِ الكتابة النقديَّةِ حين استوى عودي المنهجي، لكنَّني الآن أكرهُ الحديث في السياسة، وقد رفضتُ إجراءَ مقابلاتٍ تلفازيّةٍ حين طَلبَ ذلك بعضهم منّي، لكن هذا لا يمنع من أن يكونَ لي رأيي الخاص في الذي يجري الآن في العراق، والعالم، فضلاً عن أنَّني إنْ وجدتُ سياسيَّاً موتوراً، أو حاقداً، أو مروّجاً للكذبِ، أو مدلِّساً، فإنَّني أُقاطعُهُ، وقد أحظرُه، أو أتحاشاهُ (في الأقل) إن كان من أصدقائي، لاسيّما إذا كان يكيلُ بمكيالين.

س5- أنت شاعر والبحور والموازين تسري في شريانك.. كيف تقيّم نفسك كشاعر..؟ وما تقييمك للشعر والشّعراء اليوم؟

ج5 – كتبتُ الشعرَ الشعبيَّ منذ مرحلة الثانويّة، وقرزمْتُ أبياتأ شعريّةً من شعر الشطرينِ في السنةِ الأولى من الجامعة، لكنّني بعد دراستي لعلم العروض في السنةِ الجامعيّة الثانية بدأتُ بكتابةِ القصيدةِ الناضجةِ الرصينة،غير أنَّني توقّفتُ عن نظم الشعرِ طوال سنوات جمهوريّة الخوفِ، ومنظّمتِها السريّة، كي لا أكونَ ضمنَ الجوقةِ التي باعت الضميرَ، وغنَّتْ للطغيانِ، ومجَّدت الدكتاتوريّة، على الرغمِ من الإغراءاتِ الكبيرة التي كان النظامُ الدكتاتوري يجذب بها ضعافَ النفوسإليه. أمَّا تقييمي لشاعريّتي فهو عند الآخرين ممَّن قرأ بعضَ مقطوعاتي، وليسعند نفسي . ويبقى الشطر الثالث من سؤالكِ المراد منه تقييمي للشعرِ والشعراء اليوم، فهو سؤالٌ كبيرٌ وتصعب الإجابة عليه،فهناك شعراء يتخذون أسلوب شعر الشطرين( العمودي) منهجاً لهم، وهناك آخرون يتخذون الأسلوبِ التفعيلي منهجاً، إلى جانب المئات الذين يكتبون نصوصاً مفتوحة ( قصيدة النثر)، وهذه الأساليب مختلفة في النسيجِ، والشكلِ، والمضمون،وفلسفة نصوصها، وحالاتها النفسيّة ،وينبغي على الناقد ألاّ يطلقَ أحكاماً عليها مجتمعة، فلكلِّ أسلوبٍ أدواته في الأداء والتوصيل، وتكوين الأخيلةِ،والعواطف ممّا يجعل استحالة تقييم الشعراء، وتقييم ما يكتبونه في هذه العُجالة، لأنَّ الحكمَ لن يكونَ سليماً كما نزعم.

س6- الشعر وجدان وخروجعن المألوف وأحاسيسجيّاشة.. فهل نعتبر القصائد التي كتبت لغايات مادية.. عن طلب ولحسابات خاصة بمقابل.. سواء كانت مدحا أو هجاء أو رثاء أو.. هل نعتبره شعرا أم امتهان الشعر والاحتراف فيه؟

ج6 – سبق لي أن عالجتُ هذا الأمر، أو اقتربتُ من تأصيل القول فيه في مبحث أدرجتهُ في كتابي الموسوم بـ(قيثارة أورفيوس) قلتُ فيه : (كان الشعر في العراق، وبقيّة الأقطار العربيّة في القرن التاسعَ عشرَ امتداداً للحقبة التي يُطلق عليها بـ "حقبة الاجترار" أو "الانحطاط" إذ اتَّصفَ الأدب فيها بالعقم، وعدم التطور، والتراجع شيئاً فشيئاً دون الالتفات إلى دورهِ الفاعل في الحياة الثقافية، والاجتماعية، والحضارية، وكان الشعر أكثر الأنواع الأدبية تراجعاً، لأن الشعراء اعتمدوا في نظمهم على مواهبهم فقط دون أن يطوروها بالاكتساب، فنضبت قرائحهم بمرور الزمن، وجفت منابعهم التخيليّة لابتعادها عن الصقل، وظلوا يكرّرون أنفسهم، ويقلد بعضهم بعضاً، ولم يلتفتوا إلى دور الفن في الحياة.

وقد ارتبط الشاعر بالبيوتات العريقة، والأمراء والحكام، وكان همّه الأول وشأوه الأقصى إرضاء ممدوحهِ، لأنه يعيش على هباته، وما تجود به يداه. من هنا كان التكسب هدفاً من أهداف الشعر لدى جل الشعراء، ومتى أصبح التكسب هدفاً في الشعر فاقرأ على هذا الشعر السلام.

وكان الشاعرُ يهيئ نفسه لممدوحه قبل حصول المناسبات، فينظم قصائد مختلفة الأغراض، للعديد منها ، سواء أكانت أفراحاً، أم أتراحاً، وحين تحين المناسبة المعينة يُخرجقصيدته المهيأة سلفاً بعد أن يضيف إليها بضعة أبيات لتحديد المناسبة، أو الأسماء الواجب توافرها في القصيدة، وهكذا يفعل في قصائد الرثاء، فقد هيأ نفسه لكتابة أكثر من قصيدة يسبغ فيها على المرثي أنواعاً من الصفات الكريمة، والمآثر الحميدة، وحين تقع الفاجعة يُضيف إليها بضعة أبيات لتتناسب والحالة التي سيقف فيها الشاعر منشداً بين يدي ممدوحه، أو من يريد تقديم التعزية إليه.

والشاعر لا يرتجي تطوير فنه الشعري بقدر ما يرتجي عطايا ممدوحه، وهو يرفض أحياناً استحسان الممدوح لشعره، لأنه يطلب حسناته:

كلما قلتُ قالَ: أحسـنتَ قولاً

وبـ (أحسنتَ) لا يُباعُ الدقيقُ(1)

فإذا كانت مثل هذه الأفعال المشينة قد ارتُضيتْ آنذاك لأسبابٍ تعلَّقت بالحاجةِ، وقلّةِ الوعي، فهي الآن مستهجنة، وتزري بالشعرِ،وتحطّ من قيمة الشاعر الذي يمارسها،ويحقُّ لنا أن نعتبر فعلتَهُ (كما تفضَّلتِ) امتهاناً للفنِّ، وتكسّباً مشيناً.

س7- لماذا غادر الأستاذ الدكتور عبد الرضا علي العراق؟ ولماذا لم يفكر العودة إليه؟ ولماذا فضّل الاستقرار ببريطانيا؟

ج7 – انتقلتُ من جامعة الموصل إلى الجامعة المستنصريّة ببغداد في العام 1992، وحين باشرتُ بالوظيفة استدعاني عميد الكليّة، وأعلمني أنَّ تقريراً من جهةٍ عليا قد وصل للسيّد رئيسالجامعة يفيدُ أنَّ المنظَّمةَ السريّة لجمهوريّة الخوف غير راضيةٍ عنّي، وهي تحذّر رئيسالجامعة من خطورتي، فأجبته خائفاً مستغرباً: ما وصلكم عنّي ليسصحيحاً، ولعلَّ هذا التقرير يحملُ ضغينةً ، فأنا رجلٌ لا شأن لي بالسياسة، ومؤيّدٌ للنظام، ولستُ مرتبطاً بأيِّ تنظيمٍ، أو حزب، لذلك اسمح لي أن أزورَ رئيسالجامعة كي أتحقّق من الأمر، فربّما لم أكن أنا المقصود.

وحين ذهبتُ لمكتب رئيسالجامعة، وطلبتُ مقابلته أبقاني مدير المكتب أكثر من عشرين دقيقة، ثمَّ قال لي: يعتذر الرئيسعن مقابلتك اليوم، وسيستقبلك يوم الأحّد القادم، وهو اليوم المخصّص للمقابلات، فقلتُ له: بلّغه تحاياي، وشكري، وأدركتُ أنّهم يكيدون لي كيدا، فأسرعتُ إلى بيت شقيقتي،وكانت زوجي هناك، فأخبرتهما بما يضمرون، وتوجّهتُ مباشرةً إلى مرآب الحافلات ، وركبتُ المتجهة إلى الأردن، ومن الأردن توجّهتُ بالطائرة إلى اليمن، وعملتُ في جامعة صنعاء أستاذا لمادة الأدب العربي، ونقده، وإذا بجريدة (الزوراء) التي كان يرأسمجلسإدارتها عديّ صدام حسين تصدرُ بياناً تقسّم فيه الأدباء الذين غادروا العراق أقساماً ثلاثة: ضمَّ القسمُ الأول الأدباءَ الباحثين عن الرزق، و ضمَّ الثاني المتأرجحين (بمعنى أنهم مرّة مع النظام، وأخرى ضدّه) وضمَّ القسم الثالث الذين أسمتهم بالمرتدّين، وكنتُ ضمن هذا القسم ،أي أنّنا محكومون بالإعدام لارتدادنا عن النظام الدكتاتوري، مع أنّني لم أكن معارضاً، وهذا شرفٌ لا أدَّعيه.

وعملتُ عشر سنواتٍ في جامعة صنعاء، لكنَّ سفارة النظام العراقي في صنعاء لاحقتني بسبب كوني من المرتدّين، وكنتُ مراقباً من أزلامها، وحين شاركتُ في ملتقى السيّاب الذي أقامه معهد العالم العربي ببارس/ فرنسا في العام 1995م ، تمَّ استدعائي لمقابلة السفير العراقي الدكتورمحسن خليل، وحين قابلتُه علمتُ أنَّ تقريراً من أحد أزلام النظام قد رُفع إلى السفارة يدَّعي كذباً أنَّ ملتقى السياب الذي أقيم بباريسقد أقامته المعارضة العراقيّة في فرنسا، فضحكتُ، وقلتُ له : الذي أقام الملتقى معهد العالم العربي،وليسالمعارضة العراقيّة، والسفارة الفرنسيّة في صنعاء هي التي منحتني الفيزا، فكيفَ تصدّق هذه الوشاية الكاذبة يا دكتور !

وحين انتقل السفير إلى القاهرة ممثلاً للعراق في جامعة الدول العربيّة استدعاني القنصل ، والوزير المفوّض، لأنَّ كاتب التقرير الأول وهو دكتور يعمل بجهاز المخابرات العراقيّة واسمه (م . ب)، قد كتبَ عنّي تقريراً جديداً،...وبعد المقابلة أدركتُ أنَّهم يلاحقونني،وقد تتمُّ تصفيتي، وأنّ عليَّ أن أبحث عن منفى يقيني شرّهم، وأتنفسفيه هواء الحريّة، فكانت بريطانيا هي المنقذ.

وحين سقط الصنم، وعدتُ إلى بغداد في العام 2008م، هالني ما رأيتُ، فقد كان تنظيمُ القاعدة( وهم من التكفيريين) يقتلون كلَّ من يعمل في الدولة العراقيّة، وكان الصراع الطائفي قد اشتدَّ بين أبناءِ البلد الواحد، فضلاً عن التفجيرات الكثيرة التي جعلت الأمان مفقوداً، فعدتُ أدراجي، ومضى قطار العمر، ولم يعد سنّي مناسباً للعودة، والعمل الآن.

س8- انتقلت إلى العديد من الدّول.. أيّ الدّول العربية تراها أفضل ثقافة وأمانا..؟

ج8 – التي أفضل ثقافةً هي مصر أمّ الدنيا، ثمَّ تونسالخضراء،َ تليهما المملكة المغربيّة ، أمّا التي أكثر أماناً فهي سلطنة عُمان.

س9- الحبّ.. كم أحببت من مرّة..؟ هل يموت الحبّ بعد الحب الأول..؟ وأمنية لم تحقّقها..

ج9 – مرَّاتٍ عديدةً، لكنَّها كانت تجاربَ فاشلة، فانحسرَتْ، ويبدو أنَّ قولَ أبي تمّام في صدر مستهلِّ قصيدته: (أهنَّ عوادي يوسُفٍ وصواحِبُهْ) خيرُ ما يليقُ ذكرهُ هنا، علماً أنَّ علقمةَ الفحلَ وصفهنَّ أعظم توصيف بقولِه :

فإِنْ تَـسْأَلونِـي بِالنّسـاءِ فإِنَّـني

بَصِيــرٌ بأَدْوَاءِ النِّســاءِ طَبِيبُ

إِذَا شـاب رَأْسالمرءِ أَو قَلَّ مالُهُ

فليــسلهُ مـن وُدِّهِنَّ نَصِيـبُ

يُرِدْنَ ثَرَاءَ المـالِ حيـثُ عَلِمْـنَهُ

وشَـرْخُ الشَّبابِ عِندهُنَّ عَجِيـبُ

لكنَّ الحبَّ الأوّل يبقى خالداً، ولن يموت كما أزعم.

أمَّا الأمنية التي لم أحقّقها ، فهي إكمال مشروعي الثقافي الذي أخَّرتني عن إكماله كثرة الأسقام، وأوجاع الجسم.

س10- كلمة لم تقلها.. وتريد قولها.. !

ج10 – شكراً لمجالس همس الموج الرصينة، فهيَ التي عرَّفتني بـ الشاعرة السامقة سونيا عبد اللطيف.

حاورته: سونيا عبد اللطيف

................

إحــــــالات

(1) كتابنا :( قيثارة أورفيوس) ص:10-11.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم